مايو 2-إنقاذ 2: نقد ياسر عرمان للحركات المسلحة حيال المقاومة المدنية وثوراتها (2-2)
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
ما قامت ثورة في السودان، وبلغن ثلاث، واسقطت نظاماً من نظم دولة 56 وشكلت دولة فوق انقاضها حتى اعتزلتها حركات يومها المسلحة بزعم أنها نفس دولة عبود أو نميري أو البشير في قناني جديدة. وانكتب الفشل للثورة وحكومتها ليس لاعتزال هذه القوى المؤثرة عنهما فحسب، بل لأن هذه القوى عادت للحرب بعد توقف محدود. فاستدعت بذلك الجيش من ثكناته من جديد ليحيل المدنيين للاستيداع وليتعامل مع ما يحسن وهو الحرب.
كانت هذه العلاقة المربكة، والعقيم، بين المقاومة المدنية الغالبة في شمال السودان والمقاومة المسلحة في أطرافه مما انشغل بها ياسر عرمان، القيادي بالحركة الشعبية منذ عهد العقيد قرنق، بعد انقسام كبير ومؤسف في الحركة عام 2017. فكتب رسالة طويلة بعنوان “نحو ميلاد ثانٍ لرؤية السودان الجديد”. دعا فيها إلى أنه جاء الوقت لمراجعة تجربة الكفاح المسلح ورد الاعتبار للعمل السلمي الجماهيري دون أن يعني هذا التخلي عن هذا الكفاح. فلن تخرج الحركات المسلحة من عنق الزجاجة التي شرحها إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، في قوله، من دون التوصل إلى استنتاجات سليمة “حول أهمية العمل السلمي الديمقراطي في داخل المدن” واستنهاض جماهيرها. وركز ياسر على وجوب ارتهان السلاح بالوعي السياسي وبالديمقراطية في أداء الحركة المسلحة. فقال إنه عن طريق ضعف الوعي السياسي في الكفاح المسلح استطاع نظام الإنقاذ صناعة حروب لصالحه في الهامش ارتكبت خلالها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بيد جماعات زعمت التحرير. ونعى ياسر تجفيف الحركة المسلحة للديمقراطية في أدائها. فقال إن هيكل الحركات المسلحة التنظيمي اتسم بالعسكرة والتراتبية مما قلص مساحة الديمقراطية الداخلية، ومركز عملية اتخاذ القرار واحتكاره. وأسهم هذا “في خلق مناخ مواتٍ لانتشار الفساد الذي بدأ بالتلاعب في الإمدادات وعدم توزيعها بعدالة”. وهو فساد لم يبرحها حتى وهي في الحكم. وغابت بالنتيجة المحاسبة عملاً بالقاعدة في حركات التحرير “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، أي بالتركيز على العدو في الخارج، تاركين “مساحة للوحوش الداخلية لتنمو”. وساء الأمر بعدم ثقة قوى الريف في مناضلي المدن ممن التحقوا بالكفاح المسلح، بل “وعدم مساواة العضوية التي تناضل بوسائل غير الكفاح المسلح في الحقوق والواجبات”. وأدى هذا إلى تكلس الكفاح المسلح وتجمده مقتصراً على أساليبه الخشنة في ريفه “في غياب تام لوسائل العمل الناعم، مما أدى إلى نتائج سالبة على الكفاح المسلح نفسه”.
خلص عرمان في مراجعاته إلى رد الاعتبار للمقاومة المدنية التي كانت وراء ثورات المركز على دولة 56 التي صرفها ثوار الهامش كسمك يأكل بعضه بعضاً. بل رأى في استخفاف المسلحين بالمقاومة المدنية عرضاً من ضعف الوعي السياسي ذي عواقبه وخيمة على الثورة والحركات المسلحة. فاعتزال قرنق لثورة 1985، التي علقت الأمل عليه للانضمام إليها لترجيح كفتها في صراعها مع المجلس العسكري وغيره من القوى المحافظة، ساق بصورة أو أخرى إلى انقلاب 1989. فكان التجمع النقابي عشم في استصحاب ثقل قرنق السياسي كقائد دعا لوحدة البلاد في سودان جديد خلافاً لمن سبقوه من جنوب السودان ممن دعوا منذ 1955 لانفصال إقليمهم. وجسد قرنق بذلك رمزية طارئة ومبشرة من جنوب السودان الذي هو ثلث الوطن. فلم يجرد قرنق باعتزاله التجمع النقابي التجمع من ثقله السياسي ورمزيته فحسب، بل واصل الحرب على دولة الحكومة الانتقالية. فأنذر المجلس العسكري أسبوعاً يتخلى فيه عن الحكم وإلا عاد جيشه الشعبي للقتال. وعاد الجيش للقتال بالطبع. واشتدت ضراوته في 1988 وكان هو الكاسب على الجيش. فاضطر الأخير لتقديم مذكرة إلى رئيس الوزراء، الإمام الصادق المهدي، خيره فيها بإحسان تدبير عدة الجيش وعتاده، أو أن يجنح للتفاوض مع قرنق. وكانت المذكرة عبارة عن رخصة بالانقلاب لم يتأخر الإسلاميون، الذين لم تفتر همتهم في التعبئة للحرب في الجيش وبين الشعب ضد قرنق، من اهتبالها لينقلبوا على النظام الديمقراطي في يونيو 1989. وسقط حكمهم بثورة ديسمبر 2018 بعد 3 عقود من استبداد بالحكم.
قصراً للقول تصالح قرنق مع دولة الإنقاذ بعد ما عرف باتفاق السلام الشامل في 2005. وكنا تكبدنا خسائر كالخرائب: ضاعت منا ديمقراطية استردها الشعب بشق الأنفس بثورة 1985 ضد الرئيس نميري. فلم تكن من قوة سوى الجيش بوسعها التصدي لجيش تحرير السودان بعد إعلان قرنق الحرب على النظام الديمقراطي. ولم يلبث الجنوب جزءاً من السودان إلا قليلاً بعد اتفاق 2005. فأنتهز سانحة حق تقرير المصير التي كفلها الاتفاق وغادر الوطن في 2011. ولم تكن قسمة الوطن ما خرج قرنق له في 1983 بل كان استنفر أيضاً خلقاً سودانيين ملء البصر ليظاهروه في بناء سودان ما بعد 56 جديد وموحد ولكل أهله.
كانت بندقية الهامش، خلافاً لما يعتقد ناشطوه، عبئاً ثقيلاً على قضية هدم دولة 56 وإبدالها بدولة المواطنة السواسية. فلم تغير هذه البندقية أياً من الحكومات العسكرية (التي حكمت فينا 53 عاماً منذ استقلالنا في 56) التي خرجت للإطاحة بها في حين نجحت في ذلك المقاومة المدنية التي سوادها شماليون مظنون أنهم متواطئون مع دولة 56. وربما كان في خروج الدعم السريع، الذي هو صناعة استثنائية لدولة 56، مما ربما نبه هؤلاء الناشطين في دارفور بالذات، ممن ذاقوا الويل على يد الدعم السريع خلال حكومة البشير وهم يكافحون لتغيير دولة 56، إلى النهايات العبثية لفكرة اعتقدت أن خلاصها في بندقيتها وماعدا ذلك باطل وقبض ريح.
فلم تتعرض دولة 56 لمثل ما تتعرض له اليوم من مساءلة قوات الدعم السريع لها ومطاعنتها بحد السلاح الذي لم يسبق له أن أحدق بعاصمة البلاد مثل ما يفعل اليوم.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الکفاح المسلح دولة 56
إقرأ أيضاً:
العبدلي: مدينة الزاوية تعاني من تغول الميليشيات التي تدّعي الشرعية لكنها تهدر ثروات ليبيا
ليبيا – اعتبر المحلل السياسي الليبي، حسام الدين العبدلي، أن الأوضاع في مدينة الزاوية تعكس مشكلة مستمرة تتمثل في تغول الميليشيات المسلحة واندلاع اشتباكات بينها، مشيراً إلى أن هذه المجموعات لا تأتمر بأوامر الدولة.
تمركز الميليشيات وتهديد الموارد الوطنية
وفي تصريحات خاصة لموقع “إرم نيوز“، قال العبدلي إن هذه الميليشيات أصبحت تمارس أنشطة إجرامية منظمة، مشيراً إلى ما حدث مؤخراً بالقرب من مصفاة مليتة، حيث تسببت الاشتباكات في اندلاع حريق في خزانات نفطية. ووصف هذا الأمر بأنه خطر جسيم يؤدي إلى هدر مقدرات الشعب الليبي.
وأضاف العبدلي: “الموارد الوطنية تتبع الدولة الليبية، وهي ملك للشعب الليبي، وتمركز الميليشيات بالقرب من هذه الموارد يشكّل تهديداً كبيراً”.
مجموعات مسلحة خارج السيطرة
وأشار العبدلي إلى أن هذه المجموعات المسلحة تدّعي شرعيتها من الحكومة أو الدولة، لكنها في الواقع مجموعات إجرامية لا تخضع لسيطرة الدولة، مما يجعل وجودها بالقرب من المنشآت الحيوية خطراً حقيقياً على مستقبل البلاد واقتصادها.