"نخوض حربا غير متماثلة، لكنها ستُدرَّس في العالم وسيُخلدها التاريخ".

أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس

لم يكن "طوفان الأقصى" وما تبعه من حرب ضروس بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال سوى حرب غير متماثلة أخرى (Asymmetric Warfare) انضمت إلى قائمة طويلة من الحروب الشبيهة.

وعادة ما يُطلق مصطلح الحرب غير المتماثلة على الحروب التي تنشب بين خصمين تختلف قوتهما العسكرية النسبية بوضوح، ويلجأ فيها أحدهما إلى تكتيكات غير تقليدية لجسر فوارق القوة، وهو ما يحدث حين تضطر جماعة مقاومة أو فصيل مسلح خوض مواجهة مع جيش نظامي أكثر احترافا وتطورا.

في حالة غزة تحديدا، لم تكن إسرائيل تتخيل يوما أن يخوض جيشها المشحوذ بالعدة والعتاد والأكثر تطورا تقنيا حرب استنزاف خاسرة بهذا الشكل ضد طرف أضعف منها يعتمد على إستراتيجيات حروب العصابات لتعويض فوارق القوة، ويُوجِّه الضربات الموجِعة للاحتلال عبر تكتيكات غير تقليدية أطالت زمن القتال فوق التسعين يوما. ورغم أن الفصائل الفلسطينية مجتمعة لا تكاد تمتلك دعما يُذكر، مقارنة بالدعم الأميركي لإسرائيل البالغ 3.8 مليارات دولار سنويا، فإن رجالها البالغ عددهم من 25 إلى 40 ألف مقاتل استطاعوا فرض السيطرة في المعارك وتحديد مسارها (1).

يقودنا ذلك إلى مقارنة فرضت نفسها منذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى" بين الحرب الحالية وبين حرب أكتوبر عام 1973. فرغم أن تلك الأخيرة لم تكن حربا غير متماثلة بالمعنى التقليدي لأنها دارت بين جيشين نظاميين، فإنها انطوت على تحديات مماثلة بالنسبة إلى الجيش المصري الذي كان متراجعا من الناحية التقنية مقارنة بالاحتلال الإسرائيلي. فما دروس الحرب التي خاضها الجيش المصري ضد إسرائيل عام 1973؟ وكيف تتشابه مع حرب غزة الجارية؟

 

6 أكتوبر 1973: حرب غير متكافئة صُنِّف "خط بارليف" آنذاك بأنه واحد من أعقد السواتر غير الطبيعية في العالم. (ذاكرة مصر المعاصرة)

"كانت إسرائيل تتفوق علينا في كل شيء تفوقا ساحقا".

مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973

حين تولَّى الفريق سعد الدين الشاذلي قيادة أركان الجيش المصري عام 1971، عاش الرجل -كما وصف في مذكراته- شعورا بالقلق ظل مُلازِما له حتى الساعات الأولى للمعركة بعد أكثر من عاميْن، إذ طُلب منه تنظيم قوات مسلحة قوامها مليون ضابط وجندي في مواجهة جيش أكثر جاهزية (2). ويعترف الرجل أنه حين استلم منصبه كانت إسرائيل تتفوق على الجيش المصري تفوقا ساحقا من الناحية التقنية، وفوق كل ذلك عانى الجميع من الآثار النفسية لهزيمة 1967، ولذا فإن "الحرب القادمة وَجَب أن تكون مخاطرة محسوبة، وألا تكون بأي حال من الأحوال نوعا من أنواع المقامرة". ولم يكُن الجيش المصري يمتلك أي خطة هجومية في مطلع السبعينيات تتماشى مع الإمكانات الفعلية للجيش، فعلاوة على الشكوك التي راودت البعض بشأن تحقيق النصر، يقول الشاذلي في مذكراته إن بعض القادة كانوا يفترضون امتلاك القوات المصرية إمكانات غير موجودة واقعيا.

بحسب الدراسة التي نشرها رئيس الأركان المصري حول الإمكانات الفعلية للجيش، ومقارنتها بالمعلومات المتوفرة عن قوة العدو لوضع خطة تقود إلى توازن في القوة، فإن أكبر نقاط ضعف الجيش المصري كانت القوات الجوية، التي كانت متراجعة جدا إذا ما قورنت بقوات العدو، ولا تستطيع أن تقدم أي غطاء جوي للقوات البرية إذا ما شنَّت الأخيرة هجوما عبر أراضي سيناء المكشوفة، كما أنها غير قادرة على توجيه ضربة جوية مركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة في عمق العدو (3).

يقول الشاذلي في مذكراته: "كان الطيارون المصريون يلقون بأسباب فشلهم في هذه الاشتباكات على عدم كفاءة الطائرة ميج 21، في حين كان الخبراء السوفييت الذين تعهدوا بتدريب الجيش المصري آنذاك يلقون باللوم على الطيارين المصريين، بينما رأى رئيس الأركان أن سبب الفشل يعود إلى كلٍّ من الطيار والطائرة، إلى جانب ظروف القتال غير المتكافئة. وبخلاف أن الطائرات المصرية كانت أقل كفاءة من حيث المدى وقوة التسليح والتجهيز بالأسلحة الإلكترونية، كانت خبرة معظم الطيارين المصريين تقل عن 1000 ساعة طيران، في حين كان متوسط خبرة الطيار الإسرائيلي تزيد على 2000 ساعة" (4).

ورغم أن الدفاعات الجوية يمكن أن تحيد القوة الهجومية لطائرات العدو، فإنها لا تمنح صاحبها ميزانية هجومية. بالإضافة إلى ذلك، كانت صواريخ "سام" الروسية التي يستخدمها الجيش المصري كبيرة الحجم، وثقيلة الوزن، وبطيئة الحركة، وإذا ما غامر الجيش بإخراجها من الملاجئ لمرافقة القوات البرية، فإنها تصبح بلا شك فريسة سهلة لقوات العدو سواء من الطيران أو المدفعية. وبالحديث عن المدفعية المصرية، فإنها كانت وفق التقديرات الرسمية قوة مكافئة ومجابهة لجيش الاحتلال، لكنها كانت بلا فائدة هجومية نظرا لاختباء العدو خلف حصن دفاعي هو "خط بارليف"، الذي صُنِّف آنذاك واحدا من أعقد السواتر غير الطبيعية في العالم.

لم تكن المدفعية المصرية ولا حتى القوات البرية قادرة على أداء مهامها في ظل تجهيزات الساتر الترابي الذي جعل الاحتلال قادرا على تحمل القذائف الثقيلة دون أن يتأثر بالقصف. ولم يكن في وسع القادة المصريين تطوير خطة هجومية عبر الاستعانة بالبحرية المصرية التي كانت بالفعل أقوى من نظيرتها الإسرائيلية بسبب ضعف القوات الجوية، لا سيَّما وكان بوسع الاحتلال الإسرائيلي أن يتجول في البحر الأحمر وخليج السويس ببعض الزوارق الصغيرة معتمدا على غطاء سلاح الطيران الخاص به.

 

معضلة التفوق الإسرائيلي لم تكن التجهيزات الأرضية مصدر القوة الأول لإسرائيل، إذ كان هناك أيضا فارق قوى في سلاح الجو منح الاحتلال اليد العليا. (أسوشيتد برس)

بحسب تقارير الاستخبارات الأميركية المرفوع عنها السرية بخصوص حرب أكتوبر، تمتعت إسرائيل بدعم لا نهائي من واشنطن، في الوقت نفسه الذي لعب فيه الاتحاد السوفيتي دورا في بناء القوات المصرية والسورية، عبر إرسال مئات المستشارين، فضلا عن العتاد الذي شمل الطيران والمدفعية. ومع ذلك، اطمأنت إسرائيل وواشنطن إلى بقاء التفوق الإسرائيلي وقتا طويلا، وكانت بواعث الطمأنينة مصدرها التفوق الجوي من جهة، والثقة في الدفاعات على الأرض من جهة (5).

تتأسس عقيدة دفاع الاحتلال على فلسفة لم تتغير، وهي المبالغة في التحصينات العسكرية المادية بُغية تقليل الخسائر في الأرواح إلى الحد الأدنى، حيث تسبب خسارة العنصر البشري ضغطا كبيرا بالنظر إلى أن الجيش نفسه أضعف من أن يخوض حربا متعددة الجبهات وحده دون الاستعانة بقوات الاحتياط، التي تستنزف الكفاءات من سوق العمل.

قبل حرب أكتوبر، اصطفت شبكة الدفاع الإسرائيلية على عمق عشرين كيلومترا داخل سيناء، ووُضع في الخط الأول مباشرة على قناة السويس ساتر ترابي بارتفاع 22 مترا، ينحدر بزاوية 45 درجة لتصعيب مهمة تسلُّقه، ووُضِعَت في قلبه 20 نقطة حصينة فوقها مصاطب ثابتة للدبابات. أما في قاعدة خط بارليف، فثبَّتت إسرائيل أنابيب تصُب في قناة السويس لإشعال سطح القناة بالنابالم في حال حاولت القوات المصرية العبور. وفي الخلف من تلك الشبكة، وضع الاحتلال 120 دبابة في حالة استعداد لإبادة أي قوات مهاجمة، وكانت الدبابات مجهزة بمدافع متطورة وأنظمة حماية فعالة، عكس أغلب الدبابات المصرية سوفيتية الصنع من طراز "تي 55" و"تي 62″، وكان للجيش الإسرائيلي نظام قوي من المدفعية والصواريخ، بما في ذلك الهاون وصواريخ هوك الأميركية، وأنظمة صواريخ باتريوت الصاروخية المتقدمة، وصاروخ "تاو" صائد الدبابات.

رغم القوة الضاربة لتلك الأسلحة، لم تكن التجهيزات الأرضية مصدر القوة الأول لإسرائيل، إذ كان هناك أيضا فارق قوى في سلاح الجو منح الاحتلال اليد العليا. ففي مواجهة الطائرات المصرية من طراز "ميج"، كانت مقاتلات فانتوم "إف 4" الأميركية رأس الحربة للقوات الجوية الإسرائيلية التي كانت تهاجم قواعد الصواريخ والمطارات المصرية والسورية. وبحسب أرشيف السياسة الخارجية الأميركية، تردَّدت واشنطن طويلا قبل تزويد إسرائيل بتلك المقاتلات المتطورة عقب حرب 1967، لإدراكها أن قلب معادلة القوة يمكن أن يثير غضب الاتحاد السوفيتي، ولم تكن الولايات المتحدة تسعى لإشعال الشرق الأوسط في الأخير (7).

 

إدارة الحرب غير المتكافئة الصور الرسمية لغرفة عمليات حرب أكتوبر (موقع السادات/جامعة الإسكندرية)

بحسب التوجيه 41 (الكُتيِّب الذي تضمَّن خطة حرب 1973)، كانت هناك 132 مشكلة تقف أمام مخطط الهجوم المصري، أبرزها خط بارليف والتفوق الجوي كما أسلفنا، ما دفع الشاذلي صراحة للقول في مذكراته: "ونتيجة لهذه الدراسة، فقد ظهر لي أنه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلى تدمير قوات العدو، وإرغامه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وأن إمكاناتنا الفعلية قد تُمكِّننا إذا أحسنا تجهيزها وتنظيمها من أن نقوم بعملية هجومية محددة تهدف إلى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلاله، ثم التحول بعد ذلك للدفاع، واتخاذ أوضاع دفاعية بمسافة تتراوح بين 10 إلى 12 كم شرق القناة" (8).

لم تُخفِ الوثائق العسكرية انقسام ضباط الصف الأول في الجيش المصري حول خطة الشاذلي، بين عدم الاقتناع بها، أو التشكيك في نجاعتها. وجاء الانتقاد من وزير الدفاع الأسبق الفريق محمد صادق، الذي عارض الخطة واعتبر أنها لن تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، فهي تُبقي ما يزيد على 60 ألف كيلومتر مربع من سيناء مع قطاع غزة تحت الاحتلال، وقد اعتقد "صادق" مع عدد من قادة الجيش أنهم لن يستطيعوا خوض حرب غير متماثلة لأنهم سيكونون حينئذ تحت رحمة العدو، وأن وجود سلاح روسي شرط الوصول إلى نقطة توازن، ما كان يعني الانتظار سنوات دون أمل (9).

لكن الرئيس المصري أنور السادات حسم أمره بالاشتباك، ومضى الجيش المصري في الإعداد لخطة الهجوم انطلاقا من قناعة بأنه لن يستطيع خوض حرب شاملة أو إلحاق هزيمة كاملة بالعدو. وقد بنى الجيش المصري إستراتيجيته على إرغام إسرائيل على القتال في ظروف غير مناسبة لها، وإجبارها على تعبئة جيشها لمدة طويلة، لا سيَّما أن قوات الاحتياط كانت تمثل في ذلك الوقت نحو ربع سكانها. كما استفادت مصر من أخطاء حرب 1967، حيث اكتشفت نقطتيْ ضعف رئيسيَّتيْن، أولها أن سلاح الطيران غير قادر على توفير الحماية للقوات البرية، وثانيها ضرورة استبدال العربات ذات العجلات التي لا تمتلك القدرة على السير في الرمال، لأنها تضطر للخروج عن الطريق، فتصبح عرضة للقصف أو الغرز.

في أحداث مشابهة لـ"طوفان الأقصى"، لم يضع الجيش المصري ثقته في التكنولوجيا، اكتفى بخراطيم المياه لهدم خط بارليف الذي ظنت إسرائيل أنه يحتاج إلى تكنولوجيا لا تمتلكها مصر. (مواقع التواصل)

ولتقليل كفاءة الطائرات الإسرائيلية، عمد الشاذلي إلى تفريق فرق المشاة، وجعلها تعبر على طول القناة، ما أجبر الطيران على توزيع هجماته بدلا من التركيز على نقاط بعينها، وكفلت تلك الإستراتيجية الحماية الكاملة للجنود المصريين الذي أصبحوا تحت حماية الصواريخ المضادة للطائرات المنتشرة على طول الجبهة. وفي وقت فشلت فيه الطائرات الإسرائيلية في تحقيق أهدافها، واجهت أطقم الدبابات مفاجأة أخرى على الأرض، حيث بنى الجيش المصري خطته على أن يدفع بالمشاة الذين يحملون صواريخ مضادة للدبابات محمولة على الكتف، وهي صدمة لم تستطع إسرائيل التعامل معها، لأنها أهملت تلك النوعية من الصواريخ بسبب الثقة في دباباتها المتطورة، وهي تكتيك مماثل لما تفعله المقاومة الفلسطينية اليوم بأسلحة مثل قذائف الياسين والهاون والعبوات الناسفة (10) (11).

 

في أحداث مشابهة لـ"طوفان الأقصى"، لم يضع الجيش المصري ثقته في التكنولوجيا، إذ إنه امتلك أدوات أقل كفاءة من نظيره الإسرائيلي، فاعتمد لغة إشارة غير مفهومة لم يستطع أحد فهمها، حتى جنود الجيش ‏المصري أنفسهم‏، واستخدمها حصرا في الحرب، كما اكتفى بخراطيم المياه لهدم خط بارليف الذي ظنت إسرائيل أنه يحتاج إلى تكنولوجيا لا تمتلكها مصر. ورغم أن الحرب بدأت بشكل غير متكافئ، فإن مصر استطاعت الوصول إلى نقطة توازن في القوة، ونجحت في تعويض الفارق وحققت تقدما عسكريا في الأسبوع الأول. ورغم تحقيق جيش الاحتلال تقدُّما لاحقا من خلال ما عُرف بـ"ثغرة الدفرسوار"، فإن القوات المصرية والسورية استعادت زمام المبادرة، حتى ضغطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على طرفي الصراع للقبول بوقف إطلاق النار في نهاية أكتوبر/تشرين الأول.

في الختام، يوضح الشاذلي تكتيكه في تطوير الهجوم المصري قائلا: "لقد نجحت قواتنا البرية في اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف بينما كانت كتائب صواريخ الدفاع الجوي تحمي سماء قواتنا المُهاجمة.. وتوفر لقواتنا الحماية ضد هجمات العدو الجوية حتى مسافة 10 إلى 15 كيلومترا شرقي القناة، وحيث إن احتلال المضايق كان يحتم علينا التقدم عبر سيناء نحو 50 كيلومترا، فإن التقدم عبر هذه المسافة دون حماية جوية ودون توافر وسائل الدفاع الجوي ذاتية الحركة سوف يُعرِّض قواتنا البرية للتدمير بواسطة القوات الجوية المعادية، حيث إن المعركة في هذه الحالة ستكون معركة غير متكافئة" (12).

——————————————————————

المصادر Palestinian Factions: Hamas and PIJ. مذكرات حرب أكتوبر، الفريق سعد الدين الشاذلي، ص20. Analysis | Israel Air Force’s Relative Failure in Yom Kippur War Comes to Light. مذكرات حرب أكتوبر، الفريق سعد الدين الشاذلي، ص7. ASSESSMENT OF THE WEAPONS AND TACTICS USED IN THE OCTOBER 1973 MIDDLE EAST WAR. Soviet Policy in the October 1973 War. Phantom Fracas: The 1968 American Sale of F-4 Aircraft to Israel. شخصيات فى حياتى (5)، الفريق سعد الدين الشاذلي. ‘If that doesn’t help, resort to extreme measures’: The nuclear secrets of the Yom Kippur War exposed. Air Operations During The 1973 Arab-Israeli War And The Implications For Marine Aviation. Tank Clash in the Sinai. مذكرات حرب أكتوبر، الفريق سعد الدين الشاذلي، ص338.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القوات المصریة الجیش المصری طوفان الأقصى قناة السویس فی مذکراته حرب أکتوبر خط بارلیف حرب غیر ن الجیش لم تکن

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر: كان "النبي محمدﷺ" رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة

أكد الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن المتأمل في صفات رسول الله محمد ﷺ؛ يحار فلا يدري بأيها يبدأ ولا بأيها يختم، ولا ماذا يأخذ من هذا الوابل الصيب من صفات الجمال وصفات الجلال، ولا ماذا يدع... وكيف لا! وقد وصف الله سعة أخلاقه الشريفة بوصف العظم، فقال في كتابه الكريم: "وإنك لعلى خلق عظيم"، كما وصفته أخبر الناس به، زوجه السيدة عائشة أم المؤمنين - حين سئلت عن أخلاقه، فقالت: «كان خلقه القرآن»، مبينا أنها -رضوان الله عليها- قد أدركت الأفق المتعالي لهذا الخلق النبوي، وصعوبة بيانه للناس: عدا وحصرا واستقصاء، فأحالت البيان إلى أخلاق القرآن الكريم، وما بينها وبين أخلاقه -صلوات الله وسلامه عليه- من تطابق وتماثل، وبما يعني أن الخلق القرآني إذا لم تكن له نهاية في حسنه وكماله، فكذلك «الخلق المحمدي» لا نهاية لحسنه وكمالاته، ولا حدود لسعته واستيعابه العالمين بأسرهم.

وأوضح شيخ الأزهر خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، والمنعقد بمركز المنارة للمؤتمرات الدولية بالتجمع الخامس، وتنظمه وزارة الأوقاف بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، أن المطابقة بين أخلاق القرآن الكريم وأخلاقه ﷺ هي السر في اختصاص نبي الإسلام برسالة تختلف عن الرسالات السابقة، حيث جاءت رسالة خاتمة للرسالات الإلهية، ورسالة عامة تتسع للعالمين جميعا: إنسا وجنا، وزمانا ومكانا؛ بينما جاءت الرسالات السابقة رسالات محدودة بأقوام بعينهم وفي زمان معين ومكان محدد لا تتجاوزه لمكان آخر.

وبين فضيلته أن أخلاق محمد ﷺ وإن تنوعت عددا ومنزلة وعلو درجة وكمال شأن، حتى وصف بالإنسان الكامل - فإن صفة من صفاته هذه قد انفردت بالذكر في القرآن الكريم، وهي: صفة «الرحمة» التي وصف بها ﷺ في قوله تعالى في آواخر سورة التوبة، في معرض الامتنان الإلهي على المؤمنين، حيث بعث فيهم رسولا منهم، وصفه بأنه حريص على هدايتهم، وأنه «رؤوف رحيم» بهم، ثم ذكرت صفة «الرحمة» مرة ثانية في قوله تعالى في آواخر سورة الأنبياء: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وجاءت بأسلوب القصر الذي يدل على أن هذا الرسول اتحد ذاتا وأفعالا بصفة: «الرحمة» حتى صارت سجية راسخة متمكنة في مشاعره، ومتغلغلة في أطوائه، ومسيطرة على تصرفاته.

وتابع شيخ الأزهر أنه ﷺ قد أكد اتصافه بالرحمة بقوله في سنته الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة»، وطبقه في كل تصرفاته مع البشر ومع جميع الكائنات والمخلوقات، وكان ينزع في كل تصرف من تصرفاته من معين هذه «الرحمة» التي فطره الله عليها، وألان بها قلبه، وكان ذلك من أقوى أسباب دخول المشركين في الإسلام: "فبما رحمة من الله لنت لهم.."، بل إنه كان رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة بين الأمم والشعوب.

وأشار فضيلته إلى أن أول ما يطالعنا من تجليات الرحمة النبوية في مواطن الحروب والاقتتال هو: أن القتال في شريعة الإسلام لا يباح للمسلمين إلا إذا كان لرد عدوان على حياتهم أو دينهم أو أرضهم أو عرضهم أو مالهم، أو غير ذلك مما يدخل تحت معنى: «العدوان» بمفهومه الواسع، أما القتال نفسه، أو حرب العدو، أو: الصراع المسلح، فله في شريعة الإسلام خطر وأي خطر، وله قواعد وضوابط وتشريعات شرعها الله تعالى!، وطبقها رسوله ﷺ تطبيقا عمليا وهو يقود بنفسه جيوش المسلمين في معاركهم مع أعدائهم، وأمر أمته بالتقيد بها كلما اضطرتهم ظروفهم وألجأتهم إلى مواجهة عدوهم..

وأوضح شيخ الأزهر أن أول ما يلفت النظر من قواعد الاقتتال لرد العدوان في الشريعة الإسلامية: قاعدة «العدل»، وهي قاعدة كلية بعيدة الغور في شريعة الإسلام، أمر الله بالالتزام بها في معاملة الصديق والعدو على السواء: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، ثم إن قاعدة العدل هذه تستدعي قاعدة ثانية تلازمها ولا تفارقها في أي تطبيق، وهي قاعدة: «المعاملة بالمثل» والتي تعني أول ما تعني حرمة تجاوز حدود العدل إلى حدود الظلم والعدوان على الغير، يتبين ذلك من قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به  ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".

وتابع فضيلته أن من قواعد الإسلام العامة في القتال التزام مبدأ «الفضيلة» ومبدأ «الإحسان» الذي كتبه الله على كل شيء سواء تعلق هذا الشيء بالإنسان أو بالحيوان، وقد ترجم أمراء المسلمين وقادة جيوشهم، مبدأ «الفضيلة» هذا إلى لوحة شرف في قوانين الحروب، لا يعرف التاريخ لها نظيرا في غير معارك المسلمين، وها هو الخليفة الأول، أبو بكر "رضي الله عنه" يودع قائد جيشه إلى الشام ويقول له: «أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجبنوا، ولا تهدموا بيعة- أي: كنيسة أو معبدا.."

وأضاف شيخ الأزهر أن صورة القتال في الإسلام لا تكتمل دون الإلمام بصورة «الأسرى» في الحروب الإسلامية، لافتا إلى أن فقه «الأسير» في الإسلام يدور على أمرين لا ثالث لهما، حددهما القرآن الكريم في قوله تعالى: "فإما منا بعد وإما فداء"، والمن على الأسير هو إطلاق سراحه وتحريره بغير عوض ولا فدية، أما فداؤه فهو تحريره وإطلاق سراحه مقابل فدية يدفعها هو أو تدفع له، مبينا أن الأسير الذي يأسره المسلمون من جيش العدو يحرم على المسلمين قتله، كما تدل الأحكام الفقهية على وجوب إطعام الأسير، ووجوب الإحسان في معاملته، وحمايته من الحر والبرد، وتوفير ما يكفيه من كسوة وملابس، وإزالة كل ما يصيبهم من ضرر، ووجوب «احترام مراكزهم وكرامتهم الشخصية حسب مكانة كل فرد منهم»، مستلهمين في ذلك إلى دعوته ﷺ للرفق بالناس في قوله: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» وقوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».

وأوضح فضيلته "ما أظنني في حاجة بعد ما سمعناه في شأن الحرب في الإسلام، وهو قليل من كثير - إلى عقد مقارنة أو مناظرة بين الحرب في شريعة الإسلام ونموذجها الإنساني الرفيع، وبين الصورة البشعة للحرب الحديثة في القرن الواحد والعشرين، والتي آل أمرها إلى إبادات جماعية ومجازر همجية وجرائم منكرة، ترتكب ضد شعوب مضطهدة تخلى عالمنا القوي المتحضر عن نصرتها، والوقوف إلى جوارها، وصمت صمت القبور عن آلامها وصرخاتها، ثم راح يشمر عن ساعد الجد ليتصدق على هذه الشعوب البائسة بكلمات عزاء فارغة لا تقول شيئا، أو بمشاعر باردة تذكر بمشاعر القاتل الذي يمشي في جنازة قتيله ويتقبل عزاء الناس فيه، فالمقارنة في هذا المقام مضللة ومزيفة لكل نتيجة تنتجها مقدماتها".

واختتم شيخ الأزهر "حسبنا أن نعلم من جديد أنه لا يصح في حكم العقل أن نقارن بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبح، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين قانون الغاب والأحراش، والدرس الذي يجب أن نذكر به مع تجدد ذكرى المولد النبوي هو تجديد وعي هذه الأمة بذاتها وتاريخها العريق المشرف، وقدراتها المادية والروحية، وطاقاتها الخلاقة، وأن تكون على يقين من أنها تملك دواءها إن أرادت، وأن تكون على ذكر دائم من قوله صلى الله عليه وسلم في شأن أمته: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها.."، وأن تبذل قصارى الجهد للتضامن مع أطفال غزة ونسائها وشبابها وشيوخها، ومع شعوبنا في السودان واليمن وغيرها، وأن نعلم أن ذلك ليس منة يمن بها على هذه الشعوب المعذبة في الأرض، وإنما هو واجب القرابة في الدين، وصلة الدم والرحم والمصير المشترك".

مقالات مشابهة

  • بلينكن يزور مصر في أول زيارة إلى الشرق الأوسط لا تشمل إسرائيل منذ 7 أكتوبر
  • شيخ الأزهر: كان "النبي محمدﷺ" رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة
  • شيخ الأزهر: كان محمد ﷺ رحمة للناس حتى في مواطن الحروب والاقتتال والصراعات المسلحة
  • إسرائيل تعلن عودة اللواء الخامس للقتال وسط غزة للمرة الثانية منذ 7 أكتوبر
  • "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثاني على شاشة "الوثائقية" احتفاءً بذكرى نصر أكتوبر
  • صور خاصة للجزيرة تظهر إغراق الجيش المصري أنفاقا على حدود غزة
  • «أنا حاربت إسرائيل».. الموسم الثاني على شاشة «الوثائقية» احتفاءً بنصر أكتوبر
  • صحيفة لندنية: الحوثيون يستعملون صاروخا "فرط صوتي" ضد إسرائيل ويتجاوز أنظمة الدفاع الأمريكية الأكثر تطورا بعد روسيا ولثاني مرة في تاريخ الحروب
  • صور تظهر الجيش المصري يغرق أنفاقا مع غزة قبل 5 سنوات
  • الجيش المصري العظيم و الهوية الوطنية والعربية