قصة حب فاشلة صنعت الشاعر الكبير ألفريد دي موسيه
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
متابعة بتجــرد: ألفريد دي موسيه.. شاعرٌ فرنسي يفيض شعره رقة وعذوبة، أصالة فنه لا تزال تعجب القراء حتى يومنا هذا، في شعره نلمس فلسفةً تنير السطور وتغزو القلوب، إنه الرومانسي الذي ملأ الدنيا بأشعاره وعرفته فرنسا كلها ثم عرفه العالم من خلالها..
وهكذا اكتسبت باريس شاعرًا يخلد اسمها، واكتسبت الثقافة الإنسانية ذلك الفنان الذي يعزف قيثارة الروح فيطير بنا فوق هذه الأرض التي امتلأت شراً وصخبًا.
وما تعرض له ألفريد يتعرض له ألوف البشر يوميًا على مستوى العالم؛ غير أن الفارق بين الشاعر وبين الرجل العادي، أن الفنان يجسد مشاعره ويخرجها لنا في تحفة فنية تضيف إلينا؛ أما الرجل العادي فإنه يحتفظ بتجربته لنفسه لأنه لا يحسن التعبير عنها بلغة الفن، وإن عبر عنها لأصدقاءه ومعارفه بلغة الحكي إلا أنه حكي لا يقدم ولا يؤخر، لأنه لم ينفذ إلى ما واء السطور ولم يتعمق في الأغوار.
لقد مر دي موسيه بتجربة عاطفية عاصفة تركت بصماتها واضحة على حياته وعلى فنه، وهي تجربة كانت كفيلة بسحقه؛ إذ خرج منها محطم النفس؛ غير أنها صنعت منه شاعرًا كبيرًا، بعد أن كان يحاول الانتحار تارةً والهروب إلى الدير أخرى، لقد تعلم أن الحياة أوسع من اليأس وأن نهاية الحب لا تعني نهاية العمر، وأنه بوسع الإنسان أن يتعرف إلى ذاته من خلال عمله أو فنه، وأن الانحدار نحو القاع هو سبيل الصعود إلى القمة.
في ليلةٍ ظلماء والهواء البارد يتسلل إلى العظام فيدقها ويطحنها حتى إذا وهنت القوى وتحطمت الأعصاب وصار أمل كل عابر في الطريق أن يجد له مأوى يحميه من طعنات البرد وأنياب الظلام، سار دي موسيه يعتصره اليأس والشعور بالضياع نحو الدير ليقضي فيه بقية عمره، ولم يكن يدري حينها أن قُرَّاءَه سيتوجونه ملكًا على قلوبهم التي امتلكها بأرق الأشعار.
كانت بدايته شابًا مستهتراً يعبث بشبابه بين أحضان الغواني، ثم تاقت نفسه إلى تجربة عاطفية نبيلة وحب حقيقي مع امرأة تكون شريكته ومأواه، تكون حبيبته وأخته، تكون له روحًا ويكون لها حياة، وما كان إلا عن قليل حتى التقى بالأديبة جورج صاند وهي كاتبة روائية وصحفية وصاحبة صالون أدبي ومؤلفة وملحنة! واسمها الحقيقي أمانتين أورو لوسيل دوبين وقد ولدت في الأول من يوليو/تموز لعام 1804، وتوفيت في الثامن من يونيو سنة 1876.
وشعر دي موسيه أن الحظ يبتسم له، ولم لا؟ إنها امرأة مثقفة، أديبة مولعة بالفن، مجربة كانت لها علاقات قبله، غير أنها تتوق مثله إلى حب حقيقي وليس إلى تسلية عابرة، ورأت في دي موسيه طيبة وبساطة، وتم المراد فالتقى الحبيبان وقررا أن يعيشا لبعض الوقت في البندقية أو “فينيسيا” الإيطالية.
وظن ألفريد أن صاند أصبحت أسيرة هواه، وأنها لن تستطيع الحياة بدونه، ولم يكن يدري أنها تعبت من عبثه مع الفتيات، وتفاهة ما يفعله وهو الذي يفترض أنه تعرف إليها حتى يستقر، ولما رأت صاند أنه يخونها انطلقت هي الأخرى تلهو بلا رادع وتظهر من العبث ما تكيد به شريكها الخائن، وأفاق دي موسيه على الواقع المر، واكتشف أن ما يربطه بـصاند ليس هو ذلك الحب الطاهر الذي تمناه، ورأت صاند في المقابل أن دي موسيه لا يختلف عن الرجال الذين عرفتهم قبله والذين عرفتهم بعده.. في الواقع إذا كنا نحترم ما يقدمه أدباء الغرب من أدبٍ رفيع فلا يمكن أن نحترم علاقاتهم التي حرمتها الأديان والشرائع.
ونزل دي موسيه من عين الأديبة الفرنسية، حيث شعرت أن هذا الرجل ليس هو من تعيش به وله، واستولى المرض على العاشق المهزوم، فجاءت له بالطبيب، وحتى تتم دورة التعاسة كان الطبيب وسيمًا، وكانت صاند لا تني تنظر إليه بينما حبيبها – سابقًا- راقدٌ على فراشه ليس له من الأمر شيء، ويلحظ دي موسيه تلك النظرات الشهوانية المتبادلة بين شريكته وبين الطبيب الوسيم واسمه باجيلو فلا يستطيع التحمل، ويهرب الشاعر من فراشه ثم يركض على غير هدى في شوارع البندقية.
وحين وصل إلى الدير قابله رئيس الرهبان، وفهم رجل الدين المُحَنَّك أن الشاعر قدم إلى الدير هاربًا من تجربة حياتية صعبة وصدمة عاطفية، فنصحه أن يعود إلى الحياة، وأن ينسى حبه فهو ليس نهاية العالم، وأن ينغمس في عمله، وأشار عليه أن يتخذ من قصته الغرامية منطلقًا لأشعاره، واقتنع الشاعر، فعاد إلى منزله وجمع ثيابه في حقيبته، وخرج من البيت الهادئ تاركًا حبيبته السابقة نائمة في فراشها.
عاد الشاعر إلى فرنسا، ليخرج مجموعاته الشعرية، ويشترك في الأمسيات ملقيًا قصائده، لقد نجح كل النجاح في حياته الجديدة بعد قصة حب غير موفقة طوتها الأيام والسنون.
ولم يقف دي موسيه عند حدود الشعر فقط بل مارس الكتابة للمسرح وتأليف الروايات، وعمل أمينًا لإحدى المكتبات، وفي سيرته الذاتية “اعترافات طفل من هذا القرن” سجل كل تفاصيل حياته بما فيها ارتياده لبيوت الهوى وعلاقاته مع الساقطات، كما دون قصته مع صاند من وجهة نظره.
وفي الثاني من مايو/ايار لعام 1857 توفي دي موسيه أثناء نومه بسبب قصور في عضلة القلب، وكان عمره حينها لا يتجاوز السابعة والأربعين من عمره، وكان أخوه قد لاحظ أثناء احتضاره تمايل رأسه نتيجة لقوة النبض وهي العلامة التي عرفت فيما بعد بـ “علامة دي موسيه” ولابد من القول أن إدمان الكحول شارك في حدوث هذه النهاية الحزينة.
ولنا بالطبع أن نأخذ الجانب المشرق من قصة هذا الشاعر الفرنسي وهو أن الحياة لا تعرف اليأس وأن كل سقوط يعقبه قيام وانتعاش، وأن المواقف الصعبة هي التي تصنع الإنسان؛ غير أن ما لا يمكن التوافق معه هو التحرر الذي عاشه كثير من أدباء الغرب وسجلوه في شعرهم أو في أعمالهم النثرية، وإذا كانت الثقافة الغربية لا تعرف الطابوهات الجنسية التي يحرمها مجتمعنا العربي، فإن التقليد الأعمى لهذه الثقافة لا يثمر شيئًا للعمل الأدبي المكتوب ولا يفيد القارئ بل يثير غرائزه، والفن الحقيقي يسمو على الغرائز ولا يثيرها.. إن الفن حياة أخرى نسمو فيها على عبثيات الواقع وأوجاع الحياة، وهو خير مربي للإنسان إذا أحسن الأديب والفنان تأدية رسالته في خدمة مجتمعه والنهوض بأمته.
main 2024-01-09 Bitajarodالمصدر: بتجرد
كلمات دلالية: غیر أن
إقرأ أيضاً:
رحيل شاعر قصيدة: (نحن لا نهزم.. ومنا عطاء الدم)
وأعلن اتحاد أدباء العراق في بيان له عن نعيه لهذا الشاعر الكبير، مؤكدا أن رحيله يمثل خسارة كبيرة للوسط الأدبي في العراق. كما نعت مؤسسة السجناء السياسيين الشاعر عبد الحسين فرج، مؤكدة في بيان لها أنه كان "مصدر إبداع وتميز"، وأشارت إلى أن الراحل جمع في حياته بين مجالات متعددة، فكان العامل المجتهد الذي سعى لتحصيل لقمة العيش بشرف، والسياسي الذي وقف ضد الدكتاتورية ورفض النظام السابق. وقد خلد الشاعر عبد الحسين فرج اسمه بقصائده التي تتغنى بالوطن وتدافع عن قيم الحرية والعدالة، خاصة من خلال قصيدته الشهيرة "نحن لا نهزم.. منا عطاء الدم"، التي أصبحت نشيدا للأحرار في العراق وأيقونة في ذاكرة الشعب العراقي.
وكانت كلماته بمثابة شمعة في ظلمة الإرهاب، وصوتا يهدر في وجه الظلم، تلهم المجاهدين وتحفز المدافعين عن أرض العراق. ولد عبد الحسين فرج في البصرة عام 1955م، وله سيرة جهادية كبيرة ضد النظام السابق حيث تعرض للسجن والاضطهاد، وله عدة دواوين شعرية من أبرزها "تفاصيل قلقة"، "عشب أزرق"، "يعود إلى عزلته"، "عزلة البرتقال"، و"أريد مطرا يدنو".