سيزا قاسم: الأدب العربي الحديث ظهر في ظل عوامل النهضة العامة
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
توفيت أمس الناقدة الكبيرة سيزا قاسم عن عمر يناهز 89 عاما، وتعد واحدة من أشهر النقاد العرب في العصر الحديث ممن تخصصوا في دراسة الأدب المقارن .
وقد أصدرت سيزا قاسم كتابها "بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ"، وهو طبعة منقحة لرسالتها الجامعية “الواقعية الفرنسية والرواية العربية في مصر من عام 1945 حتى 1960”.
تقول سيزا قاسم في هذا الكتاب، إن منظور الأدب المقارن وروحه يعرفه ويبرر تميزه عن الأدب العام خير من أية حدود فاصلة إذ يقوم على دراسة كل الآداب من منظور عالمي مع وعي بوحدة جميع الخبرات والابداع الأدبي، ومن هذا المفهوم لا يمكن أن تحد بطريقة واحدة إذ يستخدم الوصف والتشخيص والتفسير والشرح والتقييم في بحثه بقدر ما يستخدم المقارنة، كما لا يمكن أن تقتصر المقارنة على الاتصالات التاريخية إذ قد يكون في مقارنة ظواهر، مثل اللغات - كما علمتنا التجارب الحديثة في اللغويات - والأنواع الأدبية غير المرتبطة تاريخياً، نفس القيمة التي تكمن في مقارنة التأشيرات التي يمكن اكتشافها استنادا إلى إثبات قراءة الأصل أو ما شابه ذلك.
تبين قاسم، أنه من هذا النص نرى أن "ويلك" ينفي ضرورة حصر دراسة الأدب المقارن في نطاق أدبين لا غير، ثم أنه يرى أن المقارنة قد تشمل أعمالاً لا تربط بينها صلات تاريخية مؤكدة، ويضيف أيضاً أن الأدب المقارن لا ينفرد بمنهج خاص ولكنه قد يلجأ إلى استخدام مناهج البحث العامة، ونلمس في السنوات الأخيرة تطوراً واضحاً في الدراسات المقارنة في فرنسا استجابة لانتقادات أعلام المدرسة الأمريكية وتطور الاتجاهات الحديثة.
وأشارت قاسم، إلى أنه من الحقائق المسلم بها في الأدب العربي الحديث في مصر، فن الرواية قام - في ظل عوامل النهضة العامة ونتيجة لها، ومع قيام المطبعة - العربية وانتشار جمهور القراء - تحت تأثير الآداب الغربية، وهذه المقولة لا جدال فيها وقد تحدث عنها كثير من النقاد وناقشوها، وأكد بعضهم أن هذا النوع الأدبي لم يكن له وجود في الأدب العربي قبل اتصال العرب بالحضارة الغربية في القرن التاسع عشر سواء عن طريق السفر إلى أوروبا خاصة فرنسا وانجلترا في بعثات تعليمية، أو عن طريق قراءة المؤلفات الغربية في لغتها الأصلية، أو عن طريق ترجمات للآثار الغربية.
وترى قاسم إلى أن تأكد تأثير الحضارة الأوروبية في مصر في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية وغيرها فأصبح التوفيق بين التيار الجديد والتراث مشكلة حضارية كبرى ما زلنا نتحدث عنها ونحاول الوصول إلى حلول تمكننا من الاستفادة من الحضارة الغربية مع الاحتفاظ بأصالتنا. ويظهر هذا الصراع جلياً في الأدب وهو صورة من صور النشاط الانساني العام فيعكس المشكلات الحضارية الكبرى ذلك أن شغف المثقف المصري بالثقافة الغربية جعله ينكب عليها وينهل منها ويحاول الاستفادة منها بشتى الطرق والوسائل، فدخلت الحياة الأدبية أشكال جديدة لم يعرفها الأدب العربي من قبل فأخذ الكتاب يستلهمونها ويقلدونها ويعربونها.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الأدب العربي الحديث النهضة العامة سيزا قاسم بناء الرواية الأدب المقارن الأدب العربی سیزا قاسم
إقرأ أيضاً:
الفكاهة في الأدب
مع هذا الحرّ القاتل، ومع شدّة قتامة الوضع العامّ، ومع الإرهاق النفسيّ الذي يعيشه العربيّ، من أخبار لا تسرّ الخاطر، وقتْلٍ يوميّ، وفقْر وجوع، وقلّة ذات اليد، وزحمة الكآبة المتوالدة من كلّ فجّ وصوبٍ، مع كلّ هذه التعاسة المحيطة نفتقد إلى حسِّ الفكاهة، الذي رافق الأدب العربيّ فـي مراحل مختلفة، وغاب عن الأدب إلى حدّ كبير اليوم، غير أنّه باقٍ فـي نفوس الطبقات الشعبيّة التي لا تجد ما تواجه به هذا السّواد، وهذا البؤس، سوى الفكاهة، والسخريّة التي قد تتحوّل أحيانًا إلى سوادٍ، وقد تمسُّ الذات السّاخرة نفسها، لذلك، أردتُ أن أثير مسألة كانت حاضرة بعمق وكثافة من قديمِ الأدب إلى حديثه. فالشعر العربي قد احتوى مظاهر متنوّعة من الفكاهة التي تُخرجه من معالجة المسائل الجادّة، وتجعله يُقاوم ثِقَل الواقع، أو سطوة شخص.
ومن أبواب الفكاهة الكبرى الهجاء، أو التعرُّض إلى الذات أو إلى الآخر بوصْفٍ أو بيانِ خِلالٍ تسيء للذات الموصوفة، وهو الأمر الذي نعرضُ له دونًا عن مواطن من الفكاهة مثل وصف المأكولات، أو إظهار الظرف أو استخراج موقف طريف ناتج عن سؤال أو عن أزمة. نركّز على الهجاء فـي الوصف الخلقي والأخلاقي، فمن ذلك مثال، ما أتاه الجاحظ صاحب النوادر، وهو الفكه، طالب الموقف الطريف، مبتدع النوادر ورأسها، وقد كان متّخذًا من ذاته وهيئته سبيلاً للتندُّر والتفكّه، واتّخذ أيضًا أصحابه من المعتزلة منه، موضوعًا للنظم فـي صورته، فقد قال أحد المعتزلة يهجوه فـي شكله ومظهره:
لو يُمْسَخُ الشيْطانُ مَسْخًا ثانيًا/ ما كانَ إلاَّ دُون قُبْحِ الجاحِظِ- رجلٌ يؤوب عن الجحيمِ بنفسه/ وهو القَذى فـي كلِّ طَرْفٍ لاحِظِ. والجاحظُ إضافةً إلى أنّه مصدرُ أخبارٍ ظريفة وطريفة، فقد كان لا يخجل من التندُّر بخلقته وما يقوله النّاس فـيه، وهي درجة عالية من التصالح مع النفس، وتجاوز العقد الذاتية، فقد ورد عنه أنّه قال: «إنَّه لم يُخجلني طيلة عمري أحد، كما فعلت امرأة ثريَّة، فقد لقيت امرأة فـي بعض الطُّرق، وسألتني أنْ أصحبها ففعلت، حتَّى أتت بي إلى مَحلِّ صانع للتماثيل وقالت له، مُشيرة إليَّ: كهذا. فبقيتُ حائراً مِن أمرها، ولمَّا انصرفتْ سألتُ الصائغ عن القِصَّة، فقال: لقد سألتني هذه المرأة أنْ أصوغ لها تِمثالاً للشيطان، فقلت لها: إنِّي لم أرَ الشيطان؛ كي أصوغ تِمثاله، فطلبت مِنِّي أنْ أنتظر حتَّى تجيء بتِمثاله، واليوم جاءت بك إليَّ وأمرتني أنْ أصوغه شبيهاً لمنظرك»، ولا يخرج الحُطيئة الشاعر المعروف بسلاطة لسانه ووفرة هجائه عن هذا السبيل تعرُّضًا للذات، وبيانًا لمواطن السُّوء فـيها، دون حرجٍ أو تحرُّجٍ، فقد هجا نفسه عندما أُمسِك لسانه عن الهجاء وهُدِّد بالسِّجن إن تعرَّض إلى أعراض النّاس، فقال:
«أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ/ فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه». فلقد كانت الذاتُ محورًا منطلَقًا من محاور التندُّر والهجاء وبابًا وسيعا من تحقّق الفكاهة عند العرب، فكانوا يتندّرون شعرًا ونثرًا بالخِلقة والخُلُق، ومن ذلك أيْضًا ما عُرِف به أديبٌ له فـي الشعر الفكه، وفـي أخبار النوادر صيتٌ وأثرٌ، وهو أبو دلامة، الذي هجا نفسه قائلاً: أَلاَ أبْلغْ لَديْكَ أبَا دلامة/ فليْس من الكرامِ ولا كَرامَهْ- إذا لَبس العمامةَ كان قرْدًا/ وخِنْزيرًا إذا نَزَع العِمامَهْ- وإذا لبس العمامةَ كان فـيها/ كثوْرٍ لا تُفارقُه الكمامَهْ- جمَعْت دمامة وجمعْتَ لُؤْمًا/ كذاك اللُّؤمُ تتبعُهُ الدمامهْ- فإنْ تَكُ قد أصَبْتَ نعيمَ دُنْيَا/ فلا تَفْرَح فقد دنت القيامهْ»، ومن النوادر على تحويل الذات إلى بؤرة سخريّة، ما رواه أبو عيناء، إذ خطب امرأة فاستقبحته، فكتب إليها شعرًا يقول فـيه: «فإنْ تَنْفُري من قُبْحِ وجْهي فإنَّني/ أَريبٌ أديبٌ لا غبيٌّ ولا قَدْمُ» فأجابته المرأة قائلة: «ليس لديوان الرسائل أريدك».
وأمَّا فـي باب هجاء الآخر، فهنالك أيضًا جانبان يتركّز عليهما التندُّر، الخِلْقة والخُلقُ، ومن أهمّ أبواب التندُّر بالخُلق الهجاء بالبخل، ولنا فـي الأدب العربيّ كتابٌ مثالٌ هو كتاب البخلاء الذي خطّه الجاحظ، غير أنَّ عددًا من الشعراء تندَّروا ببخل مَن أرادوا هجاءهم، وركّزوا على هذه السِّمة التي كانت نقيصة كبيرة، تُقابِل قيمةً خُلقيّة بها تميَّز العرب وعُرفوا وهي الكرم. فهذا ابن الرومي يهجو بخيلاً فـيقول فـيه: «غَدوْنَا إلى مَيْمون نطلُبُ حاجةً/ فأوْسَعَنَا منْعًا جَزيلاً بلا مَطْلِ- وقال: اعذُروني إنَّ بُخْلي جِبِلَّةٌ/ وإنَّ يَدِي مَخْلوقَةٌ خِلْقَةَ القُفْلِ». وهذا أبو نواس يهجو الفضل بن ربيع واصِفًا بخله، فـيقول: «رأيْتُ الفضْلَ مُكتئِبًا/ يُنَاغِي الخُبْزَ والسَّمَكَ- فأسبَل دمْعه لمَّا/ رآني قادِمًا وبَكَى- فلمَّا أن حَلفْتُ له/ بِأنِّي صَائمٌ ضَحِكَا».
وأمَّا التندُّر بالخِلْقَة، فهو مبحثٌ ثريٌّ فـي تراثنا الشعريّ، ويدعو إلى الوقوف على أبعاده الفنيّة والتأثيريّة والاجتماعيّة ويُمكن النفسيّة، فمن ذلك ما قاله ابن الرومي فـي بيان قبح الخِلْقَة، واصِفًا امرأة: «دَحْدَاحةُ الخِلْقَةِ حَدْبَاؤُهَا/ قَامَتُهَا قامَةُ فُقَّاعَهْ- لَو أنَّها ملكي ولي ضيْعَةٌ/ جَعَلْتُهَا للطَّيْر فَزَّعَهْ». ابن الرومي الذي أبدع فـي رسم الصور الكاريكاتوريّة السّاخرة، الهازئة، التي تركّز على السخريّة من الملامح ومن الهيئة، وتجعلها المنطلق للتوسّع فـي الإساءة والهجاء، يقول: «يا أبَا القاسم الذي لَيْسَ يُدْرَى/ أرَصاص كيَانه أم حديد- أنتَ عندي كماءِ بِئْرِك فـي الصّيْـ/ ـفِ ثقيل يعلوه برد شديد»، ولعلّه قد بلغ أوج بلاغة السخريّة، فـي إحداث الممازجة بين الكلب والمهجوّ، وإعلاء شأن الكلْب مقابل المهجوّ، يقول: «وجْهُك يا عمرو فـيه طُول/ وفـي وجوه الكلابِ طُول- مقَابح الكلْب فـيك طرًا/ يزُول عنها ولا تزُول- وفـيه أشياء صالحَات/ حماكها اللّه والرّسُول- فالكلبُ وافٍ وفـيك غدر/ ففـيك عن قدره سفول- وقد يُحامي عن المواشي/ وما تحامي ولا تصُول- وأنت من بين أهل سوء/ قصّتهم قصّة تطول».
فنّ السخريّة وارتباطه بالفكاهة من جهةٍ، وبالهجاء من جهة ثانية، فنّ أبدع فـيه العرب، وقد أدَّى دور التخفـيف من ثقل واقع ضاغط، فلمَ غابت اليوم هذه الفكاهة التي بلغت أوجهَا فـي مجتمعاتنا العربيّة أواسط القرن العشرين، مع الصحافة الفكهة والصحافة السّاخرة، ومع النقائض، والثنائيّات؟