لم يأتِ وزير الخارجيَّة الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته الحالية الرابعة إلى المنطقة ليناقش زعماءها ووزراءها فيما ينبغي القيام به لإيقاف حرب الإبادة المتواصلة ليل نهار، التي يشنها التحالف الصهيو-أميركي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والتي ارتفع عدد ضحاياها من المدنيين الفلسطينيين بين زيارة الوزير الثالثة قبل شهرَين وهذه الزيارة؛ من 30 ألف قتيل وجريح إلى حوالي 100 ألف قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، وتحوّل فيها قطاع غزة إلى كتلة من الدمار، لا تصلح للحياة، تنبعث منها رائحة القتلى والألم والمعاناة وتعشّش فيها أشباح الرعب وخيالات المغدورين.
لم يأتِ بلينكن ليبشر النازحين الفلسطينيين الذين تطاردهم حرب الإبادة من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، ومن مأوى إلى مأوى؛ بأن الإدارة الأميركية ستضع حدًا لهذه الإبادة وتعلن وقف إطلاق النار.
جاء بلينكن من جديد ليعيد سرد الأكاذيب، وليذكّر دول المنطقة بالدم اليهودي الذي أراقته المقاومة الفلسطينية في "طوفان الأقصى"، وليعلن من جديد، أن حرب الإبادة الجماعية ستستمر في قطاع غزة حتى تحقق أهدافها
بأي وجه؟!جاء بلينكن متبخترًا فوق حبال الموت التي تلفّ سكّان قطاع غزة؛ ليعيد سرد الأكاذيب، وليذكّر دولَ المنطقة بالدم اليهودي (المقدس) الذي أراقته المقاومة الفلسطينية في "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وليعلن من جديد، رغمًا عن الجميع، أنّ حرب الإبادة الجماعية مستمرة حتى تحقق أهدافها، الظاهرة منها والباطنة.
لا أدري بأي وجه يأتي الوزير بلينكن! وهو يمثّل الدولة المسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه الكارثة الإنسانية التي تنام البشرية وتصحو يوميًا على جثث قتلاها وأشلائها وصراخها وعويلها، وهو يمثل الدولة التي تزعم أنها تقود العالم وتحمي القيم والقوانين والمواثيق الإنسانية، وتدافع عن المظلومين والضعفاء والمضطهدين، وتعمل على نشر السلام وتعزيز الاستقرار وتطوير البشرية.
يأتي الوزير بلينكن بكل برود وبلادة وكأنه لا يشاهد يوميًا تفاصيل المأساة التي تخيّم على قطاع غزة، متلفّعًا برداء العُنجُهية والاستكبار والقوة والجبروت.
ولا أدري ماذا يفعل في المنطقة بعد أن ضربت دولتُه بكل مناشدات العالم عُرضَ الحائط؛ لإيقاف الحرب، وأصمّت آذانها عن سماع كافة المبررات والقرارات والإحالات القانونية والإنسانية التي سيقت لإقناعهم بإيقاف إطلاق النار!
بأي حق يأتي للحديث والتفاوض في الوقت الذي تواصل دولته حربها الهمجية مع الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، التي امتدت جرائمها إلى الموتى في قبورهم، دون أن يرفّ لها جفن أو ترقّ لها عين!
كان حرياً بالشعوب والمؤسسات المدنية أن تخرج وتصرخ بشكل عارم في وجه بلينكن لتعبر عن سخطها واستنكارها ورفضها الموقفَ الأميركي الداعم بشكل مطلق للكيان الصهيوني، وأن ترفع صوتها عاليًا في وجهه مطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار؟، إذ لا معنى للحديث عن المساعدات الإنسانية، بينما تواصل حرب الإبادة الصهيو-أميركية جرائمها ضد الإنسانية.
لقد انتفضت الإدارة الأميركية ولم تقعد، ومعها عموم الإدارات الغربية للمجزرة الروسية في مدينة "بوتشا" الأوكرانية في أبريل/ نيسان 2022م، والتي راح ضحيتها عشرات المدنيين من الأوكرانيين، ونحن نشهد يوميًا عشرات المجازر التي تفوق الواحدة منها – في همجيتها وضحاياها- أضعاف ما حدث في بوتشا، ولكن عين الظلم عمياء، وأذنه صمّاء، لا ترى ولا تسمع إلا ما تريد وبالطريقة التي تريد.
لم يحمل الوزير بلينكن معه في جولته سوى تأكيدات سبق تكرارها في مناسبات وأشكال عديدة، فهل هناك مسائل أخرى جاء ليبحثها مع مسؤولي المنطقة غير تلك التي تم الإعلان عنها لوسائل الإعلام؟
تأكيدات مخادعةبلينكن الذي يزور المنطقة في الفترة من 4-11 يناير/ كانون الثاني الجاري، ويلتقي بزعماء ومسؤولي ثماني دول: (تركيا، واليونان، والأردن، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، والسعودية، والكيان الصهيوني، ومصر، بالإضافة إلى الضفة الغربية)؛ لم يحمل معه شيئًا مما يتطلع المراقبون في المنطقة إلى أن يسمعوه منه، فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، فلم يحمل الوزير معه سوى تأكيدات سبق تكرارها في مناسبات وأشكال عديدة، فهل هناك مسائل أخرى جاء ليبحثها مع مسؤولي المنطقة غير تلك التي تم الإعلان عنها لوسائل الإعلام؟
أمّا التأكيدات التي جاء بها الوزير بلينكن فيمكن تلخيصها في مسألتَين اثنتَين؛ هما:
الأولى: الحرب الدائرة في قطاع غزةوأهمّ ما ورد فيها ما يأتي:
التأكيد على مواصلة التحالف الصهيو-أميركي حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة، ورفض إيقافها قبل القضاء على سلطة حركة "حماس" السياسية وقدراتها العسكرية، وضمان عدم تشكيلها أي تهديد للكيان الصهيوني في المستقبل. وهذا يعني اشتداد حدة المعركة وتنويع تكتيكاتها القتالية، وافتعال العديد من الأحداث السياسية والأمنية التي تضعف التفاف الناس حول حماس والمقاومة، وتساهم في تضييق الخناق عليها. التأكيد على رفض التهجير القسري لسكان قطاع غزة؛ لأنه يعدّ انتهاكًا للقانون الدولي والإنساني، وهذا التأكيد مجرد لافتة سياسية؛ لإثبات حرص الإدارة الأميركية على القانون الدولي والإنساني، وهو الأمر الذي يتناقض مع تأكيدها على استمرار القصف والدمار والقتل وملاحقة المدنيين؛ لإجبارهم على النزوح باتجاه الحدود مع مصر، تحت راية التهجير الطوعي، حيث سيتم فتح الحدود لهم، كي تتلقفهم الدول المانحة التي استعدَّت لاستقبال اللاجئين من سكان قطاع غزة. أما التأكيد على توسيع نطاق المساعدات الإنسانية والتخفيف من الإصابات في صفوف المدنيين، فلا معنى لذلك مع استمرار الحرب، وهي مجرد لافتات سياسية أخرى، تحاول إدارة الرئيس بايدن تزيين وجهها الإجرامي بها. وأخيرًا؛ التأكيد على الوهم الأكبر، وهو إقامة إدارة مدنية فلسطينية في غزة لا تحكمها حماس، وتضمن أمن الكيان الصهيوني، بما يعزّز إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل، وهو ما يتعارض بالكُلية مع الواقع الذي سيكون عليه قطاع غزة، وقد تم تدميره نهائيًا وإفراغه من سكّانه، وأصبح جزءًا من جغرافيا الكيان الصهيوني.أما ما يتحدث به بلينكن عن التزام الولايات المتحدة بأن قطاع غزة جزء من الأراضي الفلسطينية، فلن تكون الإدارة الأميركية الحالية في مكانها حتى تُسأل عن التزامها، كما سيتم تجاوز هذا الالتزام بفرض سياسة الأمر الواقع الصهيونية، وباب الأمم المتحدة مفتوح على مصراعيه لمن أراد أن يحتجّ على هذه السياسة من الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
الثانية: تجنب توسيع رقعة النزاعولا أدري لماذا تصدرت هذه المسألة اهتمامات الوزير في جولته الحالية، رغم التأكيد عليها منذ بداية الأزمة، والتهديد والوعيد الذي قدَّمته الولايات المتحدة لمن سيقوم بذلك؟
وإذا نظرنا إلى احتمالات توسيع رقعة النزاع بدخول أطراف أخرى على ساحة المعركة، فإن جميع الأصابع ستشير إلى إيران فقط، أما بقية الدول العربية المجاورة وغير المجاورة للكيان الصهيوني، فليس هناك توقعات بدخولها ساحة المعركة.
وهذا يدفعنا إلى تفسير إيلاء هذه المسألة أهمية كبرى في جولة بلينكن بأحد أمرَين:
وجود معلومات لدى الولايات المتحدة بوجود تحرك إيراني لتشكيل محور سوري- لبناني- يمني بقيادة إيران ودعم روسيا. وربما يعزز ذلك تصريحات السفير الإيراني في سوريا، حسين أكبري، بأن الولايات المتحدة بعثت رسالة إلى طهران عن طريق وفد عربي خليجي لحل المشكلة في المنطقة، وليس فقط لتسوية جزئية للصراع. وهذا الأمر وارد الحدوث بشرط واحد، وهو التزام روسيا بدعمه الكامل، فبدون روسيا لا تستطيع إيران المغامرة بمكتسباتها لأكثر من 40 سنة في حرب ليست ذات أهمية إستراتيجية قصوى بالنسبة لها، وخَسارتها فيها أكيدة؛ لأنَّ ظهرها بدون روسيا سيكون مكشوفًا أمام الولايات المتحدة وحلف "الناتو". الأمر الثاني، أن يكون ذلك من باب خلط الأوراق وتشتيت الانتباه عن المأساة التاريخية الكبرى القائمة في قطاع غزة، وعن إصرار الولايات المتحدة على مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها الصهيو-أميركية.سيغادر بلينكن المنطقة بعد يومين، وهو ليس في عجلة من أمره، وربما يعود بعد شهرَين آخرين كما عاد هذه المرة، ليطمئن على ارتفاع معدل تحقيق الأهداف، غير مكترث لارتفاع معدل القتلى والجرحى في صفوف سكان القطاع، الذين أصبحوا بلا مأوى، ولم يعد لهم وطن يرجعون إليه وأصبحوا مجرد أسماء في دفاتر المنافي الجديدة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الإدارة الأمیرکیة الولایات المتحدة الوزیر بلینکن حرب الإبادة التأکید على فی قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
شهادات صادمة عن الموت حرقاً واغتصاباً وجوعاً فى السودان
لا تزال حرب السودان المنسية تحصد أرواح الأشقاء على وقع جلسات روتينية من قبل مجلس الأمن الدولى ومبادرات إقليمية ودولية دخلت جميعها النفق المظلم دونما حل فيما يواجه الضحايا من المدنيين مصيرهم وحدهم ما بين الموت حرقا وجوعا واغتصابا.
وكشف تقرير جديد أصدره باحثون فى السودان وبريطانيا عن أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 61 ألفا استشهدوا فى ولاية الخرطوم خلال أول 14 شهرا من الحرب، مع وجود أدلة تشير إلى أن العدد الكلى أعلى بكثير مما سجل من قبل.
وشملت التقديرات ارتقاء نحو 26 ألفا بعد إصابتهم بجروح خطرة، وهو رقم أعلى من الذى تذكره الأمم المتحدة حاليا للحصيلة فى البلاد بأكملها.
وتشير مسودة الدراسة، التى صدرت عن مجموعة أبحاث السودان فى كلية لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة، قبل مراجعة من زملاء التخصص، إلى أن التضور جوعا والإصابة بالأمراض أصبحا من الأسباب الرئيسية للوفيات التى يتم الإبلاغ عنها فى أنحاء السودان.
يأتى ذلك فيما نشرت الأمم المتحدة سلسلة شهادات مروعة لنساء وفتيات فررن من عمليات القتال فى السودان الذى يشهد حربا منذ أكثر من عام.
وأعلن صندوق الأمم المتحدة للسكان المتخصص فى صحة الأم والطفل، فى بيان نقلا عن أرقام وزارة الصحة فى ولاية الجزيرة، أن 27 امرأة وفتاة تتراوح أعمارهنّ بين 6 و60 عاما تعرضن للاغتصاب أو الاعتداء، مشيرا إلى أنّ هذه الحالات تشكل جزءا صغيرا من اعتداءات جنسية عنيفة تحصل على نطاق واسع.
ونقل البيان عن ماريا، وهى أم لولدين، قولها «لقد اضطهدنا المسلحون وضربونا وصوّبوا أسلحتهم نحونا وفتّشوا بناتنا». وروت فتيات أنّ إخوتهنّ وأعمامهنّ وآباءهنّ وفّروا لهنّ سكاكين، وأضفن «قالوا لنا أن نقتل أنفسنا إذا هددنا المقاتلون بالاغتصاب».
وقالت ناجيات فى شهادات أخرى «إنّ نساء رمين بأنفسهنّ فى النهر لعدم التعرّض لهجوم من رجال مسلحين»، بينما «فرّت أخريات واختبأن لأن عائلاتهنّ هددتهنّ بالقتل بداعى غسل العار».
وقالت فاطمة، وهى أم لستة أولاد، لا تعرف ماذا حدث لزوجها «لقد ضربونا مثل الكلاب، فغادرنا. لم يكن معنا شىء ولا حتى خبز. سرنا لسبعة أيام تحت أشعة الشمس الحارقة من دون أن نأكل شيئا. وماتت بعض النساء فى الطريق».
وكانت أمينة (27 عاما) ضمن مجموعة من 21 امرأة حامل فى المرحلة الأخيرة جمعهنّ طبيب محلى فى إحدى القرى لمساعدتهنّ على الولادة قبل الفرار. وتعيّن إخضاعها لعملية قيصرية. وقالت «كانت عمليات إطلاق النار مرعبة جدا لدرجة أننى استجمعت قواى لمغادرة القرية».
وأوضحت «بعد ست ساعات فقط» من الخضوع للعملية القيصرية، وعلى الرغم من «الجروح التى كانت لا تزال حديثة ومؤلمة»، واصلت طريقها مع مولودها الجديد سيرا على الأقدام، ثم فى «عربة يجرها حمار» لأيام عدة.
وتشهد ولاية الجزيرة فى السودان، أعمال عنف شديدة، من قبل ميليشيا الدعم السريع تجاه المدنيين، إذ بدأت قوات الجنجويد حملة انتقامية، منذ 21 أكتوبر الماضى، ردا على انضمام قائد الدعم السريع فى الولاية أبو عاقلة كيكل، للجيش السودانى.
وأكدت مصادر محلية بالولاية أن الأوضاع داخل المدينة تزداد صعوبة. وكشفت عن اقتحام قوات الدعم السريع لمناطق جديدة بشرق الجزيرة مع مواصلة عمليات اقتحامها للقرى فى غرب الولاية، حيث قامت باحتجاز سكان قرية أم مغد.
كما أجبرت سكان منطقة الغابة المجاورة على النزوح بحسب ما ذكرت منصة «نداء الوسط» المحلية.
وقررت الحكومة السودانية، تمديد فتح معبر «أدرى» الحدودى مع تشاد لإيصال المساعدات الإنسانية لمستحقيها. وأكد بيان صادر عن مجلس السيادة الانتقالى «استمرار التعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والوكالات الأخرى العاملة فى الحقل الإنسانى».
جاء ذلك إثر ضغوط مستمرة من المجتمع الدولى والمنظمات الدولية، تطالب بفتح معبر «أدرى» الحدودى بين السودان وتشاد، لإيصال المساعدات الإنسانية لآلاف المتضررين من القتال فى دارفور.
ويواجه الآلاف فى مخيمات النزوح بدارفور غرب السودان، شبح المجاعة، حيث يموت يوميا ما بين 20 و25 شخصا، بسبب استمرار الحرب ونقص الغذاء المتصاعد.