«المغيّب» في كتب التراث العمانية
تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT
كثيرة هي الحكايات المرتبطة بالمغيّبين، لا سيما التي دارت على ألسنة الناس في التعريف أو في سرد قصص المغيّب أو المسحور. ويُطلق لفظ «المَغايْبة» أو«المغيّب» على الإنسان الذي يعود حيًّا من رحلة الموت، وهو لفظٌ دَرَجَتْ عليه ألسنةُ الناس في المحكي الشفاهي.
وجاء ارتباط المغيّب بعالم السحر والسحرة الذين يقومون بأدوارهم في قتل الناس في إشارة إلى الخوارق العديدة التي تقام على أيدي السحرة، ومعها يمكن للمسحور بطريقة أو بأخرى بحسب الروايات الشفهية المتداولة العودة إلى عالم الحياة فارًّا من سطوة الساحر إلى عالم التغييب، وهنا دارت ألسنة الناس بكثير من الحكايات والقصص، جعلت من هذا العالم خياليا إلى حدود لا يقبلها العقل البشري، فإلى أي حد يمكن عودة الميت إلى الحياة في هيئة فاقد للإدراك أو متلبس بصكوك ونذور أقامها عليه السحرة.
لقد استطاع الأدب العودة إلى التراث الشفهي في بناء نصوصه من مرجعياته الحكائية، فكما تطرقنا إلى صورة الساحر في المرجعيات التراثية، فإن للكتابة الأدبية والتراثية مرجعيات تخبرنا عن صورة المغيّبين، وهي صورة تأخذ انطلاقتها من الذاكرة التراثية والمكانية في مجتمعاتنا.
قد نجد صورة المغيّب حاضرة في الأدب العماني، وهي صورة مستمدة من التراث وحكاياته، وهنا فإنّ المتلقي يقف حائرا في قراءة الواقع وارتباطه بالكتابة الإبداعية، لكن وعلى ما يبدو فإنّ الأدب يكوّن مرجعياته الرئيسة من مدوّنات التراث المكتوبة جاعلًا منها مرجعًا مهما لنقل الصورة المتخيّلة للكتابة الأدبية، فنجد محمود الرحبي يستفيد مما كتبه نورالدين السالمي عن فتاة نزوى في كتابه «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» في نسج الحكاية السردية منفتحًا على الحكاية الأصل، وكذلك فاطمة الشيدية في حفلة الموت، والروايتان كلتاهما تناولتا صورة الفتاة المغيّبة من مصادر مكتوبة سنعرض لها لاحقًا. وهنا تصبح الحكاية الشعبية أكثر رسوخًا على المدى الطويل؛ لأنها أُكّدت في هيئة نص تاريخي موثّق ومكتوب.
تظهر صورة المغيّب/ المغيّبة في كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان: ج2/ ص112) للسالمي، وفيه يحاول إثبات وقوع هذه الحادثة من خلال ذكر المكان الذي وقعت فيه الحادثة وهو منطقة سمد وسط السويق بنزوى، والزمن في عام 1109هـ في زمن الإمام سيف بن سلطان (قيد الأرض)، واسم والد الفتاة، ثم يعرض لنا قصيدة شعريةً مجهول قائلها، يقول فيها مع تجاوز بعض أبياتها:
لقد ظهرت أعجوبة في زماننا بقرية نزوى وهي أم العجائبِ
فتاة أناس بنت ستٍ توفيت وقد قبروها في قبور الأصاحبِ
ولكنهم من بعد ظنوا بأنها أصيبت بسحرٍ قول أهل التجاربِ
فساروا لحفر القبر من بعد دفنها فما وجدوها فيه يا ذا المآربِ
فبعد سنين قد مضت وتكاملت حساب تولّى عدّه غير كاذبِ
رآها فتى ترعى شياها وعندها فتاة من الأعراب عنها بجانب
تقرّب منها ثم أمعن طرفه فما شك أنّ الشخص عين المطالبِ
فقال لها من أنتِ قالت فلانة فتاة فلانٍ من كرامٍ أطائبِ
فأيقنَ حقّا أنها بنت ماجدٍ سليلُ سليمانٍ حليف المواهبِ
وجد أبيه ماجد بن ربيعةٍ فتى أحمدٍ أهل الندى والرغائبِ
وذاك بنزوى وهي من آلِ كندةٍ وقد صحَّ هذا الأمرُ مع كل كاتبِ
ترسم الأبيات السابقة التي عرضها السالمي صورة الفتاة المغيبة التي عادت إلى الحياة، فتظهر على الفتاة علامات الإدراك حتى بعد عودتها من الموت إلى الحياة، فقد ذكرت نسب أهلها، وعندما جاؤوا بأهلها تعرّفت على أمها، وعندما سألوها عن حالها عندما وضعت في القبر أجابت بما فعله الساحر؛ إذ أخرجها من القبر ثم تركها عاريةً في الصحراء حتى مرّ عليها ناس من الأعراب فأخذوها معهم وجعلوها ترعى الأغنام لديهم.
ومع أن السالمي في عرضه للأبيات الشعرية دون نسبتها إلى قائلها، نجده يميل إلى رأي الشاعر على أن ذلك من فعل السحر، ويحاول تأكيد وقوع الحادثة بالاستدلال على المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الحادثة، فإنّ الحادثة تظل مع ذلك نوعًا من الحكايات الشفهية التي تناقلها الناس وجمعها السالمي في كتابه وصارت نصًا كتابيًا يعبّر عن القيمة الموضوعية للحادثة.
كما تحيل القصيدة المذكورة على أسئلة عدة، عن طبيعة عودة الميت، ومستويات الإدراك لديه، وعن فعل الساحر وتركه للمسحور عائدا للحياة.
وتتقاطع القصيدة السابقة في مضمونها مع الحكاية التي أوردها سيف بن حمود بن حامد البطاشي في كتابه (إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان: ج2/ ص238) عن «رجل من وادي القريات مات، وشهد بموته ناس كثير من أهل البلد، واشتهر موته في وادي القريات جميعا، وغسلوه، وصلوا عليه، ودفنوه بمحضر أهل القرية، فأقام بعد ذلك ما شاء الله من السنين، ثم وُجد في قرية لوى من الباطنة. فلقيه رجل يعرفه، فقال له: ما أنت فلان بن فلان، الساكن وادي القريات؟ فقال له: نعم. وأبلغه أن زوجته اعتدت عدة الموتى، وتقاسم الورثة ماله. فطلب منه الرجوع إليهم ليأخذ ماله ويسترد زوجته. فقال: إنه مأخوذ عليه العهود والمواثيق أن لا يرجع إلى بلاده، وأبلغه بقصته أنه كان مريضا في بيته، والناس حوله، فنام، واستيقظ من نومه فما درى بنفسه إلا وهو في لوى. ثم علم أهل بلده فكذّب بعضهم بعضا وأتوا إلى القبر الذي قبر فيه فنبشوه فما وجدوا فيه شيئا. وكان ذلك في أيام الشيخ العالم محمد بن علي بن عبدالباقي، واستفتوه فيها، فأجابهم بأنه كالمفقود».
يحيلنا المرجع التراثي هنا على صورة مشابهة للمغيب عند السالمي، فإن الحكاية تؤكد على فعل الموت، ثم العودة إلى الحياة، والإقامة في مكان آخر ومختلف عن المكان الذي كان يسكنه. هنا تؤكد الروايات التراثية على فعل السحر ووجوده بكثرة في المجتمع، كما تؤكد على وجود المغيّب وهما شخصيتان تأخذان منحى عجائبيًا أسطوريًا في فعلهما.
وسواء آمنا بوقوع الحادثتين أو أنهما كانتا من نسج الرواة ونُقِلت إلينا عبر الزمن حتى رُصدت موثقة في مرجع؛ فإنّ صورة المغيّب تظهر لنا محمّلة بدلالات الضعف والخضوع في مواجهة قوة أخرى متمثلة في الشر يقودها الساحر كيفما أراد.
وفي ذلك يظهر دور الإنتاج الأدبي وتوليد الدلالات التي استغلها الكُتّاب في إنتاج نصوص أدبية قائمة على الصراع الفلسفي بين الشخصيات، وإيجاد دهشة وغرائبيّة في الفعل، إنه موضوع واسع يشتغل عليه الكُتّاب اليوم باللجوء إلى التراث واستعادة أحداثه وحكاياته مرة أخرى مولّدا قيما انغرست في المجتمع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلى الحیاة
إقرأ أيضاً:
وهج الزهد.. حين تضيء القناعة طريق الحياة الزوجية
محمد حسين الواسطي **
في زحمة الحياة المعاصرة - حيث تتشابك الأحلام مع الطموحات، وتختلط القيم بالمظاهر - يقف الإنسان حائرًا أمام سيل من المغريات المادية التي تغشي البصر عن نور البساطة والاعتدال. «حفلات الزواج» هذه المناسبات التي كان يفترض أن تكون واحة للفرح الصادق، أضحت للأسف مسرحًا للبذخ والتفاخر؛ حيث تقايض السعادة الحقيقية بمظاهر زائفة لا تدوم.
«الزهد» هو ذلك المنهج الذي يحرر القلب من التعلق بالماديات، ويجعله أكثر قربًا من القيم الإنسانية والروحية. فهو ليس فقرًا ولا حرمانًا؛ بل هو فن التوازن بين الروح والمادة، هو إدراك أن السعادة ليست فيما نملك؛ بل فيما نعيش.
وإن الدعوة إلى تطبيق مفهوم الزهد الذي دعانا الله ورسوله إليه لا تعني التقشف، ولا البخل، ولا التقتير، ولا التضييق على الأهل والعيال، فهذه صفات مذمومة في منظومتنا الأخلاقية؛ بل المقصود هو التحرر من التعلق المفرط بالماديات، والبعد عن الإسراف والتبذير، مع التمتع بنعم الله باعتدال وحكمة.
نحن اليوم أمام واقع يشهد فيه الزواج تحولًا من رباطٍ مقدسٍ إلى منافسة اجتماعية؛ حيث تنفق الأموال الطائلة على ليلة واحدة، وتثقل كاهل الأسر بأعباء الديون. كم من شاب أضناه البحث عن الاستقرار، وكم من عروس تألمت لأن فرحتها أحيطت بأعباء مالية لا تنتهي!
علينا أن نذعن بأن جوهر الزواج يكمن في النفوس المتآلفة، لا في الموائد المترعة، وفي المحبة الصادقة، لا في البريق الخادع. فليست حفلات الزواج مقياسًا لقيمة الحب؛ بل هي انعكاس لحالة من التفاهم والانسجام بين روحين اختارتا أن تسيرا معًا في درب الحياة. وما أجمل أن نعود إلى جوهر هذه المناسبات؛ حيث يكون الفرح في القلوب لا في الأضواء، وحيث تكون البساطة عنوانًا للبركة.
وكما قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77] وقال أيضًا: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27] فكيف لمن يسرف ويبذر في ليلة واحدة أن يحسن كما أحسن الله إليه وكيف له أن يبرر هذا التبذير وهو يعلم أن الله لا يحب المفسدين.
نعم؛ السعادة الحقيقية لا تقاس بما نملك؛ بل بما نحمله من رضا وقناعة. وكما قال أبو العتاهية (130هـ -211 هـ):
لَيسَ عَلى المَرءِ في قَناعَتِهِ // إِن هِيَ صَحَّت أَذىً وَلا نَصَبُ
مَن لَم يَكُن بِالكَفافِ مُقتَنِعًا // لَم تَكفِهِ الأَرضُ كُلُّها ذَهَبُ
لذلك نؤكد أن القناعة هي الأساس لحياة مليئة بالبركة والسكينة. ومن الضروري أن نؤمن بأن العودة إلى النظرة الزاهدة المعتدلة إلى الحياة وتطبيقها في حفلات الزواج ليست رجعية؛ بل هي استعادة للتوازن، وإحياء لقيم فطرية تجعل الحياة أكثر سكينةً وبهجة. فالزواج ليس استعراضًا للأموال؛ بل هو ميثاق غليظ، وأساسه المودة والرحمة، لا الإسراف والتفاخر. إنه فن تحقيق السعادة الداخلية من خلال القناعة والرضا، لا من خلال الخيلاء والتفاخر.
والمعنى الحقيقي للزهد قد اختصرته هذه الآية العظيمة: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23] فكم من إنسان يبالغ في الإنفاق، لا لأنه بحاجة إلى ذلك؛ بل لأنه يريد أن يظهر للناس مظهر الغنى والتفاخر، فيسرف في حفلات الزواج والمناسبات فقط ليقال إنه فعل، ولكن هل حقًا هذا ما يجلب السعادة أم أن السعادة تكمن في البساطة والرضا.
لنتأمل في حقيقة أن الحياة الحقيقية لا تقاس بما نجمعه من أموال أو مظاهر؛ بل بما نزرعه في قلوب الآخرين من خير وحب فما أجمل أن نجعل من حفلات زواجنا نموذجًا للاعتدال؛ حيث تكون كل لحظة فيها شهادة على قيمنا، وكل تفصيل فيها انعكاسًا لروحنا لنخرج من قيد الإسراف إلى رحابة الزهد، ومن عبودية المظاهر إلى حرية الجوهر.
الفرح الحقيقي لا يشترى، والبركة لا تباع، والسعادة الحقيقية تبنى على أرضية من الحب الصادق، والاحترام المتبادل، والاعتدال في كل شيء فلنكن نحن التغيير الذي نريد أن نراه في مجتمعنا، ولنجعل من حفلات الزواج فرصة لإظهار قيمنا النبيلة، لا لتكريس عاداتنا المرهقة لأن السعادة الحقيقية هي تلك التي تنبع من الداخل، وتضيء طريقًا طويلًا من الحياة المشتركة، بعيدًا عن وهج الأضواء الزائل.
** كاتب عراقي