كثيرة هي الحكايات المرتبطة بالمغيّبين، لا سيما التي دارت على ألسنة الناس في التعريف أو في سرد قصص المغيّب أو المسحور. ويُطلق لفظ "المَغايْبة" أو "المغيّب" على الإنسان الذي يعود حيّا من رحلة الموت وهو لفظٌ دَرَجَتْ عليه ألسنةُ الناس في المحكي الشفاهي.

وجاء ارتباط المغيّب بعالم السحر والسحرة الذين يقومون بأدوارهم في قتل الناس في إشارة إلى الخوارق العديدة التي تقام على أيدي السحرة، ومعها يمكن للمسحور بطريقة أو بأخرى بحسب الروايات الشفهية المتداولة العودة إلى عالم الحياة فارّا من سطوة الساحر إلى عالم التغييب، وهنا دارت ألسنة الناس بكثير من الحكايات والقصص، جعلت من هذا العالم خياليا إلى حدود لا يقبلها العقل البشري، فإلى أي حد يمكن عودة الميت إلى الحياة في هيئة فاقد للإدراك أو متلبس بصكوك ونذور أقامها عليه السحرة.

لقد استطاع الأدب العودة إلى التراث الشفهي في بناء نصوصه من مرجعياته الحكائية، فكما تطرقنا إلى صورة الساحر في المرجعيات التراثية، فإن للكتابة الأدبية والتراثية مرجعيات تخبرنا عن صورة المغيّبين، وهي صورة تأخذ انطلاقتها من الذاكرة التراثية والمكانية في مجتمعاتنا.

قد نجد صورة المغيّب حاضرة في الأدب العماني، وهي صورة مستمدة من التراث وحكاياته، وهنا فإنّ المتلقي يقف حائرا في قراءة الواقع وارتباطه بالكتابة الإبداعية، لكن وعلى ما يبدو فإنّ الأدب يكوّن مرجعياته الرئيسة من مدونات التراث المكتوبة جاعلا منها مرجعا مهما لنقل الصورة المتخيّلة للكتابة الأدبية، فنجد محمود الرحبي يستفيد مما كتبه نور الدين السالمي عن فتاة نزوى في كتابه تحفة الأعيان في نسج الحكاية السردية منفتحا على الحكاية الأصل، وكذلك فاطمة الشيدية في حفلة الموت، وكلتا الروايتين تناولتا صورة الفتاة المغيّبة من مصادر مكتوبة سنعرض لها لاحقا. وهنا تصبح الحكاية الشعبية أكثر رسوخا على المدى الطويل لأنها أُكّدت في هيئة نص تاريخي موثّق ومكتوب.

تظهر صورة المغيّب/ المغيّبة في كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان: ج2/ ص112) للسالمي، وفيه يحاول إثبات وقوع هذه الحادثة من خلال ذكر المكان الذي وقعت فيه الحادثة وهو منطقة سمد وسط السويق بنزوى، والزمن في عام 1109هـ في زمن الإمام سيف بن سلطان (قيد الأرض)، واسم والد الفتاة، ثم يعرض لنا قصيدة شعريةً مجهول قائلها، يقول فيها مع تجاوز بعض أبياتها:

لقد ظهرت أعجوبة في زماننا بقرية نزوى وهي أم العجائبِ

فتاة أناس بنت ستٍ توفيت وقد قبروها في قبور الأصاحبِ

ولكنهم من بعد ظنوا بأنها أصيبت بسحرٍ قول أهل التجاربِ

فساروا لحفر القبر من بعد دفنها فما وجدوها فيه يا ذا المآربِ

فبعد سنين قد مضت وتكاملت حساب تولّى عدّه غير كاذبِ

رآها فتى ترعى شياها وعندها فتاة من الأعراب عنها بجانب

تقرّب منها ثم أمعن طرفه فما شك أنّ الشخص عين المطالبِ

فقال لها من أنتِ قالت فلانة فتاة فلانٍ من كرامٍ أطائبِ

فأيقنَ حقّا أنها بنت ماجدٍ سليلُ سليمانٍ حليف المواهبِ

وجد أبيه ماجد بن ربيعةٍ فتى أحمدٍ أهل الندى والرغائبِ

وذاك بنزوى وهي من آلِ كندةٍ وقد صحَّ هذا الأمرُ مع كل كاتبِ

ترسم الأبيات السابقة التي عرضها السالمي صورة الفتاة المغيبة التي عادت إلى الحياة، فتظهر على الفتاة علامات الإدراك حتى بعد عودتها من الموت إلى الحياة، فقد ذكرت نسب أهلها، وعندما جاءوا بأهلها تعرّفت على أمها، وعندما سألوها عن حالها عندما وضعت في القبر أجابت بما فعله الساحر إذ أخرجها من القبر ثم تركها عريانة في الصحراء حتى مرّ عليها ناس من الأعراب فأخذوها معهم وجعلوها ترعى الأغنام لديهم.

ومع أن السالمي في عرضه للأبيات الشعرية دون نسبتها إلى قائلها، نجده يميل إلى رأي الشاعر على أن ذلك من فعل السحر، ويحاول تأكيد وقوع الحادثة بالاستدلال على المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الحادثة، فإنّ الحادثة تظل مع ذلك نوعا من الحكايات الشفهية التي تناقلها الناس وجمعها السالمي في كتابه وصارت نصا كتابيا يعبّر عن القيمة الموضوعية للحادثة.

كما تحيل القصيدة المذكورة على أسئلة عدة، عن طبيعة عودة الميت، ومستويات الإدراك لديه، وعن فعل الساحر وتركه للمسحور عائدا للحياة.

وتتقاطع القصيدة السابقة في مضمونها مع الحكاية التي أوردها سيف بن حمود بن حامد البطاشي في كتابه (إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان: ج2/ ص238) عن "رجل من وادي القريات مات، وشهد بموته ناس كثير من أهل البلد، واشتهر موته في وادي القريات جميعا، وغسلوه، وصلوا عليه، ودفنوه بمحضر أهل القرية، فأقام بعد ذلك ما شاء الله من السنين، ثم وُجد في قرية لوى من الباطنة. فلقيه رجل يعرفه، فقال له: ما أنت فلان بن فلان، الساكن وادي القريات؟ فقال له: نعم. وأبلغه أن زوجته اعتدت عدة الموتى، وتقاسم الورثة ماله. فطلب منه الرجوع إليهم ليأخذ ماله ويسترد زوجته. فقال: إنه مأخوذ عليه العهود والمواثيق أن لا يرجع إلى بلاده، وأبلغه بقصته أنه كان مريضا في بيته، والناس حوله، فنام، واستيقظ من نومه فما درى بنفسه إلا وهو في لوى. ثم علم أهل بلده فكذّب بعضهم بعضا وأتوا إلى القبر الذي قبر فيه فنبشوه فما وجدوا فيه شيئا. وكان ذلك في أيام الشيخ العالم محمد بن علي بن عبدالباقي، واستفتوه فيها، فأجابهم بأنه كالمفقود".

يحيلنا المرجع التراثي هنا على صورة مشابهة للمغيب عند السالمي، فإن الحكاية تؤكد على فعل الموت، ثم العودة إلى الحياة، والإقامة في مكان آخر ومختلف عن المكان الذي كان يسكنه. هنا تؤكد الروايات التراثية على فعل السحر ووجوده بكثرة في المجتمع، كما تؤكد على وجود المغيّب وهما شخصيتان تأخذان منحى عجائبيا أسطوريا في فعلهما.

وسواء آمنا بوقوع الحادثتين أو أنهما كانتا من نسج الرواة ونُقِلت إلينا عبر الزمن حتى رُصدت موثقة في مرجع؛ فإنّ صورة المغيّب تظهر لنا محمّلة بدلالات الضعف والخضوع في مواجهة قوة أخرى متمثلة في الشر يقودها الساحر كيفما أراد.

وفي ذلك يظهر دور الإنتاج الأدبي وتوليد الدلالات التي استغلها الكُتّاب في إنتاج نصوص أدبية قائمة على الصراع الفلسفي بين الشخصيات، وإيجاد دهشة وغرائبية في الفعل، إنه موضوع واسع يشتغل عليه الكُتّاب اليوم باللجوء إلى التراث واستعادة أحداثة وحكاياته مرة أخرى مولّدا قيما انغرست في المجتمع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى الحیاة

إقرأ أيضاً:

بعد تصدره التريند.. تعرف على مواعيد عرض مسلسل "فقرة الساحر"

تصدر مسلسل "فقرة الساحر" بطولة طه دسوقي وأسماء جلال ووعلي قاسم تريند محرك البحث الشهير "جوجل"، خلال الساعات القليلة الماضية، وذلك بعد عرض أولى حلقاته على منصة "يانجو بلاي"، مساء أول أمس الخميس.

 

ومن المقرر عرض حلقة جديدة أسبوعيًا على منصة "يانجو بلاي"، وبالتحديد يوم الخميس من كل أسبوع، في تمام الساعة الـ 8 مساءً، حيث أن مسلسل "فقرة الساحر" يتكون من 8 حلقات.

مسلسل فقرة الساحر أبطال وصناع مسلسل "فقرة الساحر"



مسلسل “فقرة الساحر” يضم عدد من النجوم منهم أسماء جلال، طه دسوقي وعلي قاسم، إلى جانب مجموعة من المواهب الصاعدة مع ظهور استثنائي ومؤثر لكبار النجوم في أدوار خاصة تضيف عمقًا للأحداث.

 

أحداث مسلسل "فقرة الساحر"

 

وتدور الأحداث حول حياة ثلاثة أصدقاء مقربين: لمى ومِكس وألفي الذين تبدأ علاقتهم كأصدقاء ثم تتحول إلى عصابة صغيرة، وبفضل مهاراتهم المتنوعة وخلفياتهم المختلفة  يضعون خططًا في تنفيذ عمليات احتيال ذكية، يهدفون إلى تحقيق مكاسب مادية كبيرة، حيث يختارون أهدافهم بعناية ولا يستهدفون إلا من يرون أنهم يستحقون وذلك في إطار كوميدي خفيف، يوازن بين المغامرات المثيرة والمواقف الطريفة، مما يجعلها رحلة ممتعة ومليئة بالإثارة والضحك.

مقالات مشابهة

  • طه دسوقي يعلن انتهاء تصوير فيلم سيكو سيكو.. صور
  • الفنانة التشكيلية «مريم الوهيبية» لـ «عمان»: أحب رسم الوجوه لأن عنوان الحكاية دائما يبدأ منها
  • طلعت فنكوش| حقيقة حذف الفنان ياسمين صبري من التموين.. ايه الحكاية؟
  • الفتح يقدم ملامح تأييد المرجعية لـ الحشد الشعبي: لن يُحل صمام امان العراق
  • الفتح يقدم ملامح تأييد المرجعية لـ الحشد الشعبي: لن يُحل صمام امان العراق - عاجل
  • بعد تصدره التريند.. تعرف على مواعيد عرض مسلسل "فقرة الساحر"
  • النجف: المرجعية الدينية تأمل من الكورد الحفاظ على وحدة العراق
  • هضربك بالنار| تفاصيل خناقة لاعب الأهلي بشوارع العجوزة .. ايه الحكاية؟
  • الجمعية العمانية للكتاب والأدباء تحتفي باليوم العالمي للغة العربية بالمصنعة
  • مخرج فقرة الساحر: المسلسل مليء بالمشاعر الإنسانية