رحيل الناقدة سيزا قاسم عن عمر يناهز الـ 89 عامًا
تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT
رحلت عن عالمنا في الساعات الأولى من صباح اليوم، الإثنين، الموافق 8 يناير الجاري، الناقدة والمفكرة سيزا قاسم، أستاذة النقد الأدبي في الجامعة الأمريكية، عن عمر يناهز الـ 89 عامًا.
حيث أعلن الناقد جرجس شكري مدير النشر السابق بالهيئة العامة لقصور الثقافة عن رحيل أستاذة ومعلمة الجيل الأستاذة سيزا قاسم والتي كانت الهيئة العامة لقصور الثقافة قد قامت بنشر بعض اصداراتها .
والناقدة والأكاديمية الكبيرة سيزا قاسم هي باحثة وأديبة مصرية، وأستاذة النقد الأدبى بالجامعة الأمريكية، من مواليد 8 ديسمبر عام 1935 ، وأصدرت كتابها "بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ"، وهو طبعة منقحة لرسالتها الجامعية "الواقعية الفرنسية والرواية العربية في مصر من عام 1945 حتى 1960" التى تقدمت بها 1978 للحصول على درجة الدكتوراه من كلية آداب جامعة القاهرة، واعتبرتها أفضل الأعمال الروائية في الأدب العربي الحديث وأكملها بناء، وأولها في الشكل الروائي القائم على رواية الأجيال، حيث تتبعت دراستها التقنيات المختلفة التي استخدمها محفوظ في كتابة الثلاثية، وقارنتها بتقنيات الرواية الغربية المشابهة والمعروفة باسم روايات الأنهار أو الأجيال.
وتعد الدكتورة الراحلة الكبيرة سيزا قاسم أحد أبرز الأسماء وأهمها بين النقاد العرب المعاصرين الذين تخصصوا في دراسة الأدب المقارن، سواء كان معاصراً أم من التراث، وكانت رسالتها للحصول على درجة الماجستير عن "طوق الحمامة في الألفة والآلاف لابن حزم الأندلسي"، تحليلا ومقارنة بقصص الحب في التراث الغربي.
ويعد "طوق الحمامة فى الألفة والألاف" لصاحبها ابن حزم الأندلسى، وهو من أكبر علماء الإسلام والثقافة العربية، والذي يعد أحد أبرز الكتب التراثية في القرن الفائت، وقالت عنه: "فتننى ابن حزم منذ اللحظة الأولى التى قرأت فيها الطوق فى السبعينيات، لم يفقد قيمته عندما عدت إليه بعد كل هذه السنين".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سیزا قاسم
إقرأ أيضاً:
السَّاردُ السَّاحر
عرفت الأستاذ صلاح الدين بوجاه - رحمه الله - أستاذا فـي المعهد الثانوي، وأنا فتى صغير، أحاول كتابة القصة وألتهم الأدب التهاما، وأرى فـي جيل أدباء السبعينيات نماذج عليا، فحضرت بعضا من دروسه، وشدتني أناقة لغته، وسعة اطلاعه وعمق تواضعه ووفرة ابتسامته، وغزارة علمه، وسيطرته على اللسانيين، فهو الهمذاني والتوحيدي والجاحظ ساعة يتكلم العربية، وهو بالزاك وفلوبير ساعة يقلب متحدثا بلغة الفرنسيين، ثم غاب عنا مدة وجيزة، إذ انتقل إلى التدريس فـي الجامعة، والتقيته من بعد ذلك، أستاذا لي فـي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، يدرسني مقرر الحضارة، وكانت المسألة «فتوح البلدان» للبلاذري، ومن ساعتها لم نفترق إلى أن تغمده الله برحمته الواسعة، شاركته مرجعيات كان مهووسا بها من أدب العرب والفرنسيين، أطْلعني على كنز ألف ليلة وليلة، الكتاب الذي صاحبني منذ الطفولة متعة قراءة، وتحول معه إلى ثراء لأرضية نقدية أكتشف منها فنون القصص، كان قارئا، مواكبا لمحدثات التجديد القصصي فـي الغرب، منصرفا إلى الأدب المقارن، ومن الخصال الجيدة آنذاك فـي الجامعة التونسية أن الأستاذ المساعد فـي التعليم العالي لا ينعم - بالضرورة - بتدريس اختصاصه، وإنما هو - برغبته أحيانا، وإكراها أحيانا أخرى - يجب أن يطوف على التخصصات ليتكون فـيها مع طلبته قبل أن يستقر فـي تخصصه، ولذلك فقد أفادنا صلاح الدين بوجاه بشكل لافت فـي درس الحضارة ودرس الأسلوبية وأبدع فـي درس الرواية. لقد ساهمت مدينة القيروان فـي تشكيل الخلفـية الأدبية والنقدية والمعرفـية لصلاح الدين بوجاه، كما فعلت مع محمد الغزي ومع منصف الوهايبي ومع جعفر ماجد ومع البشير القهواجي، وغيرهم من الفاعلين فـي المجال الأدبي. القيروان مدينة حاضنة للفقهاء والأدباء والمجانين، بإرثها الديني والأدبي، وبما بقي فـيها من آثار وبقايا عهود السيادة والألق والريادة، يشعر أبناؤها أنهم من سلالة أدب وعلم، ويفخرون بما ترك لهم من منابر وجدران وصوامع ومخطوطات، ولذلك وجد صلاح الدين بوجاه مهجعه واستكانته وساح فـي فضاءاتها وتفاعل مع أطلالها الباقية، وجاور أولياءها، وتشرب من أسفارها وعايش من بقي من أنفاس علي الحصري وابن رشيق من شعراء وأدباء نهجوا النهج السلفـي فـي الكتابة شعرا ونثرا، وغذاه والده من ثراء مكتبته وهو غض طري، فابتلاه ببلوة الأدب عشقا وهياما، يقول فـي حوار معه: «قـضيت السنوات العشر الأولى من طـفولتي فـي ريف سـيدي فرحات (منطقة ريـفـية قريـبة من مدينة القيروان). وكانت مكتبة الوالد فـي ذلك الوقت بمثابة غـنم كبير بالنسبة إلي. فكان الريف والصمت والكتب فضاء رحبا مكـنني من الغوص فـي ذاتي والبحث عن أجـوبة خـفـية للاستفهامات الكبرى التي أحاطت بي مبكرا. أما باقي العمر الذي يتجاوز الأربعـين سنة فـقد قضيـته فـي محراب القيروان المدينة المـفعـمة رخاما وترابا وأساطير».
القيروان مدينة المجانين، ففـيها البهلول بن راشد، حكيم المجانين، ومن سلالته وفرة من المجانين العقلاء يملؤون المدينة، وفـيها علي الحصري، صاحب الأشعار الجياد، وابن رشيق القيرواني صاحب العمدة، وعنه نتج عدد من الأدباء ما زالوا يمثلون المدرسة القيروانية فـي الأدب. اختار صلاح الدين بوجاه أن يكون وريثا وفـيا لآبائه، عينه على التراث، وعينه الأخرى على الأدب الفرنسي، وخاصة منه أصحاب «الرواية الجديدة» تنظيرا وإبداعا، فنهل من هذا وذاك، إبداعا ونقدا، ووجد فـي طريق الأدب المقارن سبيلا جامعا بين المختلفـين، فكتب فـي ذلك نقدا ودراسة ما أثْرى به المكتبة العربية وأبلغ تصوره للإبداع، من ذلك مثلا كتابه «كيف أثبت هذا الكلام» و«أدبية الاختلاف» و«الشيء بين الجوهر والعرض»، «مقالة فـي الرواية»، وكتابه الرائع، بالغ الأثر فـي الدراسات المقارنية «فـي الألفة والاختلاف، بين الرواية العربية والرواية المكتوبة بالفرنسية فـي تونس»، ومن هذا التراكم النقدي يمكن أن ندرك دعوة صلاح الدين بوجاه إلى ابتكار أرضية نقدية لا تطابق النظر الغربي ولا تتشربه تمام التشرب، وإنما هي تستلهم قوانينها وضوابطها من روح الأدب العربي الذي أسس قديمه أرضية متينة يمكن الاستناد عليها، ولذلك، فقد دخل التجريب الروائي عن وعي وإدراك، فكتب أول ما كتب من رواية، عملا يستلهم الشكل الإخباري العربي القديم، وبنى روايته على المتن والهامش، وهي التجربة العربية الأولى فـي الكتابة الروائية ظهرت فـي روايته «مدونة الاعترافات والأسرار»، ثم طفق من بعد ذلك، يستلهم من ألف ليلة وليلة، ومن أدب الرحلة، ومن المقامة، فـي رواية حققت القبول الحسن شرقا وغربا، ففتح بابا وسيعا من محاورة الأشكال التراثية السردية، وهي رواية النخاس، التي بها حقق انتشارا ومقروئية، وكانت رواية «التاج والخنجر والجسد» داخلة فـي الإطار ذاته من تجريب الأشكال وإعمال لغة صوفـية، ضاربة فـي القدم.
وصفه بعض النقاد الشرقيين، بأنه واءم الصدع الحال بين أدب المغرب وأدب المشرق، وأنه تلقى التلقي الحسن فـي بلاد المشرق، وقرئت أعماله وانتشرت فـيها، إذ قال صبري حافظ إن رواية النخاس تؤرخ لبداية حوار بين النصوص التونسية والنصوص العربية فـي المشرق. صلاح الدين بوجاه، هو مثال الجامع بين لطافة النقد وحسن إجرائه واختباره وإعماله فـي نصوص شعرية ونثرية، وكتابة الرواية والقصة، وهو فـي الفعلين، وفـي الصورتين، مهتم باللغة الرامزة، يجريها لعبا وجدا، انصاعت له لغة العرب، التي يراها ميزة وخصيصة فـي جمالها وألقها يمكن أن تؤسس ما أسماه هو بالرواية اللغوية، الرواية التي تحتفـي باللغة، وتضعها بؤرة يتركز عليها السرد، ولعله من هذا المنطلق قرر علينا ونحن فـي سنتنا الثانية من التعليم الجامعي رواية لم نسمع بها، ولم نعلم بصاحبها، وهي رواية «الجواشن» لقاسم حداد وأمين صالح، وهي رواية اللغة بامتياز، ومنه تفتحت أعيننا على كتب فـي التراث لم نكن نقف على منزلتها، وعلى أدباء معاصرين اضطررنا لتتبع آثارهم. والأهم من كل ذلك أنه علمنا حيل اللغة، وإدراك جمالها، اللغة فـي روايات صلاح الدين بوجاه، كما فـي دروسه، هي محراب صوفـي، هي متأسسة على عمق رمزي وسيع. أختم بانصراف بوجاه فـي رواياته إلى دمج الأسطوري والواقعي، الأسطورة فـي رواياته ليست عاملا موظفا، وإنما هي الواقع ذاته، أو هي البعد الثالث للواقعية فـي مصطلح بوجاه. «سبع صبايا»، «لون الروح»، «النخاس»، «التاج والخنجر والجسد»، كلها فضاءات سردية، تعْمل الأسطورة وجها من الواقع، وتصرف اللغة لإيقاظ الأساطير بطرائق شتى. لقد أفنى بوجاه جهده فـي البحث عن الشكل الأمثل لرواية عربية مميزة، والعمل الأدبي فـي نهاية المطاف، على حد عبارة هولدرلاين «هو بحث عن الشكل»، الذي سخر له بوجاه، اللغة والشخصيات والألوان والأصباغ لخلقه، «أفلا يمكن القول إن مشروع الكتابة عند صلاح الدين بوجاه قائم على «البحث عن الشكل» مع كل رواية جديدة! هكذا تكون «المدونة» استرجاعا لشكل المتن والحاشية، و«التاج والخنجر والجسد» استدراجا للسيرة الذاتية، و«النخاس» مداورة للملحمة، و«السيرك» قراءة للعمارة العربية، و«سبع صبايا» استباقا للأسطورة».