المترجمة والكاتبة العُمانية زوينة آل تويه: نستضيف ثقافات أخرى لفهم ذواتنا
تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT
يمكن وصف المترجمين بأنهم الجنود المجهولون الذين كانت، وما تزال، لهم اليد الطولى في تغيير ذائقات وطبائع وحتى أفكار وحيوات الكثيرين من قرّائهم، إذ لا يُنكر أحد دور الترجمات الأدبية والثقافية من اللغات العالميّة إلى العربيّة في إحداث الفارق والتأثير ليس فقط لدى القراء، بل كذلك لدى الكُتّاب والمفكرين الناطقين بالعربيّة.
لذلك تحاول الجزيرة نت، من خلال هذه المساحة، أن تُلقي الضوء على جوانب عديدة من الترجمات وأعمال المترجمين، كإضاءة على تلك الجهود.
في هذه الحلقة نحاور المترجمة والكاتبة العُمانية زوينة آل تويه حول ترجمة الأدب المكتوب بالإنجليزيّة، اصطلاحاً، إلى اللغة العربية، ولأنه أدب ضخم وواسع وعريض، مكتوب في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وإيرلندا.. إلخ.
لذلك خصصنا حواراً مع المترجم والكاتب السوري أسامة إسبر للحديث عن ترجمة الأدب الأميركي إلى العربية، بينما سنخصص هذه الحلقة والحوار عن الأدب المكتوب بالإنجليزية في باقي المناطق، وسنطلق عليه هنا ترجمة الأدب الإنجليزي إلى العربية لتقصير ما نبتغيه من أدب مكتوب بالإنجليزية في باقي الأماكن خارج الولايات المتحدة.
والكاتبة العمانيّة تحمل شهادة الماجستير في دراسات الترجمة من جامعة إدنبره، المملكة المتحدة، عام 2007. وصدرت لها العديد من الترجمات، منها رواية "هامنت" للكاتبة الأيرلندية البريطانية ماغي أوفارل (2022)، ورواية "عمدة كاستربردج" للكاتب الإنجليزي تومَس هاردي (2019)، ورواية "مائدة القط" للكاتب السريلانكي الكندي مايكل أونداتجي (2019)، ورواية "ما رأيكم في شكلي الآن؟" للكاتبة الفلسطينية الأسترالية رندة عبد الفتَّاح (2012).
وسيصدر من ترجماتها قريباً كتاب "شهرٌ في سيينَّا" للروائي الليبي البريطاني هشام مطر، الحائز على جائزة بوليتزر، للسيرة، لعام 2017، ورواية "الهدية الأخيرة" للروائي التنزاني البريطاني عبد الرزاق غرنة، الحائز على جائزة نوبل للآداب لعام 2021. وشاركت زوينة في العديد من ورش الترجمة وتحرير الكتب المترجمة من الإنجليزية، في القاهرة وأبو ظبي والشارقة، منذ عام 2010. والإشراف على مختبر الترجمة في مؤسسة بيت الزبير بين عامي 2018 و 2020. ولزوينة آل تويه مجموعة قصصية بعنوان "المرأة الواقفة تجلس" كتاب مجلة نزوى، وصدرت عام 2005، فإلى الحوار:
غنيٌّ عن البيان أنَّ آداب العالم كلها جديرة بالاهتمام والبحث والترجمة، فهي تروي قصة الإنسان في كل مكان وزمان، والترجمة من أمثل الوسائل لنقل قصص الشعوب وآدابها وفنونها وثقافاتها بين اللغات المختلفة.
وإذا أردنا تخصيص الحديث عن الأدب المكتوب بالإنجليزية فإننا لا نقصره على إنجلترا وحدها، وإنما نقصد به أيضًا ما يُكتَب في أيرلندا وأسكتلندا وويلز وكندا وأميركا وأستراليا ونيوزيلندا، ويشمل ذلك حِقَبًا تاريخية مختلفة. أرى أن هذا الأدب يشكِّل مخزونًا ثريًّا للترجمة، ليس فقط لأنه عرَّفنا بكُتَّاب من أمثال شكسبير (ولد عام 1564 وتوفي عام 1616) وجون ملتن (1608- 1674) واللورد بايرن (1788- 1824) وجيمس جويس (1882- 1941) وجورج أورويل (1903- 1950) وفرجينيا وولف (1882- 1941) وأوسكار وايلد (1854- 1900) وكثيرين غيرهم، بل لأنه أيضًا يجمع أعراقًا وثقافات سخيَّة التنوع أتت بها رياح الاستعمار والمنفى والهجرة والشَّتات.
عندما نترجم هذا الأدب المتنوِّع إلى العربية فإننا نستضيف في ثقافتنا ثقافات أخرى تتيح لنا فهم ذواتنا من خلال فهم الآخر ورؤيته من زوايا مختلفة
من خلال هذا الأدب عرفنا كُتَّابًا من أصول مختلفة كتبوا بالإنجليزية مثل جوزيف كونراد (1857- 1924) وتشينوا أتشيبي (1930- 2013) وكازو إيشيغورو (1954) ومايكل أونداتجي (1943) وعبد الرزاق قرنح (1948) وهشام مطر (1970) وسواهم. وهنا أيضًا تكمن أهمية ترجمة الأدب المكتوب بالإنجليزية، إذ ينقله إلينا كُتَّاب خَبَروا صراع الهُوِيَّة والوجود بين ثقافتين ولغتين. نجد أن الأدب الإنجليزي نفسه قد اغتنى بهذه الثقافات واتسع مداه، ومن ثم أصبحت حاجة ترجمته إلى لغات أخرى مُلِحَّة.
عندما نترجم هذا الأدب المتنوِّع إلى العربية، فإننا نستضيف في ثقافتنا ثقافات أخرى تتيح لنا فهم ذواتنا من خلال فهم الآخر ورؤيته من زوايا مختلفة.
حين يقرأ القارئ العربي كاتبًا يكتب بالإنجليزية، وهو من أصول أفريقية أو آسيوية أو حتى عربية، فهو لا يقرأ أدبًا مترجمًا من الإنجليزية فحسب، بل يطالع أيضًا ثقافة بعينها تحمله إلى بلاد أخرى وزمان آخر حتى ليحسب أن هذا الأدب إنما تُرجِم من لغته الأصلية وليس من اللغة الإنجليزية، وأن الكاتب كتبه بلغة أسلافه لا بالإنجليزية التي اتخذها لغة عيش وكتابة.
الرصانة والأخطاء الشائعة هل تأخرنا في ترجمة الأدب الإنجليزي؟ وماذا عن ترجمة الأدب العربي إلى قرّاء الإنجليزيّة؟نعرف أن العصر العباسي الأول كان عصرًا ذهبيًّا شهد ازدهارًا في ترجمة الأدب والمنطق والفلسفة والطب والعلوم من طائفة من اللغات، كاليونانية والسريانية والفارسية والهندية وغيرها. لكننا في العصر الحديث تأخرنا في ترجمة الأدب من الإنجليزية واللغات الأخرى بسبب الاحتلال الذي رزحت الدول العربية تحت وطأته دهرًا.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن أحوج إلى نقل علومنا وآدابنا إلى اللغات الأخرى، وذلك لتبديد سوء الفهم المهيمن في عالمٍ تحكمه وتحدِّد ملامحه وثقافته وما ينبغي أن يُعرَف وما ينبغي أن يُجهَل فيه قوى استعماريةٌ عظمى
ولعل أوضح بداية شهدتها الترجمة الحديثة عمومًا كانت في القرن الـ19 بمصر في عهد محمد علي باشا، مؤسِّس مصر الحديثة، الذي اهتم كثيرًا بالتعليم والعمران والزراعة والصناعة، وازدهرت الترجمة الأدبية إلى العربية في عصره. إلَّا أن التأخر الأفدح في الترجمة حتى يومنا هذا يتضح أكثر في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات، في الأدب والمجالات الأخرى سواءٌ.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن أحوج إلى نقل علومنا وآدابنا إلى اللغات الأخرى، وذلك لتبديد سوء الفهم المهيمن في عالمٍ تحكمه وتحدِّد ملامحه وثقافته وما ينبغي أن يُعرَف وما ينبغي أن يُجهَل فيه قوى استعماريةٌ عظمى.
الصحافة العربية وأغلب الكتب المنشورة والمترجمة بالعربية اليوم تعاني آفة الأخطاء الشائعة. المترجمون العرب الأوائل كانوا مثالًا على الرصانة والتمكن والعمل الدؤوب
كيف تنظرين إلى عمل المترجمين الذين سبقوك في هذا المجال؟عندما نستحضر روائع الأدب الإنجليزي المترجمة إلى العربية تبرز أسماء كبار المترجمين الذين أفنوا حياتهم في الترجمة مثل منير البعلبكي وجبرا إبراهيم جبرا وإحسان عباس ومحمد عناني وغيرهم. هؤلاء مدرسة نادرة في العربية الفصيحة وبلاغة اللسان وتمكُّنه من لغته الأم وليس من اللغة الأخرى فقط، ونأيه عما غدا اليوم أخطاء شائعة طالت أساليب العربية واستعمالاتها وأضعفتها وأخضعتها لتأثير الإنجليزية وغيرها.
إن الصحافة العربية وأغلب الكتب المنشورة والمترجمة بالعربية اليوم تعاني آفة الأخطاء الشائعة. المترجمون العرب الأوائل كانوا مثالًا على الرصانة والتمكن والعمل الدؤوب، بيد أن جُلَّ ما ترجموه اقتصر على أشهر الأعمال، وهناك أعمال كلاسيكية كثيرة لم تُترجم بعد.
غياب النهج الواضح هناك تركيز على فن الرواية بينما نادرا ما يترجم المسرح أو الشعر. هل يعود ذلك لدور النشر العربية أم اختيارات المترجم؟لعل غلبة ترجمة الرواية تعود في مجملها إلى سيادة هذا النوع الأدبي أكثر من غيره في مختلف اللغات، وقد تشير إلى تراجع أهمية أنواع أجناس الأدب الأخرى أو تراجع جودتها. إلا أن اختيارات دور النشر والمترجمين لها تأثير في ذلك أيضًا.
ترجمة الرواية مهيمنة أكثر من ترجمة الشعر والمسرح وحتى القصة القصيرة، وذلك مردُّه إلى غياب نهج واضح وتأسيس ثابت لرصد وتحديد ما يجدر اختياره وترجمته من أي نوع أدبي، إذ إن أغلب ما يُترجَم إلى العربية إمَّا أنه يُترجَم بجهود فردية وإمَّا باختيار دور النشر
في سياق الترجمة في العالم العربي، فإن ترجمة الرواية مهيمنة أكثر من ترجمة الشعر والمسرح وحتى القصة القصيرة، وذلك مردُّه إلى غياب نهج واضح وتأسيس ثابت لرصد وتحديد ما يجدر اختياره وترجمته من أي نوع أدبي، إذ إن أغلب ما يُترجَم إلى العربية إمَّا أنه يُترجَم بجهود فردية وإمَّا باختيار دور النشر، فلا عجب أن نشهد تخبُّطًا في اختيار الأعمال للترجمة. ويحدث كثيرًا أن يُترجَم عمل أدبي أكثر من مرة دون تنسيق أو دراسة لمدى أهمية إعادة ترجمة العمل نفسه، في حين تُغفَل ترجمة أعمال أخرى مهمة.
هذا السؤال يؤكِّد إجابة السؤال السابق، فمع غياب مؤسسات ثقافية تتبنى مشروعات كبرى تنهض بالترجمة وتُعنى ليس فقط بسد الفجوة وتلاشي أوجه التقصير بل بمواكبة العالم، يبدو تخلُّفنا جليًّا في هذا الشأن.
تُهمَل ترجمة أعمال كثيرة مهمة قديمة وحديثة، ويُصَبّ التركيز على الأعمال الفائزة بالجوائز دونًا عن غيرها
لهذا السبب تُهمَل ترجمة أعمال كثيرة مهمة قديمة وحديثة، ويُصَبّ التركيز على الأعمال الفائزة بالجوائز دونًا عن غيرها. هناك جهود تبذلها بعض دور النشر العربية في الالتفات إلى أعمال قديمة لم تُترجم من قبل وأعمال مهمة لم تنل جوائز، لكن هذه الجهود تبقى في نطاق محدود.
أن يكون هناك بيتٌ عربي يُعنى بالترجمة على غرار بيت الحكمة العباسي (قال ذلك المترجم أسامة إسبر، رغم أنهما لم يشاهدا إجابات بعضهما البعض – المُحاور) له مكتبته وأقسامه المختلفة ومشرفوه ومترجموه ومؤلِّفوه ومحرِّروه ونقَّاده. بيتٌ نعرف فيه ما نترجمه من قديم ومن حديث وما ينبغي أن نعيد ترجمته، ونحرص فيه أشد الحرص على ترجمة فكرنا وثقافتنا وعلومنا وفنوننا إلى لغات العالم.
كثيرًا مما يُترجم اليوم يُكتب بلغة عربية ركيكة هجينة أقصى همّها موافقة النص الأصلي في بنيته اللغوية. الترجمة تتيح للمترجم العربي فرصة تعلُّم لغته من جديد والعودة إلى أصولها ومنابعها لأن ذلك من شأنه أيضًا أن يرقى بلسان القارئ العربي وذوقه اللغوي
أمَّا ما سيُثلج قلوب القُرَّاء في الترجمة من الإنجليزية وغيرها إلى العربية، فهو أن يعيد المترجم العربي النظر في لغته العربية. إن كثيرًا مما يُترجم اليوم يُكتب بلغة عربية ركيكة هجينة أقصى همّها موافقة النص الأصلي في بنيته اللغوية. الترجمة تتيح للمترجم العربي فرصة تعلُّم لغته من جديد والعودة إلى أصولها ومنابعها لأن ذلك من شأنه أيضًا أن يرقى بلسان القارئ العربي وذوقه اللغوي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الأدب الإنجلیزی من الإنجلیزیة ة إلى العربی ترجمة الأدب إلى العربیة الترجمة من فی الترجمة دور النشر هذا الأدب أکثر من من خلال ل ترجمة ی ترج م ی ترجم کثیر ا
إقرأ أيضاً:
قبور عُمانية بلا شواهد!
وعدتُ فـي نهاية مقال الأسبوع الماضي أن أسرد حكاية تدمير الإنجليز لقصر «بيت الحكم»؛ أحد أهم مفردات التاريخ العُماني فـي شرق أفريقيا، والذي كان يتوسط «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، وقد دمره الإنجليز تدميرًا كاملًا بالفعل يوم 27 أغسطس 1896، فـي اعتداء سافِر حدث اعتراضًا على تسلّم السيد خالد بن برغش الحكم. وجراء هذا الاعتداء لم يحكم السيد خالد إلا ثلاثة أيام فقط، وكان مدفوعًا بقوة التأييد الشعبي الواسع له ومساندة قوة الحرس السلطاني التي خلفها له السلطان حمد بن ثويني. وتنقل الموسوعة العُمانية عن السيد خالد أنه كان «يرى فـي تسلط الإدارة الإنجليزية بحجة اتفاقية الحماية تدخلًا فـي سيادة الدولة لا يمكن الرضوخ له، وكان السلطان حمد بن ثويني مشجعًا له فـي تعميق توجهه المضاد للاستعمار من خلال إسناد بعض المهام القيادية إليه، ووجد أنه يتمتع بشعبية وطنية قوية بين العرب، وكان يظن أنّ الإدارة الإنجليزية سترضخ للإرادة الشعبية، وعندما اشتد على السلطان حمد بن ثويني مرض موته، أرسل إلى السيد خالد بألا يتأخر بعد وفاته عن ارتقاء العرش»، لكن الإنجليز كان لهم رأيٌ آخر، «فبعد انقضاء مهلة الأيام الثلاثة التي منحتها له سلطة الحماية للخروج من القصر بتاريخ 27 أغسطس 1896 وامتناعه عن ذلك، قصفت البوارج البريطانية «بيت الحكم» و«بيت العجائب» و«بيت الساحل»، مسجلة بذلك ما عُرف زورًا وبهتانًا بحادثة «أقصر حرب فـي التاريخ».
وفـي الواقع لم تكن تلك حربًا ولا هم يحزنون، وإنما كانت عدوانًا سافرًا -كما سبقت الإشارة- وتدخلًا فـي شؤون السلطنة، خرج بعدها السيد خالد بن برغش من أنقاض قصر الحكم بمساندة رئيس الحرس السلطاني الذي بقي مواليًا لسيده ومرابطًا معه، فاتجه به مباشرة إلى القنصلية الألمانية، ونقله الألمان إلى دار السلام التي كانت مستعمرة ألمانية وبقي هناك لاجئًا سياسيًّا، ماكثًا فـيها حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، وعندما خسر الألمان الحرب عرضت عليه الإدارة الألمانية الانتقال والعيش فـي برلين إلا أنه رفض، فنفته بريطانيا إلى سيشل ثم جزيرة سانت هيلانة، ثم سمحت له الإدارة البريطانية بالعيش فـي ممباسا بعد تدخل واليها السيد علي بن سالم البوسعيدي، وبقي فـيها حتى وفاته عام 1927.
المحزن فـي حكاية تدمير «بيت الحكم» من قبل الإنجليز أنه لم يُعَد بناؤه بعد ذلك، وإنما حُوِّل إلى حديقة، على عكس «بيت الساحل» الذي رُمِّم وأجريت له بعض الإصلاحات.
على بعد خطوات من «بيت الساحل»، وفـي الباحة الداخلية، حيث نسير وراء دليلنا السياحي محمد، وجدنا المقبرة السلطانية مفتوحة فتوّجهنا إليها. من الجيد أن أذكِّر هنا أن هذه المقبرة أنشأها السيد سعيد بن سلطان لدفن المتوفـين من الأسرة البوسعيدية الحاكمة، وقد ظلّ أموات هذه الأسرة يُدفنون فـيها حتى انتهاء الحُكم العُماني عام 1964. سألتنا موظفة الاستقبال: هل أنتم ضيوف أم من أبناء البلد؟ فأجبناها أننا ضيوف، وقد كان سؤالها لأنّ رسوم تذكرة الدخول للضيوف تختلف عنها للمواطنين. وبعد أن دفعنا الرسوم المقررة أخذتنا هذه الموظفة فـي جولة داخل مبنى بجانب المقبرة، عبارة عن المعرض الوثائقي والتاريخي الدائم للمقبرة السلطانية بزنجبار، الذي هو من تنظيم هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العُمانية، بعد إجرائها أعمال تحسينات وصيانة وترميم لتلك المقبرة، وبات فـيها أرشيف دائم يؤرخ لأسماء وتواريخ المدفونين فـيها. وقد أحسنت الهيئة بهذا الصنيع؛ فحالة المقبرة قبل الترميم كان يُرثى لها، وكلُّ الشواهد على القبور اختفت؛ بل إنّ الأمر الأسوأ أنها كانت مفتوحة ويدخلها العابثون، وسبق لي أن كتبتُ عن ذلك فـي أحد مقالاتي، غير أنّ المفاجأة السارّة هذه المرة، أنّ الفرق صار شاسعًا على الصعيد الإيجابي بالطبع.
تنقسم المقبرة إلى ثلاثة أجزاء، وتضم عددًا من القبور يصل عددها إلى سبعة وثمانين قبرًا، كما يتضمن الضريحُ الذي يقع فـي الركن الشمالي للمقبرة -وهو أبرز معلم فـيها- قبرَ السيد سعيد بن سلطان، إضافة إلى ثمانية قبور أخرى. شيَّد هذا الضريح السلطان ماجد بن سعيد تكريمًا لأبيه، حيث أرسل إلى الهند يطلب المهندسين والبنّائين والأحجار المناسبة وغير ذلك من مواد البناء، وأنفق فـي سبيل ذلك أموالًا كثيرة، فشرع فـي بناء مقام الضريح الذي ضمَّ فـيما بعد قبور السلاطين ماجد وبرغش وخليفة بن سعيد، الذين تولوا حكم زنجبار بعد وفاة أبيهم. ويحكي الشيخ سعيد بن علي المغيري فـي كتابه «جهينة الأخبار فـي تاريخ زنجبار» أنه عندما بلغ بناء القبة ارتفاعًا معينًا، اعترض المطاوعة (علماء الدين) على ذلك البناء وعدّوه منكرًا عظيمًا وأفتوا بعدم جواز البناء على القبور، فلم ير السيد ماجد بُدًّا من الانصياع لاعتراضات هؤلاء العلماء وأهمل البناء. «والذي يشاهد ذلك المقام اليوم يرى ذلك النحت البديع البادي فـي أعمدته، وتلك النقوش الفنية البارعة فـي بنيانه، ويتصور مقدار حسنه ونفاسته رغم أنه قديم ولم يكتمل، ويرى كم فقدت مدينة زنجبار جاذبية سياحية نتيجة إهمال ذلك التذكار على ضريح ذلك الرجل الجليل»، كما يقول المغيري.
وقد ذكرَتْ لنا موظفة أرشيف المقبرة أنّ جميع سلاطين زنجبار ابتداءً من السيد سعيد بن سلطان دُفنوا فـي تلك المقبرة عدا اثنين منهم هما: السلطان علي بن حمود الذي دفن فـي فرنسا، والسيد خالد بن برغش الذي دفن فـي ممباسا بكينيا حاليًّا، أما آخر السلاطين العُمانيين السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب فقد توفـي فـي الثلاثين من ديسمبر 2024، أي بعد انتهاء هذه الرحلة بنحو أسبوعين.
وفـي نهاية زيارتنا للمقبرة السلطانية، وجّهنا -أنا وسيف- ملاحظة لموظفة الاستقبال بأنّ القبور حتى الآن ليس بها شواهد، وإنما هناك شرحٌ مفصل لجهات المقبرة ولمن دفن فـيها. بل إنه حتى من دفن بجانب قبر السيد سعيد بن سلطان من أبنائه، لا توجد شواهد على قبورهم، وهم الذين تولوا السلطة من بعده. وبالطبع فإنّ وجود الشواهد على تلك القبور كان سيضيف بُعدًا معرفـيًّا للمقبرة، وما من شك لديّ أنّ الشواهد كانت موجودة، وربما كان الهرج والمرج الذي ساد بعيد الانقلاب هو ما أدى إلى اقتلاعها فـي إطار الحقد الأعمى على كلِّ ما هو عُماني فـي تلك الفترة العصيبة، التي حاول الانقلابيون خلالها طمس كلِّ شيء جميل يعود لفترة الحكم العُماني لزنجبار.