ما قامت ثورة في السودان، وبلغن ثلاث، واسقطت نظاماً من نظم دولة 56 وشكلت دولة فوق انقاضها حتى اعتزلتها حركات يومها المسلحة بزعم أنها نفس دولة عبود أو نميري أو البشير في قناني جديدة. وانكتب الفشل للثورة وحكومتها ليس لاعتزال هذه القوى المؤثرة عنهما فحسب، بل لأن هذه القوى عادت للحرب بعد توقف محدود. فاستدعت بذلك الجيش من ثكناته من جديد ليحيل المدنيين للاستيداع وليتعامل مع ما يحسن وهو الحرب.


كانت هذه العلاقة المربكة، والعقيم، بين المقاومة المدنية الغالبة في شمال السودان والمقاومة المسلحة في أطرافه مما انشغل بها ياسر عرمان، القيادي بالحركة الشعبية منذ عهد العقيد قرنق، بعد انقسام كبير ومؤسف في الحركة عام 2017. فكتب رسالة طويلة بعنوان "نحو ميلاد ثانٍ لرؤية السودان الجديد". دعا فيها إلى أنه جاء الوقت لمراجعة تجربة الكفاح المسلح ورد الاعتبار للعمل السلمي الجماهيري دون أن يعني هذا التخلي عن هذا الكفاح. فلن تخرج الحركات المسلحة من عنق الزجاجة التي شرحها إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، في قوله، من دون التوصل إلى استنتاجات سليمة "حول أهمية العمل السلمي الديمقراطي في داخل المدن" واستنهاض جماهيرها. وركز ياسر على وجوب ارتهان السلاح بالوعي السياسي وبالديمقراطية في أداء الحركة المسلحة. فقال إنه عن طريق ضعف الوعي السياسي في الكفاح المسلح استطاع نظام الإنقاذ صناعة حروب لصالحه في الهامش ارتكبت خلالها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بيد جماعات زعمت التحرير. ونعى ياسر تجفيف الحركة المسلحة للديمقراطية في أدائها. فقال إن هيكل الحركات المسلحة التنظيمي اتسم بالعسكرة والتراتبية مما قلص مساحة الديمقراطية الداخلية، ومركز عملية اتخاذ القرار واحتكاره. وأسهم هذا "في خلق مناخ مواتٍ لانتشار الفساد الذي بدأ بالتلاعب في الإمدادات وعدم توزيعها بعدالة". وهو فساد لم يبرحها حتى وهي في الحكم. وغابت بالنتيجة المحاسبة عملاً بالقاعدة في حركات التحرير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، أي بالتركيز على العدو في الخارج، تاركين "مساحة للوحوش الداخلية لتنمو". وساء الأمر بعدم ثقة قوى الريف في مناضلي المدن ممن التحقوا بالكفاح المسلح، بل "وعدم مساواة العضوية التي تناضل بوسائل غير الكفاح المسلح في الحقوق والواجبات". وأدى هذا إلى تكلس الكفاح المسلح وتجمده مقتصراً على أساليبه الخشنة في ريفه "في غياب تام لوسائل العمل الناعم، مما أدى إلى نتائج سالبة على الكفاح المسلح نفسه".
خلص عرمان في مراجعاته إلى رد الاعتبار للمقاومة المدنية التي كانت وراء ثورات المركز على دولة 56 التي صرفها ثوار الهامش كسمك يأكل بعضه بعضاً. بل رأى في استخفاف المسلحين بالمقاومة المدنية عرضاً من ضعف الوعي السياسي ذي عواقبه وخيمة على الثورة والحركات المسلحة. فاعتزال قرنق لثورة 1985، التي علقت الأمل عليه للانضمام إليها لترجيح كفتها في صراعها مع المجلس العسكري وغيره من القوى المحافظة، ساق بصورة أو أخرى إلى انقلاب 1989. فكان التجمع النقابي عشم في استصحاب ثقل قرنق السياسي كقائد دعا لوحدة البلاد في سودان جديد خلافاً لمن سبقوه من جنوب السودان ممن دعوا منذ 1955 لانفصال إقليمهم. وجسد قرنق بذلك رمزية طارئة ومبشرة من جنوب السودان الذي هو ثلث الوطن. فلم يجرد قرنق باعتزاله التجمع النقابي التجمع من ثقله السياسي ورمزيته فحسب، بل واصل الحرب على دولة الحكومة الانتقالية. فأنذر المجلس العسكري أسبوعاً يتخلى فيه عن الحكم وإلا عاد جيشه الشعبي للقتال. وعاد الجيش للقتال بالطبع. واشتدت ضراوته في 1988 وكان هو الكاسب على الجيش. فاضطر الأخير لتقديم مذكرة إلى رئيس الوزراء، الإمام الصادق المهدي، خيره فيها بإحسان تدبير عدة الجيش وعتاده، أو أن يجنح للتفاوض مع قرنق. وكانت المذكرة عبارة عن رخصة بالانقلاب لم يتأخر الإسلاميون، الذين لم تفتر همتهم في التعبئة للحرب في الجيش وبين الشعب ضد قرنق، من اهتبالها لينقلبوا على النظام الديمقراطي في يونيو 1989. وسقط حكمهم بثورة ديسمبر 2018 بعد 3 عقود من استبداد بالحكم.
قصراً للقول تصالح قرنق مع دولة الإنقاذ بعد ما عرف باتفاق السلام الشامل في 2005. وكنا تكبدنا خسائر كالخرائب: ضاعت منا ديمقراطية استردها الشعب بشق الأنفس بثورة 1985 ضد الرئيس نميري. فلم تكن من قوة سوى الجيش بوسعها التصدي لجيش تحرير السودان بعد إعلان قرنق الحرب على النظام الديمقراطي. ولم يلبث الجنوب جزءاً من السودان إلا قليلاً بعد اتفاق 2005. فأنتهز سانحة حق تقرير المصير التي كفلها الاتفاق وغادر الوطن في 2011. ولم تكن قسمة الوطن ما خرج قرنق له في 1983 بل كان استنفر أيضاً خلقاً سودانيين ملء البصر ليظاهروه في بناء سودان ما بعد 56 جديد وموحد ولكل أهله.
كانت بندقية الهامش، خلافاً لما يعتقد ناشطوه، عبئاً ثقيلاً على قضية هدم دولة 56 وإبدالها بدولة المواطنة السواسية. فلم تغير هذه البندقية أياً من الحكومات العسكرية (التي حكمت فينا 53 عاماً منذ استقلالنا في 56) التي خرجت للإطاحة بها في حين نجحت في ذلك المقاومة المدنية التي سوادها شماليون مظنون أنهم متواطئون مع دولة 56. وربما كان في خروج الدعم السريع، الذي هو صناعة استثنائية لدولة 56، مما ربما نبه هؤلاء الناشطين في دارفور بالذات، ممن ذاقوا الويل على يد الدعم السريع خلال حكومة البشير وهم يكافحون لتغيير دولة 56، إلى النهايات العبثية لفكرة اعتقدت أن خلاصها في بندقيتها وماعدا ذلك باطل وقبض ريح.
فلم تتعرض دولة 56 لمثل ما تتعرض له اليوم من مساءلة قوات الدعم السريع لها ومطاعنتها بحد السلاح الذي لم يسبق له أن أحدق بعاصمة البلاد مثل ما يفعل اليوم.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الکفاح المسلح دولة 56

إقرأ أيضاً:

السودان: ردود الأفعال حول أحداث الكنابي طبيعية أم خلفها أجندة خارجية؟

أثارت أحداث منطقة الكنابي في ولاية الجزيرة السودانية ردود فعل عنيفة بين السودان وجنوب السودان بعد مقتل عدد من المواطنين وتعرض آخرين للقتل وحرق المنازل..

التغيير: الخرطوم

“قتلوا (47) من أبناءنا في منطقة الكنابي بولاية الجزيرة بالسودان”، هكذا بدأت الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دولة جنوب السودان، حيث شهدت العاصمة جوبا أعمال عنف أسفرت عن مقتل (2) سودانيين، فضلاً عن سرقات ونهب للمحال التجارية، بالإضافة إلى تهديدات ووعيد عبر المواقع الإلكترونية.

شرارة الأحداث التي تسببت في توتر العلاقات بين السودان ودولة جنوب السودان انطلقت بعد دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، واستعادتها من قوات الدعم السريع بعد عام كامل من النزاع.

وبعد دخول الجيش للجزيرة، أفادت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام عن وقوع مجزرة في منطقة الكنابي ضد مواطنين جنوبيين وسودانيين بتهمة دعم قوات الدعم السريع. وقد تم اتهام مليشيات “قوات درع السودان كيكل” و”كتائب البراء بن مالك الإسلامية” بالضلوع في ارتكاب المجزرة، بينما تباينت الأرقام المتعلقة بعدد الضحايا.

طريقة القتل البشعة، التي شملت الذبح ورمي المواطنين أحياءً في نهر النيل، بالإضافة إلى حرق بعضهم بالنيران، كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة وأثارت ردود فعل عنيفة تجاه السودانيين في دولة جنوب السودان.

وفي بيان صدر عن مؤتمر الكنابي بتاريخ (9) يناير الحالي، أكد وقوع مجزرة في كمبو خمسة وكمبو طيبة شرق أم القرى، شملت حرق طفلين داخل المنازل، بالإضافة إلى اغتيال (6) أشخاص آخرين، واختطاف 13 امرأة برفقة رجل.

من جانب آخر، ذكرت مصادر في دولة جنوب السودان أن (16) مواطنًا جنوبيًا لقوا حتفهم في الأحداث المؤسفة.

أعمال عنف

على خلفية أحداث الكنابي، اندلعت أعمال عنف ضد السودانيين في مدينة جوبا، أسفرت عن مقتل ثلاثة سودانيين، أحدهم كان يعمل طبيبًا، فيما أصيب عشرة آخرون بجروح مختلفة. كما تعرضت العديد من المتاجر للنهب والسرقة، بينما تعرض بعض السودانيين للضرب في الشوارع العامة.

تدخلت الشرطة في جنوب السودان، حيث قامت بنقل السودانيين إلى مقرات آمنة، ومنعت التجمعات الاحتجاجية التي كانت مقررة. وفي بيان صادر عن مكتب الرئيس سلفاكير ميارديت، شددت الحكومة على ضرورة عدم التعرض للسودانيين.

وفي وقت لاحق، تم إطلاق جسر جوي لنقل السودانيين الراغبين في العودة إلى مدينة بورتسودان، بينما دعا ناشطون في جنوب السودان إلى حملة تبرعات مالية لمساعدة مواطنيهم في العودة إلى بلادهم.

استمر الجيش السوداني في نشر صور وفيديوهات لأسرى جنوبيين كانوا يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع، مؤكداً أن عددًا كبيرًا من المقاتلين في منطقتي بحري والجزيرة ينتمون إلى دولة الجنوب. وفي الوقت نفسه، اتهمت قيادات أهلية وناشطون في ولاية الجزيرة سكان منطقة الكنابي بارتكاب مجازر ضد أهلهم في السريحة والهلالية وغيرها، فضلاً عن سرقة المنازل والتعاون مع قوات الدعم السريع.

كان حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، أول من تحدث عن هذه التطورات، حيث أكد أن الضحايا كانوا من المواطنين العزل، واصفًا الدوافع بأنها انتقامية. وأضاف: “مهما كانت المبررات، فإننا لن نقبل بحدوث أي مجزرة جديدة في البلاد.”

أصدر مجلس السيادة السوداني بيانًا أعلن فيه عن تكوين مجلس تحقيق في أحداث منطقة الكنابي، حيث اتهمت جهات سودانية دولة جنوب السودان بالتواطؤ مع قوات الدعم السريع، متهمة إياها بتسهيل مرور السلاح والدعم، بالإضافة إلى غض الطرف عن تدفق آلاف المقاتلين الجنوبيين للقتال مع الدعم السريع.

من جانبها، استدعت حكومة جنوب السودان السفير السوداني في جوبا، الفريق عصام كرار، للاحتجاج على ما وصفتها بالانتهاكات التي ارتكبها الجيش السوداني بحق الجنوبيين. ووصفت حكومة الجنوب ما حدث في الكنابي بالمجزرة البشعة، متهمة الجيش السوداني بقتل مواطنيها، ودعت إلى تدخل دولي قانوني للتحقيق في الأحداث.

فرضية قائمة

وفي تعليقه على الأحداث، قال عثمان عبد اللطيف، مدير مركز دراسات السلام، لـ “التغيير” إن فرضية وجود أيادي خارجية وداخلية في قضية الكنابي تظل قائمة، ويمكن فهم ذلك من خلال ردود الأفعال المبالغ فيها عبر وسائل التواصل الاجتماعي في دولة الجنوب.

وأضاف: “هناك من يضخم الأحداث في قضية الكنابي بهدف زعزعة العلاقات بين البلدين، حتى يتمكن الدعم السريع من إقامة علاقات مع دولة الجنوب تسمح له بالانطلاق من أراضيها، بتأييد وسند شعبي بعد زرع الكراهية بين الشعبين.”

وأوضح عبد اللطيف أن تحريك دولة الجنوب لملف أبيي، المنطقة المتنازع عليها دوليًا، في الأيام الماضية قد يكون جزءًا من هذا الهدف.

كما لفت إلى أن الدعم السريع يبحث عن منفذ لإدخال السلاح والمرتزقة بعد أن أغلقت القوات المشتركة كافة الطرق الصحراوية مع تشاد وليبيا.

لا مؤامرة

من جانبه، استبعد الكاتب الجنوبي سوداني لادو آدم وجود مؤامرة للإيقاع بين الدولتين، قائلاً: “الإسلاميون دائمًا يحاولون الزج بأطراف خارجية في أي صراع. نظرية المؤامرة حاضرة عندهم كشماعة لأفعالهم وجرائمهم التي عايشناها في الدولة القديمة، ولازالت أفعالهم مستمرة، آخرها فض الاعتصام بالقيادة العامة والحرب المستمرة منذ ما يقارب العامين.”

وأضاف آدم: “هؤلاء يحاولون تجيير الحقائق لصالحهم، ولكن لا يمكننا الاعتماد على لجنة مالك عقار حول حقيقة مجزرة الكنابي، حتى وإن أدت القسم عشرات المرات.”

وفيما يتعلق بالحديث عن المرتزقة، أوضح آدم أن المسؤولية القانونية للمرتزقة تقع على المستخدم لهم، قائلاً: “إذا كان الجيش السوداني يقول إن مرتزقة جنوبيين يقاتلون مع الدعم السريع، فجيش السودان نفسه لديه مرتزقة جنوبيين، مثل قوات الجنرال توبي مادوت واللواء توماس طيل، حلال عليهم، لكن حرام على الآخرين.”

وأشار آدم إلى أن عملية الارتزاق تتم بشكل فردي، وليست لها علاقة بحكومة وشعب الجنوب. لكنه حذر من أن إذا تمادى الجيش السوداني في جرائمه، فإن حكومة جنوب السودان سترد له الصاع صاعين. ورغم أنه أكد أن حكومة الجنوب لن تتدخل عسكريًا في السودان، إلا أنه شدد على أن لديها الكثير من الأوراق التي يمكن أن تستخدمها.

وأضاف آدم: “ما حدث قد يكون سحابة صيف بين الشعبين، ولكن إذا تكرر، فقد يؤدي إلى قطيعة بين البلدين. طالما أن الكيزان وكتائبهم موجودون، نتوقع أي شيء. لكن في النهاية، نتمنى أن تحل القضية في الإطار القانوني.”

الوسومأحداث الكنابي بولاية الجزيرة حرب الجيش والدعم السريع دولة جنوب السودان

مقالات مشابهة

  • رئيس الهيئة الشعبية السودانية لإسناد القوات المسلحة وبناء السودان يشيد بإلتقاء الجيوش الذي يمثل نهاية المليشيا
  • الشيخ ياسر مدين يكتب: معجزة الإسراء
  • تجمع قوى تحرير السودان: الإنتصارات التي تحققت تؤكد عزيمة القوات المسلحة والقوات المشتركة والمقاومة الشعبية
  • المقاومة الشعبية بالشمالية تهنئ جماهير الشعب السوداني والقوات المسلحة بالانتصارات التي تحققت
  • بيان من القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح
  • محلية الجبلين تدشن برنامج العودة الطوعية لمواطني منطقة التبون
  • السودان: ردود الأفعال حول أحداث الكنابي طبيعية أم خلفها أجندة خارجية؟
  • «مصر» جذور اللوتس التي لا يمكن اقتلاعها.. موسوعة القوات المسلحة في معرض الكتاب
  • القوات المسلحة تتهم الدعم السريع بإحراق مصفاة الخرطوم بالجيلي
  • أبرزها مصر والإمارات.. كيف تستغل القوى الإقليمية الحرب السودانية لتحقيق مكاسبها؟