مع تداعيات دخول قوات الدعم السريع الغير متوقع، والمفاجيء لجميع المراقبين، لمدينة ودمدني وإنتشارها السريع حرفياً في كامل ولاية الجزيرة وإختراقها لتخوم الولايات المجاورة مع إقترابهم من دخول مدينة سنار والتي يبتعدون عن وسطها خمسة عشرة كيلوميترات فقط، مع الأخذ في الإعتبار بأن هذا وسط السودان التاريخي وكان يعتبر معقل حصين للحكومة، فإن جميع المراقبين المحليين والدوليين باتوا ينتظرون الأنهيار الحتمي للحكومة وجيشها، ولمعظم المراقبين فإن الأمر أصبح مسألة وقت ليس إلا.
تعتمد إستراتيجية الحكومة التي يسيطر عليها الشماليون وتعتبر أداة في أيديهم على التشابه الإثني والثقافي بين الإثنيات الشمالية وإثنيات شرق السودان، لتكوين دولة النهر والبحر. في الواقع هذا التشابه هو تشابه شكلي ولكن على الأرض فإن نظرة الشماليين لإثنيات الشرق هي نفس النظرة الدونية التي ينظرون بها للإثنيات الأخرى خارج مناطقهم التقليدية والتي يمكن أن نختصرها هنا بـ ’’السودان العباسي‘‘ ولولا عدائهم التاريخي مع عرب غرب السودان فيمكن أن نزعم بأن إثنيات الشرق يتم تصنيفها بأنها أدنى من عرب الغرب. ولا يهمنا هنا ما يعتقده العقل الجمعي الشمالي بقدر ما يهمنا الترتيبات العملية لذلك على الأرض، وهي أنه في جميع الأحوال سيتم الترتيب المعهود بأن يصبح الشماليين في المرتبة العليا وشعوب شرق السودان في المراتب الأدنى، كل قبيلة حسب ما يرتبه لها الشماليون. إن أهالي شرق السودان يعلمون يقيناً أن هذا ما سيحدث في حالة إنضوائهم تحت لواء دولة النهر والبحر. ولذلك فإن هناك خلاف داخلي بين أهل شرق السودان حيال هذه الدولة، ومن غير المرجح بأن يسير أهل الشرق بأرجلهم طوعاً نحوها.
تعتمد الحكومة كذلك على العوامل الجغرافية الملائمة لتكوين دولة النهر والبحر، وهي عوامل مغرية وجاذبة جداً لتكوين هذه الدولة أكثر من العامل الإثني. هذا يعني ببساطة بأن الحكومة الشمالية كالعادة تنظر للأرض، مع إمكانية حل مشكلة سكان هذه الأرض لاحقاً، بما أنها تعتقد أو تتوهم بأن هناك تشابه إثني لحد ما سيمكن من حل هذه المشكلة بسهولة أكثر من سابقاتها. وهذا يعني كذلك بأن مقاربة الحكومة لحكم مكون البحر في دولتها للنهر والبحر الجديدة لا تختلف عن مقاربتها لحكم أي إقليم آخر في السودان القديم، وبالضبط فإن هذه نفس المقاربة التي أدت لتقلص هذه الدولة لتصبح في طريقها للإنحسار إلى دولة نهر وبحر. إذاً فما الذي يجعل الحكومة تعتقد أن في مقدرتها منع تقلص هذه الدولة إلى دولة نهر فقط؟! حتماً ستكون نتيجة التعويل على عوامل الجغرافيا لتكوين دولة النهر والبحر حسب العقلية الشمالية هو الفشل في لصق هذين المكونين، لأن الغراء القديم الذي يراد به لصق هذه الدولة كان من الأجدر به لصق السودان القديم. إن لدي النخبة الشمالية موقف إستراتيجي وجودي معلن، وهو أنهم يمكنهم التفريط في كل أرض السودان بما فيها أجزاء من النهر نفسه ولكن لا يمكنهم التفريط في المنفذ البحري شرق السودان. هذا هو ببساطة سر دولة النهر والبحر، وليس لأن هذه النخبة تعتقد بأنها شعب واحد مع شرق السودان ولهذا يجب عليهما التوحد.
والآن لندع كل ما ذكرناه في السابق جانباً لأنه في الحقيقة إن العامل الأول الذي تعتمد عليه الحكومة في تكوين دولة النهر والبحر هو القوات المسلحة السودانية، أو كالعادة القوة العارية لتوحيد الشعوب السودانية الغير شمالية تحت لواءها. ولكن هذا لن يجدي أيضاً، لأنه بالضرورة بأن إعلان هكذا دولة سوف يؤدي إلى إسقاط ما لا يقل عن مائة في المائة 100% من العنصر المقاتل في القوات المسلحة وسوف لن يبقى فيها سوى فيلق ’’السادة الضباط‘‘ الذي يحتفظ به الشماليون لأنفسهم وبعض الفنيين من الرتب الأخرى. حيث أنه من المعروف بأن جل العنصر المقاتل قادم من كردفان وجبال النوبة تحديداً بأغلبية ساحقة ومن ثم النيل الأزرق ودارفور، وهي عين الأقاليم وتحوي عين الإثنيات التي تقاتلها وتهرب منها النخبة الشمالية عبر تكوين دولة النهر والبحر. ولهذا فمن غير المرجح بأن تعلن الحكومة هذه الدولة رسمياً ولكن ستحاول أن تجعلها أمراً واقعاً مع الإستفادة في نفس الوقت من سيادتها الإسمية على باقي السودان والإدعاء بأنها تريد إستعادته لتستطيع الحفاظ على قوتها المقاتلة ريثما يتم حل هذه المعضلة والتي تبدو خطط حلها واضحة وسافرة الآن، وهي أيضاً خطط محكوم عليها بالفشل. إن خطة الحكومة لحل معضلة القوة المقاتلة في الجيش، والتي في معظمها إن لم تكن كلها تنتمي لإثنيات الهامش، هي آلية الإستنفار والتسليح على أساس إثني وعرقي، وهي خطة شديدة القذارة قوامها تسليح الشماليين - خصوصاً ولاية نهر النيل - لحماية مناطقهم وفي نفس الوقت الدفع بالمستنفرين السود وغير العرب إلى جبهات القتال المستعرة في جميع أنحاء السودان، فإذا جلبوا نصراً فهو نصر للحكومة ’’القومية‘‘، وإذا خسروا فأصلاً المطلوب التخلص منهم على أي حال، وهي - أي الحكومة - على علم تام بمدى تدني إحتماليات النصر. ولقد صاحب الإستنفار حملة أمنية عنصرية مسعورة في ولايات شمال وشرق السودان إستهدفت خصوصاً أبناء ولايات دارفور وكردفان من الباعة المتجولين والفريشة وأصحاب الطبالي وغاسلي العربات والأعمال الهامشية الأخرى وحتى النازحين، ولشدة وقاحة وسفور هذه الحملة فإنها أثارت حفيظة وخجل حتى الشماليين أنفسهم لما يفعله نفر منهم بدواعي الحفاظ على الأمن من الطابور الخامس، وفي الحقيقة فإن أي شخص من الهامش هو مشروع طابور خامس مهما بلغ إخلاصه وفلنقانيته (مشتقة من فلنقاي) ولهذا فإن المهمة الأمنية سهلة للغاية وهي أوامر بالإعتقال ’’من طرف‘‘، فقط إبحث عن السحنة. إن الورطة الحقيقية في أن الحكومة لن تستطيع إستبدال العنصر المقاتل من أبناء الهامش في القوات المسلحة بعناصر شمالية والحفاظ في نفس الوقت على كفائة وفعالية القوات المسلحة، ولقد بائت جميع المحاولات السابقة للإلتفاف على هذه الورطة بالفشل، ولا يوجد سبب مقنع لنجاح هذه المحاولة الآن، إن تقسيم العمل في المجتمع له أسباب موضوعية تتبلور عبر مراحل، ولا يمكن أن يصبح الشماليين مقاتلين بين ليلة وضحاها، ويجب أن نفرق بين المقدرات القتالية والرجولة والشجاعة بالمفهوم السوداني، إن كونك شجاعاً لا يجعل منك مقاتلاً، هناك بيئة معينة تجعل منك مقاتلاً أو على إستعداد لأن تصبح مقاتلاً. كما أن الحكومة الآن لاتملك الوقت والموارد لتعبئة قوة شمالية كافية وتدريبها وفقاً لمناهج التدريب الحديثة لتجعل منها قوة فعالة في الميدان تستطيع قلب موازين القوى على الأرض، إن هذه عملية طويلة وشاقة وتعتمد على بناء إرث وأن تصبح هذه القوات مختبرة ومجربة على أرض الواقع، وهذه رفاهية غير متوفرة للحكومة الآن.
المذهل في الأمر بأن الحكومة قد قامت بتسليح مواطنيها في ولاية نهر النيل وتدريبهم على إستخدام السلاح فقط بدون جرعات كافية في التكتيك الحربي أو حتى تقسيمهم إلى تشكيلات عسكرية منظمة، ولقد إستوثقت من هذا الأمر بنفسي عن طريق السؤال المباشر، في البداية لم أصدق أذناي ولكن بعد أن إنقشع عني الذهول توصلت لنتيجة أن الحكومة ببساطة ليس لديها زمن. وربما يستطيع خبير عسكري تقديم تفسير أفضل من هذا، ولكن حتى الآن لا توجد إجابة وافية مقنعة لهذا الأمر. في تقديري بأن سبب التكتيكات شبه اليائسة التي تقوم بها الحكومة الآن والشعور العام من كل المهتمين بالشأن السوداني بأن الحكومة لا تستشعر الخطر المحدق بها، أو تتجاهله لسبب ما، ولهذا تقوم بإتخاذ خطوات وردود أفعال غير مسئولة وخطيرة على مواطنيها، هو العقلية الإسلاموعروبية المتطرفة في آخر مراحلها، وهي عقلية صفرية (فلترق منا دماء أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء) وهي عقلية تعتقد بإبادة أحد الأطراف للآخر أو هزيمته هزيمة ماحقة على الأقل، وهي لاتنظر للمواطنين كمواطنين وإنما كرعايا للدولة تقودهم إما للنصر أو الشهادة. النصر بالنسبة للحكومة الآن هو إستعادة السودان القديم بجميع علاته وهذا لم يعد في متناولها كما وضحنا، أو على الأقل النجاة بدولة النهر والبحر إذا فشلت في إستعادة السودان القديم، ولكن حتى دولة النهر والبحر لم تعد في متناولها وهي تطفو بعيداً عن أياديها، بل أن مصير هذه الحكومة نفسها أصبح قاتماً، ولكن الأكثر قتامة هو السؤال، إذا كانت هذه هي نهاية السودان القديم، فهل القادم هو ’’السودان الجديد‘‘؟
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوات المسلحة بأن الحکومة شرق السودان هذه الدولة أن الحکومة فی جمیع
إقرأ أيضاً:
السودان في القلب.. عن زيارة سعادة الوزيرة مريم المسند
تابعت باهتمام زائد واحتفاء خاص زيارة سعادة السيدة مريم بنت علي بن ناصر المسند، وزيرة الدولة للتعاون الدولي، بوزارة الخارجية، إلى بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة، للسودان الشقيق، يوم الخميس 10 أبريل 2025. ويعود اهتمامي واحتفائي إلى أمرين: الأمر الأول أن زيارة سعادة الوزيرة عبرت عما نكنه للشعب السوداني من تقدير واحترام، تراكما عبر عقود من الزمان، وفقاً لمبادئ الأخوة والتضامن، التي تعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين. وتشهد على ذلك محطات إنسانية متعددة ومتنوعة ظل ديدنها التبادل والتآزر، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وكذلك على المستوى الشخصي. ولهذا كانت متابعتي لزيارة سعادة الوزيرة بمثابة بعث لشريط ذكريات راسخة وجميلة، تعود لأيام الطفولة والدراسة في مختلف المراحل الدراسية منذ الابتدائية، وأنا بين صديقاتي السودانيات في الدوحة، فتجلت أمام ناظري مواقف أصيلة ونبيلة ومشرقة، ظلت تميز أهل السودان.
* لذلك عشت مع زيارة سعادة الوزيرة كأني أجدد عهد المحبة والاحترام للشعب السوداني. والأمر الثاني يتصل بشخص سعادة الوزيرة وبطبيعة زيارتها، حيث كان المعنى الإنساني هو القاسم المشترك، وكرامة الإنسان هو شاغل الوزيرة وعنوان زيارتها. حيث نقلت سعادتها رسالة تضامن وشراكة مع الأشقاء في السودان. وأكدت في تصريح للصحفيين بأن الزيارة تجيء للوقوف على الأوضاع الإنسانية التي يعيشها الشعب السوداني، والعمل على تلبية الاحتياجات الضرورية له في ظل تداعيات الصراع الذي أدى إلى انهيار المنظومة الصحية والتعليمية وتدمير البنيات التحتية. ودعت سعادتها أطراف النزاع إلى تغليب المصلحة الوطنية ووقف إطلاق النار، وتيسير وصول المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين والمرافق المدنية، والانخراط الجاد في جهود المصالحة، بما يضمن تحقيق السلام والحفاظ على وحدة السودان وتوجيه الموارد نحو الاستقرار والتنمية.
وخلال مقابلتها لفخامة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي لجمهورية السودان الشقيقة، أكدت سعادة الوزيرة على موقف دولة قطر الثابت والراسخ في دعم وحدة واستقلال وسيادة وسلامة أراضي جمهورية السودان. وأعرب فخامة الرئيس البرهان من جانبه، عن تقدير السودان لمواقف دولة قطر الداعمة والمساندة له في كافة المحافل الدولية والإقليمية وحرصها على سيادة ووحدة واستقرار البلاد، ودعمها المستمر لتقديم العون الإنساني للمتأثرين من الحرب. كما التقت سعادتها وزيري التعليم والصحة السودانيين.
* وفي تقديري، أن لا شيء يضاهي المواقف الإنسانية في زمن الأزمات، كون المواقف الإنسانية هي الميزان الحقيقي لعمق العلاقات وصدقها بين الدول والشعوب. لقد ظلت دولة قطر من خلال تاريخ ومسيرة علاقتها الثنائية مع السودان، تؤكد بأن الشراكة الحقيقية لا تقتصر على المصالح السياسية فحسب، بل تُبنى أيضًا على مبادئ الإخوة التضامن والوقوف مع الشعوب في محنها. وبينما يستمر السودان في سعيه نحو الاستقرار والسلام، والحفاظ على استقلاله وسيادته ووحدة أراضيه، يبرز البُعد الإنساني في علاقته مع دولة قطر كأحد أبرز مظاهر الأمل والدعم المستمر حتى تجاوز الأزمة.
* كانت سعادة الوزيرة تلامس القلب، وهي تزور دار نوّل للأيتام، ودار أمان للنساء الناجيات من العنف في بورتسودان، وهي تقف خلال زيارتها للدارين، على أوضاع الأيتام، وقصص صمود بعض النساء الناجيات ومعاناتهن من ويلات الحرب والعنف. وأوضحت سعادتها بأن دولة قطر ستعمل من خلال مبادرتها لدعم النساء والفتيات في مناطق النزاعات، ومنها جمهورية السودان، على تعزيز جهود دار أمان التي توفر الحماية والدعم بمختلف أشكاله للنساء الناجيات من العنف. كما أكدت على التزام دولة قطر الراسخ بمواصلة دعم الشعب السوداني الشقيق في هذه الظروف العصيبة والأوقات الصعبة، معربة عن بالغ القلق إزاء تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في السودان. وفي بادرة تجسد القيم الإنسانية، أعلنت عن تخصيص دولة قطر لمبلغ (10) ملايين دولار لدعم النساء والفتيات المتضررات من النزاع وتمكينهن اجتماعياً ونفسياً، فضلاً عن دعم القطاع الصحي بالدفعة الثانية من سيارات الإسعاف بالإضافة إلى توفير أجهزة غسيل الكلى. كما أشارت سعادتها إلى التزام دولة قطر الثابت بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية والإنمائية، وشددت على أهمية تعزيز التعاون والتنسيق المشترك مع جميع الشركاء الدوليين والإقليميين والمحليين بما يسهم في تخفيف معاناة الشعب السوداني وتحقيق الأمن والاستقرار والسلام في السودان.
* حقاً لقد كانت زيارة سعادة السيدة مريم بنت علي بن ناصر المسند، إلى السودان، زيارة مشرفة، ومعبرة عن المعاني والقيم الإنسانية، وتعكس عمق العلاقات بين دولة قطر وجمهورية السودان، ومدى فيض المحبة في وجدان الشعبين القطري والسودان، تجاه بعضهما البعض. وأكدت زيارة سعادتها كذلك على التزام دولة قطر بتقديم الدعم الإنساني والتنموي للشعب السوداني في ظل التحديات الراهنة، فهو شعب يستحق وبحق.
أ. عائشة محمد الرميحي – الشرق القطرية