عن دفن حلّ الدولتَين
في كل النضالات التحررية، كانت هناك مجموعات تناضل لتحرير الأرض، وأخرى تنساق مع المحتل.
حل الدولتين ليس واقعياً، وكذلك الإجماع الفلسطيني، ولا المصالحة بين طرفين بنهجين متناقضين إزاء الصراع مع الكيان الصهيوني فكرة واقعية.
طرح الليبراليين الصهاينة في الغرب لحل الدولتين، في أكثر صورة مثالية، يفضي إلى دولة فلسطينية في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة تحت رحمة إسرائيل
بات الإطار الوطني الفلسطيني البديل من منظمة التحرير بات ضرورياً، بما يعنيه من تطوير خطاب سياسي يدفن حل الدولتين فلسطينياً، ويؤكد على نضال وطني تحرري.
لم يعد التطهير العرقي ممكناً كما في 1948، وتالياً كان عزل السكّان الأصليين بمنطقة معينة من الضفة، والاستيطان بمنطقة أساسية منها، هو الحل الاستراتيجي لهذه المعضلة
جذور حل الدولتين تعود لقراراتٍ اتخذت في اجتماع الحكومة الإسرائيلية في حزيران 1967 وهو الحكومة الأكثر تمثيلاً لمختلف أطياف المجتمع اليهودي في الكيان طوال تاريخه.
إذا كان مسار أوسلو نتيجة طبيعية للضعف والتخلّي العربي وسطوة إسرائيل والغرب كما قال عرّابوها، فالانفكاك عنه اليوم نتيجة طبيعية لصمود الفلسطينيين وضعف إسرائيل وتراجع الهيمنة الأميركية.
* * *
يصرّ الليبراليون الصهاينة في الغرب على إعادة الحديث عن حل الدولتين، بوصفه الحل الأمثل للصراع التاريخي على أرض فلسطين. يشير المؤرخ إيلان بابيه إلى أن جذور حل الدولتين تعود إلى قراراتٍ اتخذت في اجتماع الحكومة الإسرائيلية في حزيران 1967 (وهو يرى أنها الحكومة الأكثر تمثيلاً لمختلف أطياف المجتمع اليهودي في الكيان طوال تاريخه).
كانت القرارات التي يشير إليها متعلقة بمصير الضفة الغربية، فقد قرّرت تلك الحكومة ضرورة السيطرة على الضفة الغربية، وإدامة هذه السيطرة لأسباب استراتيجية وأيديولوجية دينية.
لم يكن التطهير العرقي ممكناً كما كان عام 1948، وتالياً كان عزل السكّان الأصليين في منطقة معينة من الضفة، والاستيطان في منطقة أساسية منها، هو الحل الاستراتيجي لهذه المعضلة، والذي تم تطبيقه طوال العقود الماضية. حل الدولتين هو الضمانة:
- أولاً لاعتراف عربي وفلسطيني بحق إسرائيل في الوجود، وبروايتها التاريخية، وبزوال صفة الاحتلال عن إسرائيل.
- وثانياً هو الحل الممكن لاحتواء مشكلة السكان الأصليين في الضفة، وإدامة السيطرة عليها دون دمجهم، عبر إنشاء سلطة أمنية تقيم الدولة/الغيتو المفتقرة إلى كل عناصر السيادة.
والتي تدير شؤون المعزولين في منطقةٍ من الضفة، وتسلّم بواقع الاستيطان في باقي الضفة، وبالسيطرة الإسرائيلية العملية على كامل التراب الفلسطيني. تحصل اختلافات بين الفرقاء الإسرائيليين حول مناطق الاستيطان في الضفة، وليس على أصل وجوده.
عرقل الانزياح نحو اليمين داخل الكيان نشوء الدولة/ الغيتو الفلسطينية، وهو ما يجعل الليبراليين الصهاينة في الغرب قلقين على مستقبل الكيان في حال رفض هذا الحل، إذ يخشى هؤلاء من أن يؤدي التعنت الإسرائيلي إلى القبول لاحقاً بحلول أكثر إيلاماً، وربما تكون مهددة لأسس الصهيونية.
طرح الليبراليين الصهاينة في الغرب لحل الدولتين، في أكثر صورة مثالية، يفضي إلى دولة فلسطينية في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة تحت رحمة إسرائيل، لذلك يبدو الخلاف على موضوع الاستيطان في الضفة بين الحكومات الغربية وإسرائيل معبّراً عن الاختلاف حول الطريقة المثلى لمعالجة أزمة فشل التطهير العرقي للفلسطينيين بشكل كامل، وما يجب فعله لتثبيت الكيان الصهيوني وضمان مستقبل له في ظل بقاء الفلسطينيين وصمودهم.
لكن حل الدولتين - وإن اختلفت تفاصيله بين داعميه - لم يعد ممكناً، وحتى بعض منظّري السياسة الواقعية في الغرب صاروا يعترفون باستحالة هذا الحل عملياً. ما حصل في السابع من أكتوبر عزّز اقتناع اليمين الإسرائيلي بصوابية رفض إقامة الدولة الفلسطينية، فحتى لو كانت هذه الدولة محاصرة ومفتقرة إلى عناصر السيادة، فإن وجود الفلسطينيين فيها سيظل يشكل بالنسبة إليهم هاجساً سياسياً وأمنياً.
في المقابل، ردّت فصائل المقاومة على محاولات قتل القضية الفلسطينية في السابع من أكتوبر، لكن السلطة الفلسطينية تتمسك بوهم حل الدولتين لأن أصل وجودها مرتبط بالإصرار على تعميم هذا الوهم في الخطاب الوطني الفلسطيني.
ليست المشكلة فقط في تفريط حل الدولتين بأبسط الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بل أيضاً في عدم واقعيته. يمكن القول إن رافعي شعارات الواقعية السياسية من الليبراليين العرب يفتقرون إلى أي واقعية في طروحاتهم حول السلام اليوم، فيما خيار المقاومة يثبت واقعيته منذ أكثر من عقدين بنتائج عملية. تبدو هذه فرصة شديدة الواقعية لدفن حل الدولتين في الخطاب الوطني الفلسطيني.
يمكن للسابع من أكتوبر أن يكون نقطة انطلاق إيجاد إطار وطني فلسطيني يضم حركات المقاومة والراغبين في الالتحاق بخيارها الاستراتيجي من «فتح» أو بقايا منظمة التحرير، ليقوم هذا الإطار بإيجاد خطاب سياسي معبّر عن نضال الشعب الفلسطيني، ومتجاوزٍ لأوسلو.
كما أن حل الدولتين ليس واقعياً، فإن فكرة الإجماع الفلسطيني ليست واقعية، ولا المصالحة بين طرفين يحملان نهجين متناقضين إزاء الصراع مع الكيان الصهيوني فكرة واقعية. في كل النضالات التحررية، كانت هناك مجموعات تناضل لتحرر الأرض، وأخرى تنساق مع المحتل.
ليس المطلوب أن يتفق الفلسطينيون كلهم على نهج واحد، لكن المطلوب من فصائل المقاومة أن توجد أرضية وطنية ترحب بكل فلسطيني، في أرض فلسطين التاريخية أو في الشتات، يريد الالتحاق بنهج مقاومة المحتل بأشكالها المختلفة، وصولاً إلى قيام دولة واحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية، تعيد الحق للسكان الأصليين، وتتسع للجميع على اختلاف دياناتهم.
الإطار الوطني الفلسطيني البديل من منظمة التحرير بات ضرورياً، بما يعنيه من تطوير خطاب سياسي يدفن حل الدولتين فلسطينياً، ويؤكد على نضال وطني تحرري ببعدٍ عربي وعالم ثالثي يعزز الصمود الفلسطيني وعمل المقاومة، ويوجّههما في الاتجاه الصحيح.
إذا كان الانخراط في مسار أوسلو نتيجة طبيعية للضعف والتخلّي العربي وسطوة إسرائيل والغرب كما قال عرّابوها، فإن الانفكاك عن هذا المسار هو النتيجة الطبيعية اليوم لصمود الفلسطينيين وضعف إسرائيل وتراجع الهيمنة الأميركية في المنطقة والعالم.
*بدر الإبراهيم كاتب عربي
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين مقاومة الغرب إسرائيل الاستيطان 7 أكتوبر حل الدولتين مسار أوسلو منظمة التحرير الهيمنة الأميركية التطهير العرقي الوطنی الفلسطینی الضفة الغربیة حل الدولتین
إقرأ أيضاً:
مساع من الإنجيليين الأمريكيين لدفع ترامب للاعتراف بسيادة إسرائيل على الضفة
أكدت مجموعة مؤثرة من المسيحيين الإنجيليين الأميركيين علنا حق "الشعب اليهودي في يهودا والسامرة" (المسمى الإسرائيلي للضفة الغربية) باعتبارها "القلب التوراتي لإسرائيل".
وتم الكشف عن الإعلان هذه الدعوة في المؤتمر الوطني السنوي للإذاعات الدينية في دالاس من قبل القادة المسيحيين الأميركيين من أجل إسرائيل، وكان من المتوقع أن يوقع عليه 3000 من الزعماء الدينيين قبل تسليمه إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يأتي الدفع لتطبيق السيادة الإسرائيلية على المنطقة بعد أن قال ترامب الشهر الماضي إن إدارته ستصدر إعلانًا بشأن هذه المسألة في الأسابيع المقبلة عندما سئل عن الضم.
وقسمت اتفاقيات أوسلو، التي أبرمت في عهد إدارة كلينتون، الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة أ، تحت الولاية الفلسطينية الكاملة؛ والمنطقة ب، تحت الإدارة المدنية الفلسطينية والسيطرة الأمنية الإسرائيلية؛ والمنطقة ج، تحت السلطة الإسرائيلية الكاملة.
كانت خطة ترامب لعام 2020، والتي أطلق عليها "السلام من أجل الرخاء"، تتصور ضم "إسرائيل" لأجزاء من الضفة الغربية، لكنها أُرجئت لصالح "اتفاقيات أبراهام" التي طبَّعت العلاقات الإسرائيلية مع أربع دول عربية.
قال الدكتور مؤسس منظمة "أصدقاء صهيون"، مايك إيفانز، التي تضم ما يقرب من 30 مليون عضو، لقناة فوكس نيوز ديجيتال: "منح الإنجيليون ترامب الرئاسة، سيدعم موقفنا بشأن الكتاب المقدس ولهذا السبب اختار مايك هاكابي سفيرًا في القدس، الذي يدعم السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة".
ويرجع تاريخ الإنجيليين إلى القرن الثامن عشر حين كانت أمريكا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بتحولات عديدة حتى صارت مشهورة في يومنا هذا بنشاطها السياسي وانخراط كثير من أتباعها في صفوف "اليمين المسيحي"، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع "إسرائيل" والحركة الصهيونية.
يؤكد الإعلان "حق الشعب اليهودي غير القابل للتصرف في قلب إسرائيل التوراتي ويرفض كل الجهود - سواء من الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي - للضغط على الشعب اليهودي للتخلي عن وطنه الأصلي في يهودا والسامرة".
وقال إيفانز إن الإنجيليين يدعمون إسرائيل "لأنهم يؤمنون بالوضوح الأخلاقي، والخير ضد الشر، وهم أصدقاء صهيون. إنهم يرون اليهود يُقتلون لأنهم يهود، وليس بسبب الأرض".
وقال المؤسس المؤثر ورئيس منظمة "المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل"، القس جون هاجي، إن الإنجيليين "يعرفون أن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب سيفي دائمًا بكلمته لأبناء إسرائيل. من البداية إلى النهاية، الكتاب المقدس هو وثيقة صهيونية تلزم جميع المؤمنين بالوقوف مع إسرائيل وشعبها وبركتهم".
وأضاف هاجي: "لمدة نصف قرن تقريبًا، كنت أبشر برسالة مفادها أن إسرائيل لا تحتل الأرض، بل تمتلك إسرائيل الأرض، والتي تم تسجيل سند ملكيتها في صفحات الكتاب المقدس. لقد وهب الله الأرض للشعب اليهودي طوال الوقت".
في وقت سابق من هذا الأسبوع، ذكرت قناة فوكس نيوز أن بعض المشرعين الجمهوريين بقيادة النائبة الجمهورية كلوديا تيني حثوا الرئيس على الاعتراف بالضفة الغربية كـ"أرض إسرائيلية".
وأعربت رسالتهم إلى الرئيس عن دعمهم لتطبيق القدس للسيادة على المنطقة، والتي قال المشرعون إنها "قلب تراثنا اليهودي المسيحي المشترك".
زحث رئيس البرلمان الإسرائيلي أمير أوهانا في 23 شباط/ فبراير حكومة الاحتلال على بسط السيادة على الضفة، قائلاً إن السيطرة الكاملة على المنطقة هي "السبيل الوحيد" لتحقيق السلام الدائم.
وقال عضو آخر في البرلمان من الليكود، دان إيلوز، إن "مذبحة حماس في 7 أكتوبر 2023 أثبتت أن أي انسحاب، وأي تنازل، وأي وهم بالتعايش مع أولئك الذين يسعون إلى تدميرنا ليس ساذجًا فحسب - بل هو انتحاري.. لقد انسحبنا من غزة، وفي المقابل حصلنا على حماس ومذبحة شعبنا. لا يمكن أن تصبح يهودا والسامرة دولة إرهابية أخرى".
بدوره، أكد عضو الكنيست الإسرائيلي السابق ووأحد مهندسي اتفاقيات أوسلو لعام 1993 أن "الدفع نحو السيادة في يهودا والسامرة سيكون نهاية إسرائيل".
وأضاف: "إذا أصبحت إسرائيل أقلية من اليهود تهيمن على أغلبية الفلسطينيين، فلن تكون يهودية ولا ديمقراطية. لا أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث على الإطلاق، لكن مجرد التلويح بهذه [الفكرة] أمر سيئ بما فيه الكفاية".
وأوضح "يعتقد اليمين في إسرائيل أن ترامب سيدعم أي شيء يطلبونه. لكن قبل خمس سنوات، اقترح أنه قد يكون هناك حل الدولتين. وعلى هذا النحو، فإن الأمر ليس واضحًا كما يبدو".
وفي أواخر الشهر الماضي، أمر نتنياهو قوات الدفاع الإسرائيلية بإجراء عملية "ضخمة" لمكافحة الإرهاب في يهودا والسامرة بعد انفجار ثلاث حافلات بالقرب من تل أبيب، والعثور على قنابل على حافلتين أخريين فيما يتم التحقيق فيه باعتباره هجومًا منسقًا.
وقال أحمد فتوح، المتحدث باسم حركة فتح التي يتزعمها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لقناة فوكس نيوز الرقمية: "هذه الوحشية والتهجير القسري للمدنيين في الضفة الغربية... لم تكن أبدًا دفاعًا عن النفس، بل كانت مخططًا للتوسع الاستعماري وحملة تطهير عرقي".
وذكر أن "ضم الضفة الغربية سيعيدنا إلى عام 1948 ويدمر أي استقرار مستقبلي أو آفاق للسلام، وكل صوت عقلاني يفهم جيدًا أنه لا يوجد طريق للمضي قدمًا باستثناء حل الدولتين؛ وإلا فإنه سيؤدي إلى دمار لا نهاية له".
ومن ناحية أخرى، قال، المتحدث الدولي السابق باسم جيش الاحتلال والزميل في مؤسسة "الدفاع عن الديمقراطيات" جوناثان كونريكوس: "لكي تتمكن إسرائيل من الاستمرار في البقاء والازدهار على طول السهل الساحلي، الذي ينتج حوالي 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فيجب عليها الاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي المرتفعة في يهودا والسامرة".
وأضاف "إذا افترضت أي جهة أخرى، فلسطينية أو غير ذلك، ذلك، فسيتم استخدامه كوسيلة لتهديد أمن إسرائيل، والبنية التحتية الأساسية، بما في ذلك مطار بن غوريون، وكذلك سكانها - المتمركزين في شريط ضيق بين حيفا [في الشمال] وأشدود [في الجنوب] - حوالي 15 كيلومترًا في العرض".
وأوضح كونريكوس أن هناك عنصرًا آخر يتمثل في أن نحو 500 ألف إسرائيلي يعيشون حاليًا في الضفة الغربية، وهم بحاجة إلى الحماية.
وقال: إن "اتجاهات التصعيد في الضفة الغربية والقدس هي الأعلى الآن منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ونحن نرى نشاطًا إرهابيًا كبيرًا في جميع المدن الفلسطينية تقريبًا وضعفًا مستمرًا للسلطة الفلسطينية في ممارسة السيطرة".