مايو 2-إنقاذ 2: خلافاً لمزاعم صفوة الهامش فهي التي كانت ترياقاً للثورات ضد دولة 1956
تاريخ النشر: 8th, January 2024 GMT
ليس اعتباطاً قولنا “رب صدفة خير من الوعد”. ففي بعض الصدف مغازٍ لا تتنزل حتى من وعد. ومن هذه الصدف الاستثنائية قيام ثورة ديسمبر 2018 في الـ19 منه، وهو نفسه يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان عام 1955، أي قبل حلول هذه المأثرة ورفع علمها في أول يناير 1956. وكان إعلان الاستقلال من داخل البرلمان مما اتفقت عليه حكومة الحكم الذاتي (1954-1956) والمعارضة للتنصل من التزامهما نص اتفاقية الحكم الذاتي، الموقعة بين طرفي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، في فبراير 1953 بإجراء استفتاء للسودانيين بنهاية الفترة الانتقالية (1954- 1956) يقررون به، إن رغبوا في الاستقلال، أو في الاتحاد مع مصر.
فيوم الـ19 من ديسمبر الذي تصادف أنه كان يوماً لاستقلال السودان في 1955 وللثورة على حكومة من دولة 56 في 2018، غاص بالمعاني في سياق حرب قائمة المعلن من أهدافها هو القضاء على دولة 56 التي يقال إن الشماليين استأثروا بها دون أهل الهامش السوداني. فإذا صح هذا الاستئثار، وكان مما تواثق عليه الشماليون عن بكرة أبيهم، فسيصعب على ناشط الهامش وداعيته تفسير سقوط دولة من دول 56، هي دولة الإنقاذ التي خيمت علينا لثلاثة عقود، بثورة سوادها الشماليون، وفي يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان.
ولم تكن “ديسمبر” هي الثورة الأولى التي أطاحت بنظام من نظم لحكومات ما بعد الاستقلال. فسبقتها ثورة أكتوبر 1964 التي أزالت حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، وثورة أبريل 1985 التي أحالت حكومة الرئيس جعفر نميري (1969-1985) إلى الاستيداع. واتصفت هذه الثورات جميعاً بأنها ثمرة مقاومة مدنية نجحت في العصف بحكومات لدولة 56 في حين تعذر ذلك على حركات الهامش من لدن حركات القوميين الجنوبيين (أنيانيا 1962-1972)، والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان (1983-2011)، وحركات دارفور المسلحة (2003-….). وكلها قصدت إلى إسقاط تلك النظم عنوة. فكاد الجيش الشعبي يقترب من الخرطوم في 1989 ولم يفل حديده سوى قيام الإسلاميين بانقلابهم وصارعوه وردوه. واقتحمت قوات حركة العدل والمساواة الدارفورية (خليل إبراهيم) مدينة أم درمان وسطت عليها لثلاثة أيام في 2008 فردت على أعقابها.
وعليه إذا لم تسقط أي من حكومات دولة 56، التي يقال إنها مما استأثر بها الشماليون، إلا بثورة غلب فيها نفس هؤلاء الشماليون، فما حجة الهامش على أنها حكومات اقتصرت حصرياً على الشماليين وغضت الطرف عن أهله؟ بعبارة أخرى، لماذا يثور هؤلاء الشماليون على حكومات هم أصحاب الوجاهة فيها والامتياز؟ وكيف لهم ركل نعمة هذه الحكومات، التي قيل إنها ملكية خاصة بهم، ثلاثاً منذ أن قامت فيهم في 1956؟
ولا يعجز فكر الهامش هذا المنطق الذي تبدو صرامته. فتجدهم يقولون إن هذه الثورات في المركز الشمالي على حكومة المركز غير مقدر لها سوى إعادة إنتاج الحكومة نفسها التي ثاروا عليها. و”لا تلد القطط العمياء سوى القطط العمياء”. فهي عندهم في مثل “انقلاب القصر” تقوم به فئة من بطانة السلطان على بطانة أخرى منافسة. وكان العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، أول من عبر عن هذه العقيدة عن أن ثورة المركز بمثابة عملية تجميل لحكومة شمالية بان قبحها بأخرى شمالية ستقبح في وقتها الخاص.
فلما أسقطت ثورة أبريل 1985 نظام نميري، الذي جاء للحكم بانقلاب عسكري في مايو 1969، توقف قرنق، الذي كان يقود حرب عصابات في أدغال الجنوب، دون الاعتراف بالثورة. فاستنكر الانقلاب العسكري بقيادة المشير عبدالرحمن سوار الدهب، القائد العام للقوات المسلحة، الذي قام بانقلاب مؤسسي بزعم الانحياز للشعب وأزاح نميري من سدة الحكم. وكون مجلساً عسكرياً انتقالياً إلى جانب الحكومة المدنية التي كونها التجمع النقابي، بؤرة الثورة، والأحزاب السياسية.
فرأى قرنق في المجلس العسكري الذي تكون من ضباط نميري العظام نسخة أخرى من نظام مايو فسماها “مايو 2”. وطلب من التجمع النقابي، إذا أراد منه أن ينضم إلى ركب التغيير بعد سقوط نميري، أن يواصل ثورته فيزيح المجلس العسكري الانتقالي لاستئصال شأفة نظام مايو بالكلية. وحاول التجمع النقابي قبل حديث قرنق إزاحة المجلس بإضراب عام لم تكتب موازين القوى له النجاح. وعليه كان شرط قرنق للانضمام لركب الثورة مستحيلاً، فاعتزلها.
وتكرر الأمر مع ثورة ديسمبر 2018. فاعتزلها عبدالواحد محمد نور، قائد جيش حركة تحرير السودان الدارفورية، بذريعة قرنق نفسها. وسمى حكومة الثورة “الإنقاذ 2” لما رأى قيام المجلس العسكري الانتقالي بقيادة اللواء عبدالفتاح البرهان بعد انقلابه وضباط البشير العظام عليه، أي على “الإنقاذ 1”.
ونواصل
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: لتحریر السودان داخل البرلمان دولة 56
إقرأ أيضاً:
ماذا يعني تشكيل حكومة موازية في السودان؟
ماذا يعني تشكيل حكومة موازية في السودان؟
مؤشرات وقف الحرب تتراجع أكثر رغم الانتصارات العسكرية التي أحرزها الجيش والنزاع إلى مزيد من التعقيد محلياً وإقليمياً
أماني الطويل كاتبة وباحثة
ملخص
تتراجع مؤشرات وقف الحرب السودانية رغم الانتصارات العسكرية التي أحرزها الجيش السوداني أخيراً في شرق السودان والعاصمة الخرطوم، وتتجه المعادلات السياسية نحو مزيد من التعقيد على المستويين المحلي والإقليمي
خلال الفترة الأخيرة تضافرت تطورات على أكثر من مسار عسكري وسياسي إقليمي ودولي في شأن السودان، لكن كلها لم تسهم في وقف الصراع العسكري على الأرض، وإن كانت بالتأكيد تضع السودان والإقليم على منصة جديدة من التفاعلات ستسفر على المستوى القصير والمتوسط لمعادلات سياسية جديدة على المستويين المحلي والإقليمي.
لعل التطور الفارق على المستوى الداخلي السوداني هو التوقيع على ميثاق لتكوين حكومة موازية لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان، ربما تعلن هياكلها التنفيذية قريباً في غرب البلاد، أي في إقليم دافور. وهو ما رفضته مصر، مؤكدة أن ذلك سيعقد المشهد في السودان، ويعوق الجهود الجارية لتوحيد الرؤى بين القوى السياسية السودانية، ويفاقم الأوضاع الإنسانية.
التوقيع على ميثاق نيروبي شمل كيانات سياسية سودانية تزيد على الـ20، ربما يكون من أهمهم رئيس حركة جنوب السودان (قطاع الشمال) عبدالعزيز الحلو، وبحضور قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إذ جرى الإعلان عن مشروع سياسي غير متماسك عملياً، ويعد مسخاً من مشروع القائد جون قرنق المبشر بسودان جديد، لكنه واقعياً لم ينتج إلا دولة (جنوب السودان) التي حملت جينات الصراعات الداخلية بنفس معطيات الدولة الأم (السودان).
الآثار المباشرة لهذه الخطوة على المستوى الداخلي تعني استمرار ديناميات الصراع العسكري، إذ إن ممارسات حكومة بورتسودان من تغيير للعملة، واستئناف العملية التعليمية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، مع إهمال مصير هؤلاء الذين يعيشون في مناطق الدعم السريع أكسب الأخيرة حواضن اجتماعية جديدة بدافع من متطلبات الحياة اليومية، وهي عوامل تضيف لقدرات "الدعم السريع" في هذه المرحلة.
الحكومة المزمع إعلانها في مناطق "الدعم السريع"، وإن لم يعترف بها أحد على الصعيدين الإقليمي والدولي، لكن سيكون لها قدرة على نحو ما على تلبية حاجاتها عبر شركات تهتم بموارد غرب السودان من الذهب والصمغ العربي خصوصاً، وهو أمر سيكون متاحاً في بيئة تتسم بالسيولة الأمنية وعدم القدرة على ضبط الحدود بين السودان وجيرانها، كما تنشط فيها عناصر الجريمة المنظمة المتحالفة في كثير من الأحيان مع التنظيمات الإرهابية المتطرفة.
على الصعيد الدولي توجد تحركات في مجلس الأمن مدفوعة بمشروع بريطاني لوقف الحرب، إذ تباينت دوافع كل دولة في تأييد المجهودات البريطانية، ففي حين فسرت مندوبة بريطانيا موقف بلادها بوجود مؤشرات إلى انقسام جديد في السودان، باتت الأطراف الدولية تتحسب له باعتباره عاملاً من عوامل عدم الاستقرار الإقليمي المؤثر في مصالح دولية، من هنا جرت الدعوة إلى اجتماع دولي ترعاه بريطانيا في أبريل (نيسان) المقبل.
أما الولايات المتحدة الأميركية فقد تحسبت من تطور تشكيل الحكومة الموازية باعتباره عاملاً من عوامل توسيع رقعة الظاهرة الإرهابية في السودان، وهو مؤثر أيضاً في أمن البحر الأحمر على اعتبار أن السودان من الدول المشاطئة له.
في هذا السياق تذهب غالبية التقديرات إلى أن التفاعلاًت المحلية الراهنة من المتوقع أن تنتج معادلات جديدة للصراع السوداني:
أولاً: على المستوى العسكري
1- تزايد قدرات قوات "الدعم السريع" التسليحية، خصوصاً ما يتعلق بتزايد فرص الحصول على سلاح طيران محترف، وكذلك دعم قدراته في الحصول على المسيرات التي سبق أن أسهمت في تغيير موازين الصراع العسكري في حرب تيغراي بإثيوبيا لمصلحة الحكومة، كما أسهمت في إفشال عملية دخول طرابلس في ليبيا من جانب قوات حفتر.
2- في ضوء وجود عبدالعزيز الحلو المسيطر فعلياً على مناطق في جنوب كردفان متحالفاً مع حميدتي الذي تقع تحت سيطرته غالبية إقليم دارفور، فإنه من المتوقع التنسيق بين الطرفين عسكرياً، بما يزيد من الضغوط على الجيش السوداني وحلفائه.
3- عطفاً على الخبرات السابقة سيبلور الجيش تحالفات جديدة في نطاق قبائل دارفور، خصوصاً مع وجود عدائيات بين حميدتي وبعض الزعماء الدارفوريين الآخرين من القبائل العربية كعمه موسى هلال بما يزيد من تشظي المكونات القبلية الدارفورية بين الطرفين، بالتالي اتساع رقعة الصراعات المسلحة في الإقليم.
ثانياً: على المستوى السياسي
1- الاتجاه نحو فصل إقليم دارفور عن التراب الوطني السوداني، بدفع داخلي على أساس عرقي، مسؤولة عنه بالأساس أدبيات الجبهة القومية الإسلامية وممارستها السياسية خلال العقدين الأخيرين، أما على المستوى الخارجي فإن هناك دعماً إسرائيلياً بالأساس مستهدف تقسيم السودان طبقاً لمخططات استراتيجية مصنوعة في تل أبيب، ينشط فيها حالياً عدد من اليهود في المنظمات الأميركية الخيرية، خصوصاً مع النازحين من دارفور إلى شرق تشاد.
2- تراجع الوزن النسبي للمكون المدني في معادلات اليوم التالي للحرب بعد انقسام تحالف تقدم إلى فريقين عطفاً على الموقف من تكوين حكومة موازية.
3- تشظٍّ وانقسامات في الأحزاب السياسية القومية السودانية، خصوصاً الأمة والاتحادي على أسس عرقية وجيلية، ذلك أن ذهاب رئيس حزب الأمة للتحالف مع حميدتي في الحكومة الموازية، أسفر عن إعفائه من منصبه، مما أسهم في انشقاقات بالحزب الذي تعد دارفور من أهم قواعده الانتخابية تاريخياً. وعلى صعيد مُوازٍ فإن انضمام إبراهيم الميرغني حفيد إمام الطائفة الختمية محمد عثمان الميرغني إلى تحالف حميدتي يعني فقدان الحزب الاتحادي بوصلة تحركه السياسي في هذه المرحلة، بما يمثله من انعكاس سلبي على قواعده الانتخابية.
4- تنامي فرص أحزاب الوسط السوداني التي لا تستند إلى قواعد طائفية في الصعود السياسي في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع الاتجاهات الديموغرافية، التي تزيد من تأثير الأجيال الشابة في المعادلات السياسية، لكن هذا النمو سيكون مشروطاً بمدى القدرة على امتلاك برنامج سياسي قومي مناسب للمرحلة، وكوادر شبابية جديدة مؤهلة من حيث الخبرات والقدرات.
5- تزايد فرص الجيش في الحكم المطلق خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً مع الفرص المتزايدة لاستمرار الحرب السودانية من جهة، وحالة التشظي للمكون المدني من جهة أخرى.
ثالثاً: على المستوى الإقليمي
1- تزايد قدرات "الدعم السريع" على المستوى العسكري، وإمكان توسع الصراع المسلح في دارفور من شأنه أن ينعكس عسكرياً على كل من تشاد وإريتريا وإثيوبيا، نظراً إلى حال التداخل العرقي والسياسي والحدود المشتركة مع السودان، كما أن حال عدم الاستقرار في إقليم دافور من شأنها أن ترفع مستوى الضغوط العسكرية على مصر فيما يتعلق بتأمين الحدود ودرء التهديدات الأمنية المترتبة على عداء يعلنه قائد "الدعم السريع" للقاهرة.
2- تعقد العلاقات بين القاهرة وأبوظبي على اعتبار أن فوضى مسلحة في السودان مؤثرة في مصر، وخصوصاً فيما يتعلق بتزايد أعداد النازحين إليها.
رابعاً: على المستوى الدولي
1- من المتوقع أن يبرز دور بريطاني في الأزمة السودانية مدعوم أميركياً في المرحلة المقبلة، وذلك في ضوء وجود اتجاهات بريطانية برزت في دوائر التفكير الاستراتيجية، قد استقرت على تنسيق أعلى وتحالف أوثق بين لندن وواشنطن، في شأن الأزمات الإقليمية والعالمية، كما وضح في زيارة وزير الخارجية البريطاني لواشنطن، وذلك بهدف تعويض خسائر الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والقيام بأدوار بديلة للتدخل الأميركي في مناطق بالشرق الأوسط منها مصر والسودان وتركيا والعراق.
2- المجهود الأميركي في الأزمة السودانية تحت إدارة دونالد ترمب، لم يتبلور بعد في ضوء الانشغال بأزمة غزة من جهة والتحديات الداخلية للإدارة التي تتزايد يوماً بعد يوم.
إجمالاً، تتراجع مؤشرات وقف الحرب السودانية على رغم الانتصارات العسكرية التي أحرزها الجيش السوداني أخيراً في شرق السودان والعاصمة الخرطوم، وتتجه المعادلات السياسية نحو مزيد من التعقيد على المستويين المحلي والإقليمي.
نقلا عن اندبندنت عربية