لعبة التشتيت بين الوعي والتشهير
تاريخ النشر: 7th, January 2024 GMT
ورقة تشتيت الرأي العام تقنية ليست بالجديدة ضمن أوراق السياسة والنفوذ، هذه الورقة التي يعرف صانعوها قيمة تركيز الرأي العام الشعبي على قضية محلية مشتركة، وعامل الضغط لتوجيه مسارها واختيار حلولها حين يتعاظم هذا التركيز، أما حين تكبر القضية لتتحول من قضية محلية ظن متعاطوها أنها أصغر من أن تصمد لأيام معدودة لتستغرق شهورا من الاهتمام الشعبي ليس المحلي أو الإقليمي وحده، وإنما الاهتمام الشعبي العالمي بكل تأثيراته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فلا بد حينها من استخدام ورقة تشتيت الرأي العام بمستوى يعتقد أصحابه بأنه يوازي حجم القضية الأولى، أو حتى يقل عنها مع الرهان على ما يمكن أن يلفت الاهتمام عن القضية الأولى بالقضية المصنوعة الموازية.
حين نقول المصنوعة فالمفهوم لم يتجاوز الدلالة الحرفية لما يعرف من أدوات السياسيين في مخططات طويلة المدى لصنع مخزن أدوات الضغط المجتمعية والاقتصادية، وفي هذا المخزن يُقنن غير القانوني ويُشرّع غير الشرعي ويؤنسن غير الإنساني في سبيل الاحتفاظ بمجموعة من أوراق الضغط لتوجيه مصالح الجهة الصانعة مالكة المخزن باستخدام ضحاياها من المستغلين عبر هذه الأوراق، ضحايا اليوم هم في الحقيقة شركاء الأمس الذين استدرجتهم إدارة المخزن بطُعْمَي المتعة والمنفعة للوقوع في شَرَك الأخطاء المُوثَّقة للطُعمين، وبعد تخزين هذه الأوراق لمدة تطول أو تقصر وفقا لحاجة إدارة المخزن لاستخدام ورقة من الأوراق إما لانتهاء المصلحة مع الضحية الشريك، أو للحصول على مصلحة مضاعفة تستحق التضحية بورقة الشريك الضحية- يتم إظهار هذه الورقة لتوافقها ومصلحة الإدارة التي يمكن أن تضحي بأفضل شركائها مقابل الغنيمة بأفضل النتائج في حرب لا تعترف بالقيم ولا تحترم المواثيق.
ومع العدوان الدولي على غزة وسكانها في مجزرة تهدف لمحو كل ما هو فلسطيني على الأرض من إنسان ومعالم وذكريات لتحويلها لمنطقة إسرائيلية تحكمها المنفعة وحسب، ومع تزايد وتيرة التعاطف الشعبي، بل لا أبالغ إن قلت بأن الأمر تجاوز التعاطف إلى تبني القضية الفلسطينية والدفاع عنها بكل الوسائل عبر مجموعات من البشر حول العالم، الأفراد الذين توصلوا إلى قناعة تامة بعدالة هذه القضية وضرورة نصرة أصحابها من الفلسطينيين، مع كل ذلك التشكل العميق في الوعي الشعبي العالمي تجاه قضية حاولت إسرائيل طمسها لعقود متوهمة نجاحها المؤزر، حتى اشتعل فتيلها ليتجاوز أوهام إسرائيل وظنون حلفائها بحيث لم تجد بدا من البحث والتنقيب في أدراج مخزن أوراق الضغط والتشتيت، وحينها وجدت ورقة كانت قد خبأتها للأوقات الصعبة، وهي ورقة جزيرة «تجار الجنس» التي كان يديرها الملياردير الأمريكي جيفري إبستين الذي انتحر في سجنه منتظرا محاكمته عام 2019م كما يدعى وهنالك روايات بتصفيته، الحادثة التي أعلن بعدها الحكم على شريكته وصديقته، ثم بقيت أوراقها عرضة للتكهن والافتراض لسنوات خمس قبل أن تقرر إدارة المخزن منذ أيام الكشف عن قوائم الشركاء وتفاصيل زائري الجزيرة ونوعية الخدمات المقدمة لهم فيها، بل وحتى أرقام الهاتف وعناوين البريد الإلكتروني للعملاء، وبعيدا عن كل التفاصيل وعن طول قائمة الشركاء والزائرين وصدمة وجود بعض الأسماء فيها فإن الأسئلة المطروحة هي أولا: ما أهمية ظهور هذه التفاصيل؟ ثم: لماذا الآن؟ ولماذا تعنى بذلك كثير من الصحف العالمية؟ قد يقول قائل: لأن القائمة تضم شخصيات معروفة من مختلف الدول، ولكن ما زال سؤال «لماذا الآن؟» قائما، ولا يمكن أن يكون الجواب إلا أن ظهور هذه الورقة بكل تداعياتها وتفاصيلها الآن ما هو إلا محاولة لتشتيت الرأي العام عن قضية فلسطين، وإشغال وسائل الإعلام وحملة الوعي الشعبية العالمية بتقصي التفاصيل الفضائحية لقائمة العار في الجزيرة المذكورة، وفي هذا رهان على الوعي الإنساني والثقافي الشعبي العالمي بين كفتيّ الوعي الإنساني والفضول الفضائحي.
ومن عجب أن الرأي الشعبي الغربي لم يول هذه الوثائق المعلن عنها -بعد سنوات من التقييد والسرية- تلك الأهمية التي تناولتها بها وسائل التواصل الاجتماعي العربية، حيث يجد الباحث في محركات «الترند» أن المتلقي الغربي يضع وقف حرب غزة في قائمته، بينما نجد المحرك العربي يضع جزيرة الفضائح وتجارة الجنس في قائمته!
ختاما: حريٌّ بشباب اليوم اختيار الوعي الفكري الإنساني على الفضول التشهيري الفضائحي، ليس لعدم جدوى الثاني وحسب إذ لا أحسب افتراض الملائكية الملازم للساسة ما زال قائمًا، بل لأن هذه الأجيال من شباب اليوم عاشت ما يكفي لتأسيس مناعة ضد التهافت والسقوط في شرك التشتيت، هذه الأجيال عانت ما يكفي لتقاوم لعبة الإلهاء، ولا بد لنا اليوم من التركيز على قضايا الإنسان بعيدا عن آلة الحروب المادية التي استنزفت طاقاته، ودمرت أحلامه في واقع أفضل يتمناه وغد أجمل يسعى إليه.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرأی العام
إقرأ أيضاً:
التحالفات السياسية في العراق: هل هي لعبة جس نبض أم تحركات حاسمة؟
مارس 5, 2025آخر تحديث: مارس 5, 2025
المستقلة/- في تطور سياسي مثير، محمد الزيادي، النائب عن الإطار التنسيقي، كشف اليوم الأربعاء أن قانون الانتخابات في العراق لا يزال يشكل نقطة خلافية محورية بين القوى السياسية.
ورغم أن النقاشات حول تعديله أو الإبقاء عليه ما تزال مستمرة، إلا أن الإطار التنسيقي أعلن بشكل قاطع أن القوى السياسية التابعة له لن تذهب إلى الانتخابات المقبلة بقائمة موحدة، بل ستكون مقسمة إلى ست إلى سبع قوائم انتخابية، مع تحديد التحالفات لاحقًا بناء على نتائج الانتخابات.
التعديل أم الاستمرار؟التساؤلات حول تعديل قانون الانتخابات تصدرت حديث الأوساط السياسية مؤخرًا. رغم أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أصدرت توجيهًا لفروعها في المحافظات، بما في ذلك إقليم كردستان، فإنها لم تُصدر بعد أي توجيه رسمي بشأن تغيير القانون أو الإبقاء عليه كما هو. هذا الغموض في الموقف يبدو كأنه محاولة للضغط السياسي على القوى الفاعلة في الساحة لتحقيق مكاسب معينة قبل أن تُحسم المسألة بشكل نهائي. ويبدو أن المفوضية في حالة انتظار لتوافقات سياسية قد تشهدها الفترة المقبلة، خاصة مع وجود تحركات سياسية مستمرة في الكواليس.
التحالفات السياسية: لعبة جس النبضوفي الوقت الذي يصرح فيه الزيادي عن وجود حراك سياسي بين القوى السياسية، سواء كانت مستقلة أو ناشئة، إلا أن هذا الحراك لا يزال مبهمًا ومبنيًا على أسلوب “جس النبض”. هل هذا يعني أن التحالفات المنتظرة ستحدث وفق المصالح السياسية دون الإعلان عنها بشكل علني؟ ومن خلال هذا التكتيك السياسي، تظل الساحة السياسية مفتوحة أمام مفاجآت قد تُغيّر ملامح الانتخابات القادمة بشكل غير متوقع.
التحديات والتوقعات القادمةالتوقعات تشير إلى أن الساحة السياسية في العراق قد تكون على موعد مع تحالفات سياسية جديدة، خاصة مع الوصول إلى مراحل متقدمة في النقاشات بين الكتل السياسية. ولكن هل هذه التحالفات ستكون ذات طابع تكتيكي يهدف إلى تعزيز القوى المتنازعة؟ أم أنها ستكون خطوة لتقوية النفوذ في ظل القانون الحالي أو المعدل؟ الأسئلة تظل مفتوحة، والأنظار متجهة إلى القرار الحاسم بشأن قانون الانتخابات.
الاختبار الأكبر: من سيكسب الرهان؟كل هذه التحركات السياسية تشير إلى أن العراق قد يكون أمام اختبار سياسي حاسم، بين من يستطيع تفكيك التحالفات القديمة وبناء تحالفات جديدة قادرة على تحقيق التغيير، وبين من سيظل متمسكًا بالوضع الراهن. وما إذا كانت تلك التحالفات ستنجح في تحقيق التوازن في المشهد الانتخابي أم ستكون مجرد تحالفات هشة لا تصمد أمام التحديات.
إذاً، ما الذي يخبئه المستقبل السياسي في العراق؟ وهل ستظل الكتل السياسية تدير لعبة التحالفات من خلف الستار أم أننا سنشهد صيفًا انتخابيًا ملتهبًا بالتحالفات والاتفاقات؟ التساؤلات تظل حاضرة، والجواب قد يكون أكثر إثارة مما نتوقع.