الفن والشعر: عزف على أوتار الألم في غزة
تاريخ النشر: 7th, January 2024 GMT
يمتلك الشعر والفن قدرة عجيبة على التسلل بين أزيز الرصاص وأتون المعارك خاصة المعارك المصيرية الكبرى، ومنها عملية طوفان الأقصى الدائرة حاليا. فوجدان البشر عبر التاريخ ينوء بحمل أهوال الحروب ومآسيها من دون أن يعبر عما يجيش في صدره من صور جمالية رائعة. لقد ظلت قصيدة تلاميذ غزة للشاعر السوري الراحل نزار قباني عنوانا يزين محيا أطفال غزة لعقود طويلة، وقد عاشت بيننا هذه القصيدة لأن حجم التدفق الإخباري اللحظي حينئذ لم يكن كما هو عليه الحال الآن، فكنا نسمع ونشاهد الأخبار حينا ونعبر عنها وتداول معانيها شعرا وفنا وغناء أحيانا أخرى.
لم تنضب قريحة الشعراء والفنانين مع كل عدوان إسرائيل غاشم على أهلنا في غزة، لكن مدة المعارك خلال السنوات الماضية لم تكن لتسمح بأن يزاحم الخبرَ اليومي فيها أيُّ شيء آخر غير متابعة الحدث نفسه وتفاصيله. أما طول الحرب الحالية ومآسيها ففرض نوعا من الشوق لطرق أخرى للتعبير عما يجري، فعندما يتوقف العقل عن الاستيعاب يتحرك الوجدان للفهم والتعبير. وهذا يفسر الإنشاد والمديح الجماعي للأطباء في غزة أو بعض جلسات السمر والإنشاد الجماعي للنازحين مساء على أضواء الهواتف النقالة في غزة.
عزاؤنا أن الشعراء لم ينسوا القضية، ولو كان الأمر بيدي لنشرت بين كل خبر وخبر عن غزة قصيدة شعرية تتحدث عن الواقع وتصفه. فالرسم بالكلمات في هذه الظروف لا يقل عن صورة الكاميرا والشعر أحيانا أصدق إنباء من الخبر
إن خير مثال على هذا الأمر هو إحياء أغنية تحيا فلسطين لفرقة الكوفية السويدية، وهي أغنية قديمة يربو عمرها على أربعين سنة، وقد وضعتها مآسي الحرب العالية كعنوان متجاوز للثقافات واللغات للتعبير لتمثيل حالة التضامن العالمية التي تزداد رقعتها اتساعا. فحين وصلت حناجر الهاتفين في المظاهرات المؤيدة لغزة إلى مستوى يحتاجون فيه إلى ما هو أبعد وأعمق من الهتاف؛ كان الملاذ مع هذه الأغنية ذات اللحن الشجي. واللافت أن معظم من يسمعونها ويطربون لها ويغنونها تضامنا مع غزة لا يعرفون معاني كلماتها لأنها باللغة السويدية.
الأمر نفسه ينطبق على رواية الشوك والقرنفل التي كتبها القائد يحيى السنوار في السجن، والتي بقيت متوارية في الظل رغم الحضور الطاغي للرجل خلال السنوات الماضية؛ حتى أتت عملية طوفان الأقصى لتبث فيها الحياة وتحولها إلى أيقونة أدبية يقصدها الجمهور المتطلع إلى اكتشاف تضاريس خيال هذا الرجل الذي أذاق إسرائيل هذا المرّ لأول مرة في تاريخها.
عزاؤنا أن الشعراء لم ينسوا القضية، ولو كان الأمر بيدي لنشرت بين كل خبر وخبر عن غزة قصيدة شعرية تتحدث عن الواقع وتصفه. فالرسم بالكلمات في هذه الظروف لا يقل عن صورة الكاميرا والشعر أحيانا أصدق إنباء من الخبر
وهنا يبرز دور جديد للرواية الأدبية الفلسطينية في شكل ومضمون جديد، وفيها يتوحد فيها دور الأديب مع دور المناضل والمقاوم. فمنذ غسان كنفاني لم تحدث عملية التوحد هذه، ولم يمتلئ النص بتجربة الكاتب وتكسيه الشخصية حضورا وعمقا. ولو أن السنوار ليس أديبا محترفا، غير أنه حفر بالكلمات في سجنه نفقا وسردابا يشبه أنفاق غزة؛ أدخل القارئ بعمق على العمق النفسي والتاريخي للغزاويين، وهي تؤرخ بحق للتاريخ الإنساني الذي أفرز لنا حدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
من بني سويف في مصر إلى العاصمة الأردنية عمان ومنها إلى الكويت والجزائر؛ حدث استنفار شعري للتضامن مع غزة من مسابقات وأمسيات شعرية، تتوارى تفاصيله في ثنايا الأخبار ويغرز بعمق في التربية العربية والإسلامية نبتها جديدا يجدد الهوية والكرامة العربية والإسلامية.
لقد غاب نزار قباني وفدوى طوقان وغيرهما من مشاهير الشعراء العرب، وغابت القصيدة التي تجوب الأراضي العربية من المحيط إلى الخليج كتعبير عن حالة الألم العام الذي تضيق به صدور العرب كبارا وصغارا. وعزاؤنا أن الشعراء لم ينسوا القضية، ولو كان الأمر بيدي لنشرت بين كل خبر وخبر عن غزة قصيدة شعرية تتحدث عن الواقع وتصفه. فالرسم بالكلمات في هذه الظروف لا يقل عن صورة الكاميرا والشعر أحيانا أصدق إنباء من الخبر.
twitter.com/HanyBeshr
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشعر غزة غزة الشعر الفن مأساة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بالکلمات فی فی غزة
إقرأ أيضاً:
ترامب ومائة يوم في الحكم
مائة يوم مرّت على تسلّم دونالد ترامب مقاليد رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كشفت هذه الأيام، ولو جزئيا، ولو أوليّا، ما يمكن أن يُنجزه ترامب خلال أربع السنوات لإدارته الراهنة. فقد تكشفت بأن تهديداته، وما يلوّح به من تغيير، لم يقم على دراسة استراتيجية، أو خطط مدروسة معدّة للتنفيذ.
فهو يعتمد على نمط من الحرب النفسية، أو إخافة من يتوجّه إليهم، في تحقيق ما يطلبه منهم، فإذا قوبل برفض ومعارضة، أو واجه مقاومة مبطنة بالمساومة، فلا حرج عنده من التراجع، أو التقدّم بطلبات أخرى. فهذا ما حدث له، مثلا، مع عدد من الدول الحليفة لأمريكا، أو غير الحليفة، وهو يعالج رفع الرسوم الجمركية. وقد تراجع متخذا قرارا لتنفيذ وعده بعد تسعين يوما، طبعا قابلة للتمديد، بل هي قابلة أيضا للتراجع بعد مفاوضات.
الأمر يكشف، مع مرور مائة اليوم على عهد ترامب، ما وصله من انسلاخ عن الواقع وقوانينه، وموازين قواه. وذلك ابتداء من مطالبته بضم كندا إلى الاتحاد الأمريكي، فتصبح الولاية الواحدة والخمسين، مرورا برفع الجمارك الأمريكية على كل دول العالم تقريبا، وانتهاء بالحرب الإبادية الإجرامية، التي تُشنّ ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة
وهذا ما حدث له بالنسبة إلى مطالباته من كندا والمكسيك وبنما، أو ما سيحدث له في مطالبته بإعفاء السفن الأمريكية من الرسوم لعبور قناة السويس. بل يمكن اعتبار تخليه عما فرضه على نتنياهو من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، مثلا آخر على تردّده، أو في الأصح على عدم ثباته على الموقف، وتحويل ما حققه من نجاح إلى فشل، وذلك عندما عاد ليعطي الضوء الأخضر لنتنياهو الذي أطلق العنان لحرب إبادة ثانية، كانت نتيجتها عزلة عالمية، إذ لم تؤيدّهما دولة واحدة في العالم.
وبهذا عاد ترامب إلى سياسة متردّدة مرتبكة، بين المضيّ في تغطية سياسة نتنياهو الخرقاء الفاشلة من جهة، وبين الضغط مرّة أخرى لوقف إطلاق النار، لكن بازدواجية راحت تراوح بين المفاوضات واستمرار الحرب.
ترامب وطاقمه التنفيذي منحازون تماما للكيان الصهيوني، وقد وصل التطرّف بهم إلى المطالبة بترحيل فلسطينيي غزة، ودعك من المزحة السخيفة المتعلقة بتحويلها إلى "ريفييرا". ثم أضف التناقض الصارخ في نهج ترامب وإدارته للسياسة أو الحرب، عندما يصرّ على ضرورة إطلاق الأسرى جميعا، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلّا بوقف إطلاق النار، ضمن الشروط التي تقبل بها المقاومة.
وهذا الأمر يكشف، مع مرور مائة اليوم على عهد ترامب، ما وصله من انسلاخ عن الواقع وقوانينه، وموازين قواه. وذلك ابتداء من مطالبته بضم كندا إلى الاتحاد الأمريكي، فتصبح الولاية الواحدة والخمسين، مرورا برفع الجمارك الأمريكية على كل دول العالم تقريبا، وانتهاء بالحرب الإبادية الإجرامية، التي تُشنّ ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
من هنا يحق توقع التقلّب والتذبذب والفشل لترامب على مستوى عام، كما على المستوى الفلسطيني، ولا سيما إذا لم يحسم في وضع حدّ لنتنياهو المأزوم، والآخذ بأمريكا والغرب إلى العار، وتغطية جرائم الإبادة.