كلام فنون: بشأن التأريخ للموسيقى العُمانية «3» النشيد والموشح
تاريخ النشر: 7th, January 2024 GMT
قوافٍ إذا أنشدْنَ يوما بمجلسِ
تفاوَحَ منها العطرُ والنشرُ والنّدُّ
البيت الشعري مقتبس من قصيدة طويلة للشاعر محمد بن عبدالله بن سالم المعولي (من شعراء دولة اليعاربة) في مدح الإمام سلطان بن سيف (القرن السابع عشر الميلادي) ومنشورة في «ديوان المعولي» من قبل وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا) عام 1984م، وتبدأ القصيدة بأبيات غزل فائقة الجمال يقول في مطلعها:
بُعادك يا عذب الثنايا ولا الصدُّ.
بَعدتم فزادَ القلبُ شوقا وحسرةً.. قرُبتم فزاد الهمُّ والحزنُ والجدُ
لا شك أن هذا النوع من الشعر الرقيق البديع يُنشد إنشادًا بلحن يناسبه في المجالس العُمانية التقليدية من قبل الشاعر نفسه أو من الحفاظ أصحاب الأصوات الحسنة. من هنا أستطيع القول إن المعلومات التاريخية للموسيقى العُمانية في المرحلة الإسلامية بفضل هذه النصوص الشعرية والروايات التاريخية أكثر انكشافًا ووضوحًا من المرحلة التي سبقتها (عُمان القديمة) ولكنها معلومات متناثرة في مصادر مختلفة وجمعها يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت علاوة على تصنيفها تاريخيا.
في المقال السابق أشرت إلى نوع المعلومات التي يجب أن نبحث عنها في هذه المرحلة الإسلامية من تاريخ عُمان الموسيقي، وكما ذكرت في ذلك المقال، فإن المصادر التاريخية المكتوبة تحتوي على العديد من البيانات والمعلومات بشأن الموسيقى، وتشير إلى شيوع أنواع من الممارسات الموسيقية الغنائية وهي: النشيد ومنها الموشحات الشعرية، والطرب الآلي، وأنواع أخرى من أنماط الغناء التقليدي حسب المصطلح المعاصر. من هنا فنحن أمام ثلاثة توجهات فنية كبيرة في التراث الموسيقي العُماني، كل منها له مكانته ودوره في النظام الثقافي والاجتماعي. إن هذا التراث الشعري العظيم وطريقة إنشاده تراث قديم في التاريخ العُماني والجزيرة العربية يعود إلى ما قبل الإسلام.
من هنا يصعب في هذه المرحلة الإسلامية الفصل بين الشاعر والشاعر المنشد، ولطالما كان الشعراء هم كذلك منشدون ولا فرق بين الوظيفتين في الثقافة التقليدية. ومن وجهة نظري، لم يحدث الفصل بينهما وبروز المطرب المغني الذي يغني أشعار الآخرين، إلا في المرحلة الثالثة لعُمان الحديثة الإصلاحية مع شيوع استعمال الآلات الموسيقية وآلة العود بصفة خاصة. من هنا تقع أهمية هذا التطور التاريخي إن جاز التعبير والمتمثل في استقلال المطرب عن الشاعر المنشد. ورغم إننا نفرق اليوم بين الموسيقي والشاعر، وبين الشعر والموسيقى كفنين مستقلين، إلا أن الغناء يظل الوجه الآخر لعملة الشعر والعكس صحيح، فالشاعر سيد الكلام والمطرب سيد الأنغام. وقد ذكرت في مقال سابق أن جميع المطربين العُمانيين الأوائل المعروفين لدينا منذ مطلع القرن العشرين الميلادي كانوا أيضا شعراء أغنية، يؤلفون أغانيهم بأنفسهم عكس الوضع الحالي الذي يعتمد فيه المطرب على الشاعر المختص في كتابة الأغاني. ولا أدري إن كان المنشد في القرون الماضية هو أيضا بنفس المفهوم الحالي الذي برز في الثقافة المعاصرة بشكل واسع كاختصاص بالغناء الديني فقط.
وللعُمانيين طريقة فريدة في إنشاد الشعر الفصيح دون مصاحبة آلات موسيقية، وهذا النوع من الغناء كان مقبولا من الجميع ومقدرا من النظام الثقافي الرسمي، يؤديه في المجالس الشعراء المنشدون وأصحاب الصوت الحسن وحفظة الشعر الفصيح.. ولا يزال هذا الفن متداولا ومتوارثا، وهو تحديدا الذي نبهت إلى أهميته في المقال الماضي.
وطالما نعتمد في هذا المقال على مصدر واحد وهو «ديوان المعولي» كمثال على قدم قالب النشيد في التراث الغنائي العُماني وإن قوالب الشعر التي وصلت إلينا من أزمنة مختلفة تؤكد حضور هذا القالب الفني مقرونا بعدة قوالب من الشعر منها قالب الموشح. ورغم أن الديوان ليس به سوى موشح واحد، إلا أن هذا يضعنا في المقابل أمام أسئلة عديدة خاصة إذا كانت العبارة المكتوبة في مقدمة النص من أصل المخطوط». وقال أيضا -رحمه الله- وقد وشحها شاعرٌ من أهل الحساء -وهي من الموشحات- ذلك أن هذا النص قد وشحه شاعر من الحساء بمعنى لحنّه وغناه حسب فهمي المتواضع. وهنا اقتبس «دورين» بمصطلح موشحات اليوم من أصل النص المنشور وهو نص طويل:
يا صاحِ نصحا للنصيحةِ فأقبلا
لا تبغ عن طرقِ الهدايةِ مَعْدَلا
واتبع شريعةَ أحمدٍ أزكى الملَا
إن كنت تبغي أن تُبوأ منزلا.. في جنةٍ وتعلُ من فوّارِهاوتكونَ مسرورا بأنس أكارمٍ
وصفاءَ مشروبٍ وطيب مطاعمِ
ولقاءِ أحبابٍ وحسنِ خواتِمِ
وتريحَ نفسَكَ في نعيمٍ دائمِ.. لا ينطفئ أبدا سنا أنوارِها
**
... وللمقال بقية...
مسلم الكثيري موسيقي وباحث
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من هنا
إقرأ أيضاً:
استكشاف فنون الطهي.. متى يصبح الطعام فنًا؟
تتداخل الحدود بين الطعام كوسيلة للبقاء والطعام كوسيلة للتعبير الفني بشكل لافت للنظر في القرن الحادي والعشرين. أصبح "الطهي" أكثر من مجرد إعداد وجبة، إذ تحوّل إلى ساحة للإبداع، تجمع بين الألوان، القوام، النكهات، وحتى المشاعر. ويطرح جريدة وموقع الفجر السؤال الذي يثير الجدل هو: متى يمكننا اعتبار الطعام فنًا؟ وهل يجب أن يُعامل الطهاة كفنانيين؟
المطبخ كمنصة للإبداعفي مطابخ العالم الفاخرة، أصبح الطهاة يستخدمون تقنيات مستوحاة من الكيمياء، الفيزياء، وحتى الهندسة، لخلق أطباق تبدو وكأنها خرجت من لوحات فنية. خذ على سبيل المثال حركة "المطبخ الجزيئي" التي قادها طهاة مثل "فيران أدريا" و"هستون بلومنتال"، حيث يتم تفكيك وإعادة بناء المكونات بطرق غير تقليدية. يُقدم لك الطبق كعمل فني يتحدى تصوراتك، مثل حلوى تشبه قطعة من الصخور أو حساء يتخذ شكل رغوة.
لكن هذا النوع من الطهي يثير تساؤلات حول معايير الجمال في الطعام. هل يُقاس الفن في الطهي بالشكل فقط أم بالنكهة أيضًا؟ أم أن الجمع بين العنصرين هو ما يجعله فنًا حقيقيًا؟
الطعام كرسالة ثقافية وفنيةبالنظر إلى التاريخ، نجد أن العديد من الثقافات استخدمت الطعام كوسيلة للتعبير عن هويتها وتقاليدها. على سبيل المثال، فن تقديم السوشي في اليابان يُعتبر نوعًا من الفنون التي تحتاج إلى سنوات من التدريب لإتقانها. وفي الهند، تُستخدم البهارات بألوانها الزاهية لرواية قصة المكان والمناخ والثقافة.
في العصر الحديث، أخذ الطهاة هذا الإرث الثقافي إلى مستويات جديدة. الطاهي الإيطالي "ماسيمو بوتورا"، على سبيل المثال، يستخدم أطباقه لطرح قضايا اجتماعية، مثل هدر الطعام أو دعم المزارعين المحليين. وهنا يصبح الطعام أداة للتغيير الاجتماعي، مما يضعه في خانة الفنون التعبيرية.
النقد: هل كل طاهٍ فنان؟رغم هذا، لا يتفق الجميع على اعتبار الطهي فنًا. يرى بعض النقاد أن الفن يجب أن يكون مستقلًا عن أغراض أخرى، مثل التغذية أو الربح، وهو ما يجعل الطهي نشاطًا تجاريًا أكثر من كونه فنيًا. من جهة أخرى، يُجادل المؤيدون بأن الفن لا يحتاج إلى الانفصال عن الأغراض العملية، مشيرين إلى الهندسة المعمارية كدليل على ذلك.
حتى داخل مجتمع الطهاة أنفسهم، هناك اختلافات. بعض الطهاة يفضلون التركيز على النكهة والتقنيات التقليدية بدلًا من الاهتمام بالشكل الجمالي، بينما يرى آخرون أن تقديم الطبق بشكل مبتكر لا يقل أهمية عن مذاقه.
متى يصبح الطعام فنًا؟الإجابة على هذا السؤال قد تعتمد على منظورك الشخصي. البعض قد يعتبر الطعام فنًا عندما يكون قادرًا على إثارة المشاعر أو تغيير طريقة تفكيرك حول مكون معين. البعض الآخر قد يرى أن الفن في الطهي يكمن في المهارة والإبداع.
ختامًابين الجدل القائم حول تعريف الطعام كفن والمكانة التي يجب أن يُمنحها الطهاة في عالم الفنون، يظل شيء واحد واضحًا: الطعام يحمل قوة فريدة تجمع بين الجمال، المتعة، والثقافة. سواء كنت تعتبره فنًا أو لا، فإن استكشاف عالم الطهي سيبقى تجربة تستحق الاهتمام، حيث يلتقي الإنسان بإبداعه على طبق من ذهب.