ليس اعتباطاً قولنا "رب صدفة خير من الوعد". ففي بعض الصدف مغازٍ لا تتنزل حتى من وعد. ومن هذه الصدف الاستثنائية قيام ثورة ديسمبر 2018 في الـ19 منه، وهو نفسه يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان عام 1955، أي قبل حلول هذه المأثرة ورفع علمها في أول يناير 1956. وكان إعلان الاستقلال من داخل البرلمان مما اتفقت عليه حكومة الحكم الذاتي (1954-1956) والمعارضة للتنصل من التزامهما نص اتفاقية الحكم الذاتي، الموقعة بين طرفي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، في فبراير 1953 بإجراء استفتاء للسودانيين بنهاية الفترة الانتقالية (1954- 1956) يقررون به، إن رغبوا في الاستقلال، أو في الاتحاد مع مصر.

وحسم قرار الاستقلال داخل البرلمان قول الاتفاق، ولم يعد للاستفتاء وخيار الاتحاد مع مصر مكان من الإعراب.
فيوم الـ19 من ديسمبر الذي تصادف أنه كان يوماً لاستقلال السودان في 1955 وللثورة على حكومة من دولة 56 في 2018، غاص بالمعاني في سياق حرب قائمة المعلن من أهدافها هو القضاء على دولة 56 التي يقال إن الشماليين استأثروا بها دون أهل الهامش السوداني. فإذا صح هذا الاستئثار، وكان مما تواثق عليه الشماليون عن بكرة أبيهم، فسيصعب على ناشط الهامش وداعيته تفسير سقوط دولة من دول 56، هي دولة الإنقاذ التي خيمت علينا لثلاثة عقود، بثورة سوادها الشماليون، وفي يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان.
ولم تكن "ديسمبر" هي الثورة الأولى التي أطاحت بنظام من نظم لحكومات ما بعد الاستقلال. فسبقتها ثورة أكتوبر 1964 التي أزالت حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، وثورة أبريل 1985 التي أحالت حكومة الرئيس جعفر نميري (1969-1985) إلى الاستيداع. واتصفت هذه الثورات جميعاً بأنها ثمرة مقاومة مدنية نجحت في العصف بحكومات لدولة 56 في حين تعذر ذلك على حركات الهامش من لدن حركات القوميين الجنوبيين (أنيانيا 1962-1972)، والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان (1983-2011)، وحركات دارفور المسلحة (2003-....). وكلها قصدت إلى إسقاط تلك النظم عنوة. فكاد الجيش الشعبي يقترب من الخرطوم في 1989 ولم يفل حديده سوى قيام الإسلاميين بانقلابهم وصارعوه وردوه. واقتحمت قوات حركة العدل والمساواة الدارفورية (خليل إبراهيم) مدينة أم درمان وسطت عليها لثلاثة أيام في 2008 فردت على أعقابها.
وعليه إذا لم تسقط أي من حكومات دولة 56، التي يقال إنها مما استأثر بها الشماليون، إلا بثورة غلب فيها نفس هؤلاء الشماليون، فما حجة الهامش على أنها حكومات اقتصرت حصرياً على الشماليين وغضت الطرف عن أهله؟ بعبارة أخرى، لماذا يثور هؤلاء الشماليون على حكومات هم أصحاب الوجاهة فيها والامتياز؟ وكيف لهم ركل نعمة هذه الحكومات، التي قيل إنها ملكية خاصة بهم، ثلاثاً منذ أن قامت فيهم في 1956؟
ولا يعجز فكر الهامش هذا المنطق الذي تبدو صرامته. فتجدهم يقولون إن هذه الثورات في المركز الشمالي على حكومة المركز غير مقدر لها سوى إعادة إنتاج الحكومة نفسها التي ثاروا عليها. و"لا تلد القطط العمياء سوى القطط العمياء". فهي عندهم في مثل "انقلاب القصر" تقوم به فئة من بطانة السلطان على بطانة أخرى منافسة. وكان العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، أول من عبر عن هذه العقيدة عن أن ثورة المركز بمثابة عملية تجميل لحكومة شمالية بان قبحها بأخرى شمالية ستقبح في وقتها الخاص.
فلما أسقطت ثورة أبريل 1985 نظام نميري، الذي جاء للحكم بانقلاب عسكري في مايو 1969، توقف قرنق، الذي كان يقود حرب عصابات في أدغال الجنوب، دون الاعتراف بالثورة. فاستنكر الانقلاب العسكري بقيادة المشير عبدالرحمن سوار الدهب، القائد العام للقوات المسلحة، الذي قام بانقلاب مؤسسي بزعم الانحياز للشعب وأزاح نميري من سدة الحكم. وكون مجلساً عسكرياً انتقالياً إلى جانب الحكومة المدنية التي كونها التجمع النقابي، بؤرة الثورة، والأحزاب السياسية.
فرأى قرنق في المجلس العسكري الذي تكون من ضباط نميري العظام نسخة أخرى من نظام مايو فسماها "مايو 2". وطلب من التجمع النقابي، إذا أراد منه أن ينضم إلى ركب التغيير بعد سقوط نميري، أن يواصل ثورته فيزيح المجلس العسكري الانتقالي لاستئصال شأفة نظام مايو بالكلية. وحاول التجمع النقابي قبل حديث قرنق إزاحة المجلس بإضراب عام لم تكتب موازين القوى له النجاح. وعليه كان شرط قرنق للانضمام لركب الثورة مستحيلاً، فاعتزلها.
وتكرر الأمر مع ثورة ديسمبر 2018. فاعتزلها عبدالواحد محمد نور، قائد جيش حركة تحرير السودان الدارفورية، بذريعة قرنق نفسها. وسمى حكومة الثورة "الإنقاذ 2" لما رأى قيام المجلس العسكري الانتقالي بقيادة اللواء عبدالفتاح البرهان بعد انقلابه وضباط البشير العظام عليه، أي على "الإنقاذ 1".
ونواصل

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لتحریر السودان داخل البرلمان دولة 56

إقرأ أيضاً:

بالأسماء: العاهل الأردني يوافق على تشكيلة حكومة جعفر حسان

رام الله - دنيا الوطن
قرر العاهل الأردني عبد الله الثاني، اليوم الأربعاء، موافقته على تشكيلة الحكومة الجديدة برئاسة جعفر حسان.

وأدى رئيس الوزراء والوزراء اليمين الدستورية أمام الملك عبد الله، في قصر الحسينية، بحضور ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، وكبير الأمناء في الديوان الملكي الهاشمي الأمير مرعد بن رعد، ورئيس الديوان الملكي الهاشمي يوسف حسن العيسوي.

فيما يلي تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة:

جعفر حسان، رئيساً للوزراء

أيمن حسين عبدالله الصفدي، نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية وشؤون المغتربين.

رائد مظفر رفعت أبو السعود، وزيرا للمياه والري.

"أحمد ماهر" حمدي توفيق أبو السمن، وزيرا للأشغال العامة والإسكان.

وليد "محي الدين" سليمان المصري، وزيرا للإدارة المحلية.

محمد حسين سعد المومني، وزيرا للاتصال الحكومي.

بسام سمير شحادة التلهوني، وزيرا للعدل.

لينا مظهر حسن عناب، وزيرا للسياحة والآثار.

خالد موسى شحادة الحنيفات، وزيرا للزراعة.

يعرب فلاح مفلح القضاة، وزيرا للصناعة والتجارة والتموين.

صالح علي حامد الخرابشة، وزيرا للطاقة والثروة المعدنية.

مهند شحادة خليل خليل، وزير دولة للشؤون الاقتصادية.

أحمد علي خليف العويدي، وزير دولة.

عزمي محمود مفلح محافظة، وزيرا للتربية والتعليم ووزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي.

مثنى حمدان عليان غرايبة، وزيرا للاستثمار.

محمد أحمد مسلم الخلايلة، وزيرا للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.

مازن عبدالله هلال الفراية، وزيرا للداخلية.

فراس إبراهيم ارشيد الهواري، وزيرا للصحة.

وفاء سعيد يعقوب بني مصطفى، وزيرا للتنمية الاجتماعية.

معاوية خالد محمد الردايدة، وزيرا للبيئة.

نانسي أحمد إبراهيم نمروقة، وزير دولة للشؤون الخارجية.

زينة زيد رشاد طوقان، وزيرا للتخطيط والتعاون الدولي.

وسام وليد توفيق التهتموني، وزيرا للنقل.

عبدالمنعم صالح شحادة العودات، وزيرا للشؤون السياسية والبرلمانية.

عبدالله نوفان السعود العدوان، وزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء.

فياض ملفي عقيل القضاة، وزير دولة للشؤون القانونية.

خالد محمود محمد البكار، وزيرا للعمل.

عبدالحكيم موسى عبدالقادر الشبلي، وزيرا للمالية.

مصطفى نصر مصطفى الرواشدة، وزيرا للثقافة.

خير عبدالله عياد أبو صعيليك، وزير دولة لتطوير القطاع العام.

يزن حسين سليمان الشديفات، وزيرا للشباب.

سامي عيسى عيد سميرات، وزيرا للاتصال الرقمي والريادة.

مقالات مشابهة

  • ارجاء جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقررة بعد ظهر اليوم (صورة)
  • دولة مالي والأخطاء الكبرى
  • حسن إسماعيل: هذا هو السبب الذي اشعل الحرب في السودان(….)
  • البرهان: حكومة السودان ملتزمة بإنهاء معاناة المواطنين وبذل الجهود لإنهاء الصراع
  • وزير الخارجية المصري: حماس تؤكد لنا التزامها الكامل باقتراح وقف إطلاق النار الذي توصلنا إليه في 27 مايو والتعديلات التي أجريت عليه في 2 يوليو
  • الموساد نفذها خوفًا من اكتشاف حزب الله الأمر: عن أجهزة "البيجر" التي كانت ورقة خفية في يد إسرائيل
  • بالأسماء: العاهل الأردني يوافق على تشكيلة حكومة جعفر حسان
  • وزير المالية فشل في الرد علي الأسئلة التي كانت تندفع نحوه كالسيل جعلته في حالة توهان وغياب تام عن المشهد الدراماتيكي !!..
  • مصدر لبناني: أجهزة الاتصال التي انفجرت كانت مفخخة بشكل مسبق
  • مصادر: "الخطوات المتهورة" التي تخطط لها حكومة نتنياهو في الشمال قد تورِّط إسرائيل في مشكلة أكثر صعوبة