مأمون التلب
(1)
توفّي قبل أيام جارُ أصدقائنا بود مدني متأثّراً بحادثٍ جماعيٍّ مأساوي وقع بالمدينة، على إثره توفّي –حتّى كتابة المقال- 45 مواطناً من أهل المدينة (أحياء دردق ناصر جزيرة الفيل وحبيب الله)، وقد أشارت تقارير لتسمّم الحاويات التي استُخدمت لحفظه. لقد تُوفّيت السيّدة التي باعته، ووبعض أفراد أسرتها كذلك، كانوا جميعاً من ضمن الضحايا.
لكنّ أمراً مُخيفاً ومُرعباً حدث بعد ذلك، تجاوز عندي مأساة الموت الجماعي، ورأيتُ فيه موتاً شاملاً للضمير الإنساني، فلم يترُك نَفَرٌ -من مسجّلات الواتساب- أهل الضحايا يتألمون ويودّعون أحبَّاءهم في سلام، بل انهالوا عليهم بشائعة منحطّة جعلت الكثير مِن مَن جنّنتهم هذه الحرب يفرحون ويهلّلون لكلّ هذا الموت.
سأختصر الشائعة: قيلَ إن السيّدة بائعة العرقي قَتَلت –مع سبق الإصرار والترصّد- 18 جنديّاً من مليشيا الدعم السريع؛ قِيلَ إنّها سمّمتهم بالعرقي الذي ناولته لهم! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
يا بشر، هؤلاء اختلفوا في تسميتها: هل هي "مجاهدة" أم "وطنيّة"! وتجادلوا حول كيفيّة مكافأتِها بينما هي تبيع "المُنكر"! وهل يجوز؟ وقال قائل: "أنا متبرّع –حتّى لو بتبيع عرقي وإيماني بتحريمو- أسوقها من أي حتة وأطلعها لأي حتة عايزاها"!
كان جسدها في تلك اللحظات يُوارى الثرى.
(2)
حسب مكالمة هاتفية من مصدرنا الموثوق عبر مكالمة هاتفية في حي ناصر دردق، فإن "المرأة جنوبية في حي حبيب الله، حصلت على "جَوَالِين" كانت تُستخدم لنقل أسمدة سامَّة. ولجهلها، لم تُنظِّف المواعين بطريقة صحيحة، وعبَّأت العرقي في تلك المواعين وباعتها لزبائنها على اختلافهم. وكان جرَّاء هذا الفعل الأخرق حتى نهار اليوم السبت 6 يناير، حسب أهلنا في حي ناصر، 45 ضحية، ومنهم شابين من جيران أهلنا، وكذلك المرأة وبعض أفراد أسرتها. وكل ما قيل مجرد تكسّب ومزايدة تعيسة". (انتهى).
(3)
إن افترضنا –جدلاً- أن الإشاعة القاتلة كانت حقيقيّة: ما كلّ هذا الفرح بالموت؟ ما الذي حدث للناس؟ لنكن قُساة ونقول: لك الحق –وأنت تُناصر الجيش- أن تفرح بهزيمة عدوّك في أرض المعركة، لكن البحث عن "بطلةٍ"، سيّدة ومواطنة فقيرة في بيتها، لتُداوي بمأساتِها –ومأساة عشرات الأسر المكلومة- جراح هزيمتك؟، فلا تعليق هنا.
(4)
في عرف الكثير من مطلقي هذه الشائعات فليس أسوأ من شراب العرقي وبيعه؛ لا الكذب البوّاح، وتحرّيه وملاحقته حتّى يُكتبوا عند الله كذّابين، لا السرقة، لا الاختلاس، لا النفاق، لا القتل، لا الاغتصاب -كوظيفة دولة- إن الإسلام في حياتهم يكمن في قهر النساء والشابات والشباب، كشّيح العرقي والجلد، وباختصار الأستاذ محمود محمد طه: إذلال الشعب وجرّه للاستكانة.
جديرٌ بالذكر أن السيّدات بائعات العرقي لا يجدن أبداً مناصرةً من أحد، كل الأطراف ضدّهنّ، حتّى إن أغلبيّة المنظمات العاملة في مجال حماية النساء، العاملات الفقيرات، تتوقّف، عادةً، عند حدّ بائعات الشاي، ولا تتعدّاهن. بينما عنف الدولة ضدّهن يصل مرحلة اقتحام بيوتهنّ في أيّ وقتٍ، بل وصل حدّ إطلاق الرصاص في رأس سيّدة لا تعمل في مجال بيع العرقي أصلاً، بل، فقط، تمتّ بصلة قرابةٍ لإحداهنّ: رصاصة في الرأس في الشارع العام، ذات الرصاصة التي قتلت سيّدة تعمل في ذات المجال إبّان "تنظيف" منطقة كولومبيا من "خوارج" المجتمع! في أيّ شريعةٍ يُعاقب شارب الخمر أو بائعه بالقتل العمد؟.
عليّ أن أشير هنا أعتقد أن الشريحة التي ناصرتهنّ، بصدقٍ، كانت شريحة الكتاب والفنانين؛ الكثير من الروايات والقصص تعكسُ هذا الجانب المقهور من مجتمعاتنا، أو ما أصبح يُسمَّى بالعالم السفليّ للمدن والقرى.
(5)
هذه الشائعات، هذا "الكذب المُرتاح" مُقلق جدّاً، وتلقّيه بكلّ فرحٍ مُرعبٌ تماماً. ما الذي سنواجهه بعد أن تنتهي هذه الحرب؟ مجتمع كنّا نؤمن باختلافه وتفرّده، أم اختلالٌ تامّ؟ لا أتحدث هنا عن المواطنات والمواطنين الذين يخوضون الحرب بأجسادهم وأرواحهم ومشاعرهم، بل الذين لا يُبصرون، وأغلبيّتهم الساحقة في بدرونات تعلوها طبقات وطبقات من ثلوج شتاء قارَّاتٍ أخرى.
هذه الحادثة/الشائعة ليست معزولةً أبداً، إنها ظاهرة جماعيّة، تتكشّف مجتمعات عصرنا الحالي عنها في مواجهة الكوارث. لقد قرأت في حياتي عشرات الكتب الأدبيّة وهي تُشعرك تماماً بالحرب، ولكنها لن تعلمك ما هي فعلاً إلا بعد أن تخوضها، لا أن يخوضها لك إنسانٌ آخر، بكتابته أو رسمه أو غنائه وأشعاره؛ لم أتصوّر أبداً أن تهوي الحرب بكثيرٍ من مجتمعاتنا السودانية المتنوّعة إلى إدراكٍ يِخْلَع القلب: لقد كانت هذه المجتمعات "مجرّد خراب"، كما هي بقيّة المجتمعات البشريّة في كوكبٍ هجرته العدالة ولم يعد للسلام فيه معنىً. فـ"إذا حَدَث ولم تقتلك الحرب فمن المؤكَّد أنها ستجعلكَ تفكِّر؛ لا يمكنك بعد ذلك الاضطراب المعتوه الذي لا يوصف أن تستمر باعتبارك للمجتمع شيئاً أبديَّاً غير قابلٍ للشك، كالهَرِم. لقد صرت تعرف أنه مجرَّد خَرَاب" [جورج أورويل].
mamoun.elfatib1982@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية
#سواليف
أعلنت سلطة جودة البيئة الفلسطينية، في بيان يوم الأربعاء، أن #الجيش_الإسرائيلي أسقط أكثر من 85 ألف طن من #القنابل بما في ذلك #قنابل_الفوسفور_الأبيض على قطاع #غزة منذ أكتوبر 2023.
وأضافت سلطة جودة البيئة الفلسطينية في بيان ، أن #المتفجرات التي ألقاها الجيش الإسرائيلي على قطاع #غزة يتجاوز ما تم إسقاطه خلال #الحرب_العالمية_الثانية.
وفي بيانها بمناسبة اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية الذي يصادف 6 نوفمبر من كل عام بقرار من الأمم المتحدة، أفادت سلطة جودة البيئة الفلسطينية بأن “قصف الاحتلال المستمر أدى إلى تدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وتلوث التربة بمواد كيميائية سامة تعيق الزراعة لعقود”.
مقالات ذات صلة أ.د بني سلامة يكتب .. عبيدات قدم رؤيته الشاملة والبعيدة النظر حول الأخطار المحدقة بالأردن 2024/11/07وأوضحت أن إسرائيل استخدمت جميع أنواع #الأسلحة والقذائف أبرزها الفوسفور الأبيض المحظور دوليا حيث يستهدف مكونات البيئة مسببا أضرارا بيئية جسيمة تهدد حياة الإنسان والكائنات الحية.
ولفتت إلى أن “الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية لمصادر المياه أدت إلى تسرب المياه الملوثة إلى الأحواض الجوفية ما ينذر بكارثة صحية وبيئية تهدد مئات الآلاف من السكان لعقود”.
وفي الضفة الغربية، ذكر البيان أن “المستوطنات والتدريبات العسكرية لجيش الاحتلال تشكل خطرا كبيرا على البيئة، إذ تتعرض مساحات شاسعة من الأراضي للاستيلاء والتجريف واقتلاع الأشجار والرعي الجائر”.
وأشارت السلطة إلى أن “المخلفات الناتجة عن تدريبات الجيش الإسرائيلي تلحق الضرر بمصادر المياه وتلوث الهواء، ما يؤدي إلى تفاقم التدهور البيئي، حيث تقدر المستعمرات بأنها تضخ نحو 40 مليون متر مكعب من المياه العادمة غير المعالجة سنويا في الأرض الفلسطينية”.
ودعت سلطة جودة البيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف العدوان المستمر ومنع استغلال البيئة لأغراض عسكرية، وتطبيق القوانين الدولية.