بقي قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، في الظل خلال الأشهر التسعة الأولى من النزاع في السودان، إلى أن وقع مؤخرا إعلانا مع المدنيين وقام بجولة أفريقية يبحث خلالها عن شرعية دولية سعيا لحسم معركته مع الجيش.
في أواخر العام الماضي، قام قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بجولات خارجية تزامنت مع جهود دبلوماسية لإنهاء الحرب التي اندلعت منتصف أبريل، وألقى كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

في المقابل، بقي خصمه دقلو المعروف بـ “حميدتي”، بعيدا عن الأنظار واكتفى بمواقف من خلال التسجيلات الصوتية.
لكن في الأيام الأخيرة، ومع تحقيق قواته تقدما ميدانيا، استبدل دقلو زيه العسكري بالملابس المدنية، وقام بجولة خارجية تخللها لقاء مسؤولين كبار في أوغندا وجيبوتي وكينيا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا.
ويرى الخبير في الشأن السوداني، أليكس دي فال، أن دقلو “في حالة صعود”.
ويقول كليمان ديهي، المتخصص في الشؤون السودانية في جامعة السوربون بباريس، إن دقلو تم استقباله “بمراسم تخصص لرئيس دولة”.
ومنذ اندلاع القتال في أبريل بين الحليفين السابقين البرهان ودقلو، أودت الحرب في السودان بأكثر من 12190 شخصا، وفق تقديرات منظمة “مشروع بيانات مواقع الصراعات المسلحة وأحداثها” أكليد، وهي حصيلة يعتقد أنها تبقى دون الفعلية.
كما تسببت بنزوح أكثر من سبعة ملايين شخص داخل البلاد وخارجها، بحسب الأمم المتحدة.

إعلان أديس أبابا
أبعد من الميدان، يحاول دقلو تحقيق مكاسب سياسية في حربه ضد الجيش.
ووقع، الثلاثاء، في العاصمة الإثيوبية إعلانا سياسيا مع عبد الله حمدوك الذي سبق له تولي رئاسة الوزراء في السودان قبل أن يطيحه انقلاب عسكري قاده البرهان ودقلو، في عام 2021.
وكانت الهيئة التنسيقية للقوى الديمقراطية المدنية برئاسة حمدوك دعت مؤخرا لعقد “لقاءات عاجلة مع الجيش وقوات الدعم السريع تبحث قضايا حماية المدنيين وتوصيل المساعدات الإنسانية وسبل وقف الحرب عبر المسار السلمي التفاوضي”.
ونتيجة لاستجابة الدعم السريع فقط لهذه الدعوة الى الآن، وقع دقلو وحمدوك “إعلان أديس أبابا” الذي تبدي من خلاله قوات الدعم “استعدادها التام لوقف عدائيات فوري وغير مشروط عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة”.
كما تتعهد “فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية”، و”تهيئة الأجواء لعودة المواطنين لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب”.
ويرى أستاذ الدراسات الأمنية في جامعة كينغز كوليدج بلندن، أندرياس كريغ، أن الإعلان “هو الخطوة الأكثر أهمية التي يمكن لدقلو القيام بها لكسب الشرعية”.
ويقول ديهي لفرانس برس إن “توقيع المدنيين على اتفاق مع حميدتي، على الرغم من التطهير العرقي في دارفور والاغتصاب والنهب الممنهج في وسط السودان ودارفور، يمنحه الشرعية في نظر المجتمع الدولي”.
وقبل نشوب النزاع بينهما، كان دقلو نائبا للبرهان، وقاما بتنظيم انقلاب أكتوبر عام 2021 الذي أطاح الحكومة المدنية برئاسة حمدوك. وأعيد الأخير إلى منصبه لفترة وجيزة، قبل أن يستقيل، في مطلع عام 2022، ويغادر السودان.
ولم يلتق القائدان العسكريان منذ اندلاع الحرب على رغم محاولات الوسطاء.

“هو المسؤول”
من جهتها ترى المحللة السودانية، خلود خير، أن جولات دقلو الخارجية أشعرت البرهان بـ”استياء”، خصوصا مع محاولات الأول الذي يرأس مجلس السيادة “تقديم نفسه كزعيم سياسي وطني”.
وفي كلمة ألقاها، الأسبوع الماضي، بمناسبة استقلال السودان، انتقد البرهان زيارات دقلو ومضيفيه.
وخاطب الدول “التي تستقبل هؤلاء القتلة بأن كفّوا أيديكم عن التدخل في شأننا.. وأن استقبال أي جهة معادية للدولة لا تعترف بالحكومة القائمة يعتبر عداء للدولة”.
إلا أن اللقاء بين حمدوك ودقوا أعاد فتح الباب أمام تكهنات قديمة.
وتوضح خير لفرانس برس “الشائعات حول تواجد صلة بين قوى الحرية والتغيير وحميدتي، والتي كانت منتشرة حتى قبل الحرب، زادت الآن بسبب مشهد الاجتماع” بين حمدوك ودقلو بغياب البرهان.
وفي مقاطع فيديو نشرت على منصات التواصل لاجتماع أديس أبابا، شوهد حمدوك وغيره من السياسيين وهم يصطفون لمصافحة دقلو. وتقول خير: “ظهر حميدتي خلال الاجتماع وكأنه هو المسؤول”.
وكانت الهيئة التنسيقية للقوى الديمقراطية المدنية نشأت من كتلة المعارضة الرئيسية، أي ائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي أدى دورا رئيسيا في الإطاحة بالرئيس السابق، عمر البشير. وترى خير أن هذا التحالف المُشكَّل حديثا لا يزال “ائتلافا ضعيفا مكونا من ائتلافات ضعيفة”، وقد لا يمتلك القدرة على تغيير الأوضاع.

“خطأ دبلوماسي”
واتهم نشطاء حمدوك بخيانة المدنيين لتحقيق مكاسب سياسية. وكتب مستخدم على منصة “إكس”، “هذا هو حميدتي ذاته الذي اتفق مع الجيش لفض الاعتصام وشارك في انقلاب 25 أكتوبر”، في إشارة إلى الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم، في يونيو عام 2019، للمطالبة بالحكم المدني.
ويستبعد خبير الشؤون الأفريقية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، كاميرون هيودسون، أن يلبي البرهان حاليا دعوة حمدوك للقائه، خصوصا بعد الإعلان بين الأخير ودقلو.
إلا أنه يرجح في حديثه لفرانس برس أن يكون “هذا هو القصد تحديدا من الطرفين، لأن عدم لقاء البرهان بحمدوك سيجعل الجيش يبدو معارضا للسلام ويُصوِّر حميدتي على أنه الطرف الأكثر عقلانية ومسؤولية”.
ويرى دي فال أن حمدوك ارتكب “خطأ دبلوماسيا” فادحا بالظهور مع الدعم السريع وبعيدا عن الجيش.
من جهته، يعتبر ديهي أن الجيش أصبح “معزولا أكثر فأكثر”، وأن ما تكبدته القوات المسلحة من خسائر في الميدان أبعد عنها حلفاء أقوياء مثل القاهرة.
ويضيف أنه بات في مقدور دقلو الآن “بدء المفاوضات من موقع قوة”، محذرا من أن عزل البرهان بشكل إضافي “سيؤدي حصرا إلى تعقيد الوضع وتوفير مزيد من الوقت والمجال لاستمرار القتال”.

الحرة

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع فی السودان

إقرأ أيضاً:

ميثاق نيروبي: ليكن لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال

يُعد الميثاق التأسيسي، الذي تم التوافق عليه في 22 فبراير 2025 بين مجموعة من القوى السياسية، حركات مسلحة من دارفور، قوات الدعم السريع، والحركة الشعبية - شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، محطة فارقة في منهجية حل المعضلة السودانية التاريخية. كما يمثل خطوة حاسمة في مسار الحرب المأساوية واسعة النطاق، التي أوشكت على إكمال عامها الثاني. ومع ذلك، قوبل الاتفاق برفض واسع، لم يقتصر على اسلامي النظام المخلوع والداعمين للجيش، بل امتد أيضًا إلى بعض القوى السياسية والمدنية المناهضة للحرب. وتتمثل أبرز المخاوف لدى هؤلاء في أن الاتفاق مع قوات الدعم السريع قد يُفسَّر كتحيز لها، مما يعزز احتمالية استمرار الحرب. إلى جانب مخاوف من أن يؤدي هذا التكتل إلى تفتيت السودان. لذا، من الضروري إجراء تقييم دقيق للاتفاق لفهم مدى قدرته على المساهمة في حل المعضلة السودانية المزمنة ومعالجة المظالم التاريخية، أو ما إذا كان يحمل في طياته مخاطر تفتيت البلاد. فيما يلي محاولة لالقاء الضوء علي بعض الجوانب المتعلقة بالاتفاق.
ميثاق نيروبي ومبادئ التغيير الجذري في بنية الدولة
• ان هذه الوثيقة التأسيسية التي وضعت أسسًا جديدة لدولة السودان في مرحلة ما بعد الحرب تمثل تحولًا جذريًا في المنهجية التقليدية لمعالجة المعضلة السودانية. فقد اعتمدت المناهج السابقة لحل الخلافات السياسية على الانقلابات العسكرية وقمع المعارضة أو التسويات السياسية التي تركز على اقتسام السلطة والثروة دون إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة وهياكلها المؤسسية. من المعروف أن السودان، بحدوده الحديثة، تم توحيده خلال الحكم التركي-المصري، بينما أُنشئت هياكل الدولة الحديثة في ظل الاستعمار البريطاني-المصري. وبعد الاستقلال، ورثت الأنظمة الوطنية هذه الهياكل دون تعديل جوهري، ما أدى إلى استمرار الأزمة السياسية وعدم الاستقرار لما يقارب قرنين (1821-2023)، حتى انهارت الدولة عمليًا مع اندلاع حرب 15 أبريل 2023. لقد تشكلت الدولة السودانية الحديثة بوصفها كيانًا مركزيًا مفروضًا بالقوة، حيث تم توحيد مناطق السودان المختلفة دون استفتاء سكانها، الذين يتميزون بتنوع إثني وثقافي وديني واسع، فضلًا عن اختلاف أساليب ووسائل العيش فيما بينهم. وقد نص اول بنود هذا الاتفاق علي ان الدولة السودانية تقوم علي مبدأ الوحدة الطوعية لشعوبها و اقاليمها بما يضمن التعايسش السلمي العادل و الاختيار الحر.
• تم التوقيع على هذه الوثيقة من قبل أكبر تجمع للقوى المسلحة والمدنية، والذي يمثل طيفًا واسعًا يمتد من غرب السودان إلى شرقه، وهي المناطق الأكثر كثافة سكانية والأعلى إنتاجًا، لا سيما في مجالات الزراعة، والثروة الحيوانية، والموارد الغابية. كما أن هذه المناطق شهدت تاريخيًا صراعات ممتدة، سواء في مواجهة الدولة المركزية أو بين مكوناتها المختلفة، خاصة بين المجتمعات الرعوية، التي تُنسب إلى القبائل ذات الأصول العربية، والمجتمعات الزراعية المنتمية إلى القبائل المصنفة ضمن المجموعات الإفريقية أو "الزرقة". وقد عمدت الأنظمة التي أعقبت الاستعمار، لا سيما نظام الإسلاميين، إلى استغلال التنافس الاقتصادي والمصالح المتباينة بين هذه المجموعات، خاصة في ظل تفاقم تأثيرات الجفاف والتصحر. كما أن هذه المناطق كانت الأكثر تضررًا من ممارسات قوات الدعم السريع، التي استخدمها النظام السابق في البداية لقمع الحركات المسلحة في دارفور، قبل أن تتوسع عملياتها لاحقًا إلى كردفان والنيل الأزرق. وعليه، فإن هذا الاتفاق، الذي جمع بين قوات الدعم السريع وقواعدها القبلية الرعوية العربية، إلى جانب الحركات المسلحة وحواضنها الاجتماعية من القبائل الزراعية الإفريقية، يُشكل خطوة محورية نحو تحقيق التعايش السلمي في هذه المناطق. إضافة إلى ذلك، فقد نص الاتفاق على الالتزام بالعدالة والمساءلة التاريخية، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب من خلال محاكمة جميع المسؤولين عن الانتهاكات ضد الوطن والمواطن. ويؤكد هذا النهج على أن تحقيق العدالة يُعدّ حجر الأساس لإرساء سلام مستدام في السودان.
• ثالثًا: أقر الميثاق مبدأ تأسيس دولة ديمقراطية علمانية تقوم على فصل الدولة عن الهويات الدينية والإثنية والثقافية، مع حظر إنشاء الأحزاب السياسية على أساس ديني. ويهدف هذا النهج إلى تعزيز الاعتراف بالتنوع وضمان المساواة بين جميع المكونات والشعوب التي تعيش في السودان، مما يسهم في منع أي شكل من أشكال الاستعلاء أو الهيمنة.وتعدّ العلمانية إحدى القضايا الخلافية في السياسة السودانية، خاصة بعد إقرار قوانين الشريعة الإسلامية عام 1983، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الحرب في جنوب السودان.
ما يميز هذا الاتفاق هو أن مبدأ فصل الدين عن الدولة لم يُقر فقط من قبل القيادات السياسية وقيادات الحركات المسلحة، بل حظي أيضًا بموافقة ممثلي الإدارات الأهلية في المناطق الأكثر تمسكًا بالتقاليد، والتي كانت تمثل تاريخيًا قاعدة دعم رئيسية للأحزاب الطائفية، لا سيما حزب الأمة، الذي عارض إلغاء قوانين سبتمبر خلال الديمقراطية الثانية. ويعكس هذا التوافق تحولًا في وعي هذه المجتمعات التي عانت من سياسات الدولة الدينية وترفض أن تُوظَّف لصالح أي جماعة تحت غطاء الدين. كما أن هذا الاتفاق يُعدّ ضمانة لترسيخ مبدأ العلمانية في الدستور الدائم للسودان.
• رابعًا: تبنى الاتفاق مبدأ الحكم اللامركزي، مما يمنح المجتمعات المحلية الحق في إدارة شؤونها الداخلية والسيطرة على مواردها دون تدخل مركزي، وهو ما يُعدّ خطوة أساسية نحو تحقيق توزيع عادل لفرص التنمية بين أقاليم السودان المختلفة. لطالما شكّلت التنمية غير المتوازنة، إلى جانب احتكار المركز للسلطة والثروة، أحد الدوافع الرئيسية وراء لجوء بعض المجموعات في المناطق المهمشة إلى الصراع المسلح ضد الدولة المركزية. ويعود أصل هذا الخلل إلى الحقبة الاستعمارية، حيث قامت الإدارة الاستعمارية بنزع ملكية المجتمعات المحلية للأراضي من خلال تسجيلها كأملاك تابعة للدولة المركزية، إلى جانب إلغاء نظام الإدارة الأهلية التقليدية. ورغم أن الاستعمار أعاد العمل بالإدارة الأهلية لاحقًا، إلا أنه جرّدها من سلطتها الفعلية على الأراضي. واصلت الأنظمة التي أعقبت الاستعمار اعتماد نموذج الحوكمة نفسه، مما جعلها امتدادًا فعليًا للهيمنة المركزية التي أسسها المستعمر. ومن خلال هذا التغيير الجوهري، سيتيح الاتفاق تحرير هذه المناطق من سيطرة المركز، مما يضع أسسًا للعدالة والسلام المستدام. وبهذا، يُترجم الاتفاق فعليًا شعار ثورة ديسمبر 2018: "حرية، سلام، وعدالة."
• خامسًا: نصّ الاتفاق على تمكين المرأة وضمان مساواتها بالرجل، بما يكفل مشاركتها الفاعلة والعادلة في جميع مستويات وأجهزة الحكم (البند 23). ورغم الغياب الملحوظ للنساء عن مراسم التوقيع، وهو مؤشر سلبي يعكس التحديات القائمة، فإن هذا الطابع الذكوري للفعالية لا يعكس بالضرورة إقصاءً ممنهجًا، بقدر ما يُجسد طبيعة الجهات المشاركة في الاتفاق، والتي تضم في معظمها الحركات المسلحة والإدارات الأهلية التقليدية، حيث لا تزال الهيمنة الذكورية سائدة. ومع ذلك، فإن إقرار هذا البند من قبل قيادات تقليدية يُمثل تطورًا إيجابيًا يعكس تنامي الوعي بقضايا المرأة، كما أنه قد يُسهم في تقليل مقاومة هذه الفئات مستقبلاً لأي تشريعات تدعم حقوق النساء، مما يُشكل خطوة جوهرية نحو تحقيق المساواة وتعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة.
و رغم ان الميثاق تضمن حوالي 32 مبدأ رئيسي و كلها تحتاج للتحليل و التقييم الا ان ما سبق ذكره يعتبر ركائز اساسية لتحقيق سودان الحرية و السلام و العدالة الذي بشرت به ثورة ديسمبر 2018 و التي كانت هذه الحرب اخر محاولة من اسلامي النظام المخلوع للقضاء عليها.
دعوة لجعل ميثاق نيروبي لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال
الحرب الحالية، التي تمثل ذروة الصراعات السودانية، أفضت إلى كارثة غير مسبوقة، خلّفت دمارًا شاملًا طال الدولة والمجتمع. وكان المدنيون—وخاصة النساء والأطفال وكبار السن—الأكثر تضررًا، حيث تعرضوا للقتل والتشريد والعنف الجنسي. ورغم أن إسلاميي النظام المخلوع هم من أسسوا قوات الدعم السريع لحماية حكمهم، ودعموها لسنوات رغم انتهاكاتها الوحشية ضد المدنيين، فإنهم اليوم يصفونها بالمتمردين والمرتزقة، متهمين إياها بإشعال الحرب للاستيلاء على السلطة. وقد وجدت هذه السردية قبولًا في الخرطوم ووسط السودان، حيث لم يعايش سكان هذه المناطق ويلات الحروب السابقة، مما عمّق الانقسام مع مجتمعات غرب السودان، خاصة القبائل العربية التي ينحدر منها قادة الدعم السريع.
تصاعد الانقسام في السودان بفعل انتشار خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعمّق الشرخ في الوجدان السوداني ويمهّد للانفصال، وهو الخيار الذي بات مفضلًا لإسلاميي النظام المخلوع بعد فشلهم في هزيمة قوات الدعم السريع. في هذا السياق، نشأت ميليشيات قبلية وجهادية جديدة في شرق ووسط وشمال السودان، رغم التجربة المريرة لقوات الدعم السريع. وارتكبت هذه الميلشيات انتهاكات جسيمة ضد أبناء غرب السودان وجنوبه، خصوصًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش وتلك التي استعادها في ولايات الجزيرة والخرطوم وسنار، حيث وقعت جرائم قتل واعتداءات وحشية على النساء، مما يعيد إنتاج الفظائع السابقة. حتى لو تحقق انفصال غرب السودان، تلوح مؤشرات على احتمال تمرد ميليشيات قبلية ومناطقية جديدة ضد قيادة الجيش، كما يحدث في شرق السودان، ما ينذر بمزيد من التفكك وانعدام الاستقرار، حتى بعد الانفصال.
لا سيما ان السودان، بفضل موقعه الجيوسياسي المتميز وموارده الوفيرة—من أراضٍ شاسعة ومياه ومعادن وغيرها—أصبح محط أطماع القوى الخارجية، التي لا يعنيها مصير شعبه بقدر ما تسعى إلى تحقيق مصالحها. سواء عبر القتل المباشر بآلة الحرب، أو بوسائل غير مباشرة كالتشريد، المرض، الجوع، والحزن، فإن معاناة السودانيين لا تشكل عائقًا أمام هذا النهم الاستعماري الجديد، الذي لا يرى في السودان سوى ساحة لتحقيق المكاسب. لبذا فإن استمرار الحرب يشكل التهديد الأكبر لوحدة السودان، ويعرضه للتقسيم من أي وقت مضى. وفي ظل تعثر المفاوضات بسبب تدخل إسلاميي النظام المخلوع، تصاعدت تهديدات قوات الدعم السريع باجتياح مناطق نهر النيل والشمالية، باعتبارها معاقل لقادة الجيش. وهو ما ينذر بمزيد من التصعيد، خاصة مع حصول الطرفين على أسلحة نوعية، مما يجعل البلاد ساحة لصراعات إقليمية ودولية.
هناك مسؤولية تاريخية تقع على عاتق القوى السياسية والمدنية، لا سيما المؤمنين بالتحول الديمقراطي، لتقديم رؤية موحدة تساهم في انتشال السودان من أزمته الراهنة، وحماية شعبه وموارده، والمحافظة على وحدته. ومع ذلك، لا تزال هذه القوى تعاني من الانقسامات، وكان آخرها انقسام تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدّم" إلى مجموعتين، عقب نقاشات حول إمكانية تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. والتي تم حرمان سكانها من الخدمات الحكومية، بدعوى موالاتهم لهذه القوات، بل وأصبحوا هدفًا للقصف بالبراميل المتفجرة بدلًا من تلقي المساعدات. رفضت مجموعة "صمود" فكرة تشكيل حكومة موازية، خشية أن يؤدي ذلك إلى تقسيم السودان إلى دولتين، وسعيًا لتجنب الظهور في موقف منحاز لقوات الدعم السريع. في المقابل، اتخذت مجموعة "تأسيس" قرارًا جريئًا بالوقوف إلى جانب المدنيين في مناطق سيطرة الدعم السريع، لكنها تجاوزت ذلك بخطوة متقدمة وضرورية عبر تقديم ميثاق لتأسيس سودان ما بعد الحرب.
لذا ينبغي اغتنام هذه الفرصة الثمينة والانضمام إلى هذا الميثاق، الذي قد يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الوطن من التمزق، لا سيما أنه يحظى بدعم كتلة تاريخية من المناطق التي عانت من التهميش وويلات الحروب لعقود. من المعروف أن قوى التغيير الجذري، التي لم تكن جزءا من "تقدّم"، كانت قد قدمت قبل الحرب ميثاقًا يحمل معظم مبادئ الميثاق التأسيسي. لكنه كان مشروعًا فوقيًا روّجت له نخب سياسية يسارية متمركزة في المدن الكبرى، غير قادرة علي حشد القواعد الشعبية، خاصة في الريف ومناطق الإنتاج التقليدي وهو ما نجح فيه هذا الاتفاق. لذلك، وبدلًا من رفض هذا الميثاق وإطلاق الأحكام المسبقة عليه، بدعوى أنه قد يؤدي إلى تقسيم البلاد، يجب النظر إليه بموضوعية وتقدير الاختراقات التي حققها، لا سيما في القضايا الخلافية مثل الدولة العلمانية التي كان التوافق حولها شبه مستحيل، خاصة بين القوى التقليدية. المهدد الحقيقي لتقسيم البلاد ليس الميثاق التأسيسي ولا الحكومة الموازية، بل الانقسام المناطقي داخل "تقدّم"، باستثناء قلة من السياسيين من الوسط والشمال والشرق، الذين قد يسهمون في وحدة السودان وحمايته من التفكك.
رفض الانضمام إلى الميثاق خشية الاتهام بدعم قوات الدعم السريع غير مبرر، فبرغم جرائمها، تظل جزءًا من الوطن وتمثل كتلة اجتماعية واسعة لا يمكن تجاهلها إذا كان الهدف هو إحلال السلام والحفاظ على وحدة البلاد. شهد السودان حروبًا دامية ارتُكبت خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الجنوب ودارفور، لكنها انتهت باتفاقات سلام بين القادة المتحاربين. لذا، لا ينبغي الانجرار وراء حملات التشويه الإعلامي ضد الموقعين على الميثاق، فهو يمثل تهديدًا مباشرًا لطموحات الإسلاميين الساعين لإعادة ترسيخ نظامهم الشمولي. في المقابل، لعبت قيادة الدعم السريع دورًا محوريًا في التوافق على الميثاق، وستؤكد الايام التزامهم به. و تعهد قائدها لعبد العزيز الحلو بتبني رؤية "الحركة الشعبية" للسودان الجديد، التي تشكل أساس هذا الميثاق. كما نجحت في إقناع القيادات الأهلية التقليدية بالتوقيع عليه، رغم تضمنه بنودًا جوهرية مثل فصل الدين عن الدولة، مما يعكس تحولًا جذريًا في بنية الدولة السودانية.
لا ينبغي لخطاب الكراهية المتفشي في وسائل الإعلام، ولا لمشاعر الغضب الناجمة عن الخسائر، ولا للمصالح الضيقة، أن تعمي بصيرة قادة القوى السياسية والمدنية، لا سيما المنحدرين من الشمال والوسط، عن أهمية هذا الميثاق التاريخي. المطلوب اليوم هو التحلي بالشجاعة، وتجاوز النزعات الأنانية والتفكير الحزبي الضيق، اللذين ساهما في تفاقم الأزمة وأعاقا الوصول إلى حلول مستدامة. فالتغيير المنصف و المستدام ينطلق من رؤية وطنية شاملة، تعالج جذور الأزمة السودانية من مختلف الأبعاد—التاريخية، والجغرافية، والمظالم المتراكمة—بهدف الحفاظ على وحدة السودان، وحماية شعبه من انتهاكات الحرب.
هذا الميثاق يوفر فرصة ذهبية لخلق إجماع وطني حول رؤية موحدة لسودان جديد، تتضمن دستورًا انتقاليًا، وخطة شاملة، وآليات فعالة لإيقاف الحرب وبناء السلام. و يمكن أن يكون هذا الإجماع نفسه أداةً للضغط على قادة الجيش لفك ارتباطهم بالإسلاميين، الذين يستغلون استمرار الحرب للعبث بمصير البلاد، أملاً في استعادة السلطة. وقد نجحوا بالفعل في إفشال جميع محاولات التفاوض، بما في ذلك تلك التي سعى إليها قادة الجيش سرًا، مثل مفاوضات المنامة. وقد صرّح القائد عبد العزيز الحلو بأن الباب مفتوح أمام قادة الجيش للانضمام إلى الميثاق، إذا تمكنوا من فك ارتباطهم بقادة النظام المخلوع.
يمثل هذا الميثاق طوق نجاة للسودان، ليس فقط لإنهاء الحرب المأساوية، بل أيضًا لإنقاذ البلاد من خطر التفتت والانقسام، ولبناء سودان الحرية والسلام والعدالة، الذي بشرت به ثورة ديسمبر 2018 المجيدة.

marfa_1998@hotmail.com

////////////////////////  

مقالات مشابهة

  • السعودية تعلن رفض الدعوة لتشكيل “حكومة موازية” في السودان
  • الجيش السوداني يشن هجومًا عنيفًا على الدعم السريع في “بارا” ويسيطر عليها
  • ميثاق نيروبي: ليكن لبنة في بناء الوحدة، لا بوابة للانفصال
  • مندوب السودان لدى الأمم المتحدة: 12 مبعوثاً أممياً تجاهلوا مطالب دمج مليشيا الدعم السريع في الجيش
  • المغاربة يطالبون بمحاكمة وزير الفلاحة السابق “صديقي” الذي فشل في حماية قطيع النعاج ومراقبة المستوردين الذين حصلوا على الدعم
  • مجلس الأمن ودول أفريقية تتجه لإتخاذ موقف تجاه “الحكومة الموازية” في السودان
  • كينيا والدعم السريع.. تحركات تثير القلق في السودان
  • واشنطن: لا يمكن أن يصبح السودان بيئة للإرهاب مجدداً
  • ما الذي أشعل فتيل الحرب في السودان؟
  • «محامو الطوارئ»: الجيش قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة في كردفان