قصة اليوم عن الجمال وجميعنا نعلم ان للجمال ضريبة، وأي ضريبة، إنها باهظة الثمن يدفعها صاحبه أو غيره من المقدر لهم، لأنها قد تودي بحياة صاحبها إلى السجن أو الموت والهلاك فالتاريخ سرد لنا مئات القصص التى راح ضحيتها آلاف البشر بسبب الجمال ليس فقط جمال الأنثى وايضا جمال الرجال وجميعنا نعلم قصة النبي يوسف عليه السلام، التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والآيات الكريمة تقول ، «وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» وكانت ضريبة جماله السجن لعدة سنوات.
اما جمال الأنثي فقد سرد لنا مئات القصص عن الحروب وسفك الدماء بسبب النساء الجميلات ذات الحسن ومن ضمن هذه القصص تبقى قصة هيلين او هيلينا صاحبة الجمال الخائن التي لم تدفع ضريبة بل شعبها هو من دفع ضريبة جمالها الخائن وهي ضريبة لا تقدر بثمن لأنها كانت أرواحهم .
فجمال هيلين تسبب في أول حرب بين الشرق والغرب و خراب اليونان وإبادة طروادة ومقتل أشجع الفرسان والأمراء.
وقد تكون هيلين الأميرة الأكثر جمالا ودلالاً فى العالم في ذلك الوقت ، وجاء جمالها هذا نقمة علي شعبها اليونان لانه تسبب فى حرب استمرت عشر سنوات، وراح ضحية هذا الجمال آلاف الفرسان وأشجع الرجال المحاربين والأمراء، فكان جمالها خرابا على شعوب بأكملها ، ويمكن القول إن سطحيتها وتفاهتها بل وخيانتها تسببت فى خراب اليونان وتدمير طروادة .
هيلين هي أميرة يونانية ابنة ملك أسبرطة «تينداريوس»، من زوجته الجميلة «ليدا» وكانت الابنة فائقة الجمال تتفوق على كل نساء الأرض، فقد كانت ناصعة البياض جمال عينيها الزرقاء لا يضاهي فى جمالها بشر، لدرجة أن البعض اعتقد أنها ابنة للإلهة، وكانت هيلين هي أجمل نساء الأرض عند الإغريق، خطب ودها جميع ملوك الإغريق وتسابقو للفوز بقلبها وقد سمع الأمراء بجمالها فأخذوا يتسابقون على خطبتها، وكان والدها لا يعلم ماذا يفعل فى كثرة المقدمين لخطبتها من الأمراء، فهو لا يريد أن يغضب أحدهم أو يتورط أحدهم فى فعل شرير من العريس المختار، لكن أحد مستشاريه أهداه لحيلة، وهى أن يقوم بجمع المتقدمين لخطبة ابنته، ويجعلهم يقسمون على أنهم لن يحقدوا على الشخص المختار أو يمسوه بأذى ويفرحوا معه، وطلبوا من الألهة جميعا أن تصب لعنتها على من يتخلى عن هذا القسم بعد اختيار رجل لهيلين، وفعل الأمراء، وقام الملك بإحضار ابنته، وطلب منها أن تختار من بينهم، فاختارت الأميرة الحسناء الأمير منلاوس، وقد تفاجأ الجميع لأنه لم يكن أكثرهم وسامة أو قوة، لكن فى النهاية كان اختيارها هى، غضب بعض الأمراء لكنهم تذكروا القسم، ففرحوا ورقصوا في يوم زفاهما .
عاشت هيلين مع زوجها الأمير منلاوس وأنجبت منه ابنة جميلة مثلها ، حتى ظهر فى حياتها الأمير باريس الذى كان فى بعثة من والده ملك طروادة لتسليم هدايا لزوجها منلاوس، وتقول الأسطورة إن باريس ذهب إلى طروادة بعد أن قررت واحدة من الألهة كانت على خلاف مع الباقين، فألقت تفاحة مكتوبا عليها إلى أجمل النساء فتنافس عليها كل من الألهة «أفروديت» و«هيرا» و«بالاس أثينا»، فوقع الاختيار على باريس ليحكم بينهم بأن يختار منهم من تذهب إليه التفاحة، فاختار باريس أفردويت بعد أن وعدته بأن تهبه أجمل نساء الأرض وهى هيلين، لذا كان ذهاب باريس لليونان مخططا له مسبقاً ، وعندما ذهب كان هناك خلاف قد وقع بين الجميلة هيلين وزوجها، وانتهز الأمير باريس خلاف هيلين وزوجها واتفق معها وحرضها على الهروب معه إلى طروادة، والغريب فى الأمر هنا أنها وافقت بعد أن وقع كل منهما فى غرام الآخر، وذهبت معه طواعية، واكتشف زوجها هروبها، فأجمع جيوش اليونان وأعلن الحرب على طروادة .
وأصبحت قصة هيلين المرأة العاهرة صاحبة الجمال الخائن مادة دسمة ألهمت الكثير من الكتاب والمؤرخين ودفعت صناع السينما إلى صياغة مئات القصص حول هيلين وباريس وحرب طروادة، وكان أهمها على الإطلاق الإلياذة والأوديسة التى تناولت حرب طروادة، وهى ملحمة كتبها الشاعر الأعمى هوميروس، وسرد فيها بداية الحكاية بأن تتنبأ العرافات لملك طروادة بريام بأنه سيولد له ابن يكون سبباً فى دمار طروادة، ويولد هذا الابن الذى يُسمى باريس، فيأمر أبوه أحد خدمه بالتخلص منه، ويضعه هذا الأخير فى جبل لينشأ راعياً للأغنام، وفى جبل الأوليمب يكون الألهة الاثنى عشر مختلفين متناحرين لأسباب متعددة، ويزيد الخلاف فيما بينهم بسبب غنى طروادة، ثم تأتى حادثة التفاحة الناجمة عن مشادة بين الربات الثلاث هيرا وأفروديت وأثينا، حيث رأت كل ربة منهن أنها الأجمل، واتفقن على الاحتكام إلى أول غريب يرينه، وقد كان الراعى الشاب باريس، فسردن عليه أمرهن وطلبن إليه أن يحكم بينهن بإعطاء تفاحة للأجمل منهن، وأغرته هيرا بالسلطة إن هو وهبها إياها، وأثينا بالحكمة والمجد، وقالت له أفروديت إنها ستهبه أجمل نساء الأرض، وجميعنا نعلم طبيعة الرجال لذلك فضل باريس أفروديت التي ستهبه أجمل نساء الأرض ففضلها عليهن وأعطاها التفاحة ليغضب بذلك الربتين الأخريين.
وحققت أفروديت وعدها لباريس، فأخذته إلى طروادة من جديد، وقدمته إلى أهله الذين ابتهجوا بعودته أميراً بينهم، ولم تفلح نبوءات أخته كاساندرا فى ثنيهم عن عزمهم قبوله بينهم من جديد، لأن الإله أبولو أحبها ذات مرة، فلما صدته وهبها البصيرة وحرمها من أن يصدقها أحد، فظل الجميع يتعاملون معها على أنها مجنونة.
وعاد باريس أميراً مرة أخرى، ولم تزل أفروديت تدين بوعدها له، ولتفك دينها أرسلته إلى إسبارطة، فاستغل غيبة منيلاوس وأغوى زوجته هيلين التى فاقت كل نساء الدنيا جمالاً، وجاءها كل ملوك الإغريق خاطبين، فاختارت منهم منيلاوس ملك إسبارطة، وطلب أبوها إليهم جميعاً أن يقسموا على حماية شرفها، وهرب بها إلى طروادة، فثار الإغريق لشرفهم، بينما لم يستطع الطرواديون تسليمها.
وهناك رواية أخرى فى التاريخ تقول الملك هكتور شقيق باريس قبل وفاته طلب من منلاوس زوج هيلين أن يقاتل باريس، ومن يفوز منهما يحصل على الأميرة الجميلة، وهو الأمر الذى وافق عليه منلاوس بصدر رحب، وتم استدعاء هيلين لمشاهدة المبارزة، وعندما شاهدت زوجها بكت بشدة وشعرت بالحنين لابنتها ولزوجها ولأبيها وأمها فى اليونان، وأرادت العودة مع الزوج، وتملكها الندم لما فعلت، ووفقا للرواية استطاع باريس الهرب ولم يتمكن منه منلاوس، إلا أن بعد ذلك بفترة حدثت واقعة الحصان وقتل الجميع، وأخد منلاوس زوجته وعاد بها إلى إسبارطة باليونان، وكأن شيئا لم يحدث.
والغريب فى الأمر أن الملك والتاريخ والجميع تجاهلوا حقيقة كون هيلين زوجة خائنة وامرأة عاهرة طائشة متهورة وأما بلا قلب، ذهبت مع باريس بإرادتها وتركت ابنتها الصغيرة، وقد تسببت في متقل الكثير من الرجال، وبالطبع هى لم تتصور ردة فعل زوجها ونتيجة هروبها، لأن الحرب بين اليونان وطروادة كانت أول حرب بين الغرب والشرق، كما كانت أول حرب تمتد كل هذه المدة التى يقال إنها وصلت لعشر سنوات بسبب انثى، ولم تتصور مقتل هؤلاء الأبطال أمثال الفارس المحارب أخيل المعروف بأنه أقوى رجال اليونان، ومقتل الأمير هكتور الأخ الأكبر لباريس وولى العهد، بالإضافة لإراقة دماء آلاف الفرسان من الجيشين، وإبادة الشعب، وتدمير طروادة تدميرا تاما، خاصة بعد أن استطاع اليونانيون اقتحام طروادة بالحصان الذى قاموا ببنائه واختبأوا به بعد أن قام حراس طروادة بإدخاله للمدينة وهى الحيلة التى استخدمها اليونانيون بعد فشلهم عشرات المرات فى اقتحام حصون طروادة المنيعة، فسقطت طروادة سقوطا كبيرا، وأخذت النساء سبايا وقتلوا الأطفال وراح كل الرجال، نتيجة هروب هيلين مع باريس.
بالرغم من أن هيلين هربت بإرادتها مع باريس، وخانت زوجها وهجرت ابنتها وجلبت العار لأبيها وشعبها، ومع ذلك لم يحاسبها أحد ولم يعاملها أحد على أنها زوجة خائنة عاهرة تستحق العقاب، بل أرهقوا جيشين كاملين عشرات السنوات، وأبادوا شعبا بأكمله وجلبوا الخراب على الآخر ورملوا النساء ويتموا الأطفال وراح أقوى الرجال فى حرب قامت بسبب سيدة طائشة لا تقدر معنى المسؤولية والالتزام، خاصة أنه لا يمكن القول إن أحدا أجبرها على الزواج من منلاوس، وأنها اختارته بكامل إرادتها، فلا عذر لديها للخيانة ولا عذر لديها لهجرة صغيرتها، وبالرغم من كل ذلك، لم يعاقبها أحد ولم يتهمها أحد بل أخذها زوجها وعاد بها إلى اليونان بعد خراب ودمار ناتج عنها وحدها، وكأن لم يحدث شىء، وهنا يمكن التساؤل: على أى أساس يحكم التاريخ على البشر ويحاسبهم؟ وهل جمال العاهرات يشفع لهم الخيانة وخراب شعب باكمله ؟! .
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: إلى طروادة بعد أن
إقرأ أيضاً:
خير صديق (2).. فاطمة بارودي تكتب: ماذا قرأ الناطقون بالفرنسية العام الماضى؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
جيل كيبيل: هجوم 7 أكتوبر قلب الموازين الجيوسياسية بالشرق الأوسط والعالم
فرنسا نحو اليمين أم اليسار؟.. فنسنت تيبيرج يفكك الأسطورة
استعرضت الصحف والمواقع الفرنسية، أهم الكتب التي صدرت خلال عام ٢٠٢٤، وتعددت الترشيحات حسب اهتمام كل موقع أو صحيفة، لكن مجموعة معينة من الإصدارات كانت محل اهتمام كبير لقراء اللغة الفرنسية، وكان من الملاحظ أن أفريقيا حاضرة بقوة ضمن تلك الإصدارات.
في السطور التالية، نعرض لأهم ما ذكرته المواقع الفرنسية، سواء بالنسبة للكتب أو الروايات.
جيل كيبيل: اضطراب العالم بعد ٧ أكتوبر
"مجزرة في غزة، تصفية قادة حزب الله وحماس، سقوط بشار الأسد في سوريا، إضعاف إيران.. تأثيرات هجوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ الذى نفذته حماس لا تنتهي أبدًا فى ظل إعادة تشكيل المشهد السياسي فى الشرق الأوسط".. هكذا تحدث أستاذ الجامعات الفخري والمستعرب الكبير، جيل كيبيل، عندما دعاه معهد العالم العربي فى باريس لمناقشة أحدث كتبه "اضطراب العالم بعد ٧ أكتوبر" الصادر العام الماضى (طبعة بلون، ٢٠٢٤)، لمحاولة فهم تداعيات هذا الحدث على المنطقة.
وجيل كيبيل، أستاذ جامعي وعالم سياسي ومستعرب معروف لدى المثقفين والقراء العرب. من مؤلفاته: الأزمات في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط (٢٠١٨)، والنبي في بلاده (٢٠٢٣)، والمحرقة (٢٠٢٤). وترجمت كتبه إلى نحو عشرين لغة. ويرى كثيرون أن قراءة جيل كيبيل تحتاج إلى التعامل مع أفكاره باعتبارها ترياقًا للتطرف الديني سواء بين الأصوليين اليهود الموجودين في حكومة بنيامين نتنياهو الذين يحلمون بطرد جميع الفلسطينيين من الأراضي "التي يعتبرونها توراتية"، أو بين الإسلاميين المتطرفين الذين ليس لديهم سوى "هاجس مسح الدولة اليهودية من الخريطة" على حد قوله فى ظل الدعوات العالمية بحل الدولتين. وبعد تقديم تحليل متعمق للمنطق السياسي الديني الذي يطلق العنان لهذه المشاعر القاتلة، يقدم جيل كيبيل رؤيته من خلال منظور متكامل للتحول الذى يشهده العالم. حيث أدى الهجوم الذي نفذته حماس في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، ثم المذبحة التي تعرض لها الفلسطينيون في غزة، إلى تعطيل النظام العالمي الذي تم إنشاؤه بعد الحرب العالمية الثانية، حسبما يقول جيل كيبيل. ويشير جيل كيبيل إلى الاضطرابات الجيوسياسية، مع ظهور "الجنوب العالمي" الذي يحاول أن يلغي هيمنة "الشمال"، وبروز مصطلح "الإبادة الجماعية"، المرتبط تاريخيًا بإنشاء دولة إسرائيل.. وأخيرًا، الانقسام المجتمعي، في دول "الشمال" المبتلاة باستقطاب غير مسبوق للهوية، بين الشعارات اليسارية المتطرفة والشعبوية اليمينية المتطرفة.
وتعرض، فى كتابه، إلى أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني اخترق أيضًا قلب الدول الغربية، حيث انطلقت المظاهرات وأدت إلى انقسامات داخل الحرم الجامعى خاصةً فى أعرق الجامعات، مثل هارفارد فى الولايات المتحدة ومعهد العلوم السياسية فى باريس، إلى جانب إثارة القضية الفلسطينية في الانتخابات الكبرى في أوروبا وأمريكا.
فنسنت تيبيرج: اليمين الفرنسى بين الأسطورة والواقع
في أي اتجاه تميل فرنسا؟ كان التوجه الأيديولوجي للبلاد أحد الأسئلة الكبرى خلال عام ٢٠٢٤، خاصةً بعد قرار إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية وما تلا ذلك من تداعيات.
يبدو الأمر فى نظر كثيرين أن المجتمع الفرنسي سيصبح أكثر تحفظًا. لكن أستاذ علم الاجتماع السياسي في معهد العلوم السياسية في بوردو، فنسنت تيبيرج، يطرح فى كتابه الجديد "اليمين الفرنسي بين الأسطورة والواقع" رؤية بانورامية متكاملة قد تصل إلى حد التشكيك في الكليشيهات الجاهزة عن صعود اليمين. حيث يتحدى هذا الكتاب، في الوقت المناسب، بعض الأفكار المسبقة.
ويقدم فنسنت تيبيرج، المتخصص في علم الاجتماع الانتخابي، فى أحدث أعماله، تطبيقًا عمليًا للبديهية التي بموجبها يمكن كسر تلك المفاهيم المسبقة. ويرى أن هناك في الواقع ملاحظة مشتركة على نطاق واسع في المناقشة العامة مفادها أن فرنسا تتحرك نحو اليمين. ويبدو أن النتائج الانتخابية وكذلك استطلاعات الرأي تؤكد هذه الفرضية، إلا أن فنسنت تيبيرج يأخذ على عاتقه إثبات أنه على الرغم من المظاهر، فإن فرنسا تشهد حركة يسارية بالكاد مرئية ومعاكسة جذريًا للمظهر العام. ويشير إلى الطريقة التي يتحدث بها السياسيون عن الفوارق الاجتماعية والقضايا المجتمعية «في الأعلى»، والتي تتعارض مع هموم المجتمع فى «الأسفل». إنه يسلط الضوء على الاستسلام الكبير للمواطنين في مواجهة الأحزاب ويرى أن اليمين هو مجرد أسطورة، ولكنه مثل كل الأساطير قد يخلف تداعيات خطيرة على التوازن السياسي ومستقبل الفرنسيين.
ويذكر فنسنت تيبيرج أن الدراسات تصور الفرنسيين الذين أصبحوا متسامحين ومنفتحين بشكل متزايد في المسائل المتعلقة بالجنس أو الحريات الفردية، كما لو كانوا فى حالة غموض على المستوى الاقتصادي بين المطالبة بدولة أكثر اجتماعية وبين تفضيل الليبرالية. ويقول: "نحن بعيدون كل البعد عن حركة يمينية في المجتمع الفرنسي". ويميل تيبيرج إلى اليسار، ويقلل من موضوعات الهجرة أو انعدام الأمن. ويرى أن فرضية "التلاعب اليميني" من قبل وسائل الإعلام والنخبة السياسية تجعلنا نبتسم عندما نعرف حقيقة تأثير اليسار الثقافي في وسائل الإعلام العامة.
وبوحه عام، إذا كان كتاب تيبيرج يدعو إلى التفاؤل على المدى الطويل، فإنه لا يبدد تمامًا أسباب التشاؤم على المدى القصير، خاصةً فى ظل تنامى اليمين واليمين المتطرف فى عدة دول غربية.
راينر زيتلمان: كيف تنجو الأمم من الفقر؟
في عام ١٩٩٠، كانت فيتنام أفقر دولة في العالم، حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ٩٨ دولارًا، وهو أسوأ من الصومال أو سيراليون. وكانت بولندا واحدة من أفقر الدول في أوروبا، حيث كان متوسط دخل المواطن البولندي أقل من ٥٠ دولارًا شهريًا. ومنذ ذلك الحين شهدت فيتنام معدل نمو سنوي متوسط بلغ ٧٪، ويعاني أقل من ٥٪ من الفيتناميين اليوم من الفقر المدقع. وشهد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بولندا ثلاثة أضعافه بفضل متوسط نمو بلغ ٣.٥٪، مما جعلها وسط الاقتصاد الأوروبي الأكثر ديناميكية لمدة ثلاثين عاما.
في كتابه "كيف تنجو الأمم من الفقر؟" الذى تمت ترجمته للفرنسية، يحلل الليبرالي الألماني راينر زيتلمان ما يطلق عليه "المعجزات الاقتصادية" في هذين البلدين. ومن خلال استخلاص الدروس، تمكنت فيتنام وبولندا من إجراء إصلاحات جذرية، والارتباط بالاقتصاد العالمي. وبطبيعة الحال، تظل فيتنام نظامًا ماركسيًا. وفي بولندا، شكك حزب القانون والعدالة، وهو الحزب الشعبوي الذي تولى السلطة من عام ٢٠١٥ إلى عام ٢٠٢٣، بجدية في الليبرالية الاقتصادية، قبل أن ينتقم دونالد تاسك الليبرالي المؤيد لأوروبا. ولكن بالنسبة للمؤلف راينر زيتلمان فإن التقدم المذهل الذي حققته بولندا وفيتنام يؤكد أن النمو والحرية الاقتصادية هما أفضل الأدوات لتحسين ثروة ورفاهية الأمم.
ثروة أدبية فى ٢٠٢٤
تميز عام ٢٠٢٤ بغناه الأدبي، حيث قدم لقراء الفرنسية مجموعة متنوعة من الأعمال الجذابة والمبتكرة التي تتميز بأصالتها وعمقها وقدرتها على التعبير عن المشاعر الإنسانية.
"النفوس الشريرة" وظلمة النفس البشرية
في نسختها الثالثة والعشرين، مُنحت جائزة "فناك" للرواية في سبتمبر إلى ماري فينجترا عن رواية "النفوس الشريرة ". حازت هذه الرواية على موافقة لجنة تحكيم مكونة من ٤٠٠ بائع كتب و٤٠٠ قارئ من أعضاء العلامة التجارية من بين الثلاثين عنوانًا المتنافسة، حسب التقليد المتبع فى تحديد العمل الفائز. هذا الكتاب هو الثاني للروائية، وتدور أحداثها بين الإثارة والتأثيرات النفسية، في بلدة صغيرة في الولايات المتحدة. قُتلت فتاة صغيرة وتم تكليف الشريف هوبلر بالتحقيق، حيث الادعاءات الكاذبة والألغاز والأقدار المتشابكة لا تكشف إلا ظلمة النفس البشرية.
"حورس" وحرب الاستقلال والعشرية السوداء بالجزائر
جائزة أخرى لا يمكن تفويتها، وهي جائزة جونكور، والتي ذهبت العام الماضى إلى الكاتب والروائى الفرنسى الجزائرى كامل داود عن روايته "حورس". يتناول المؤلف تاريخ الجزائر من خلال أحداث تتعلق بكلٍ من حرب الاستقلال والحرب الأهلية أو العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضى، من خلال شخصية أوب.. عبر سرد رحلة مظلمة للغاية إلى الجزائر في التسعينيات، يكتشف القارئ قصة أوب، الطفلة التي نجت من مذبحة عائلتها بالكامل على يد الإرهابيين، لكنها تحمل الندوب ومنها ندبة كبيرة على رقبتها إلى جانب تلف في الأحبال الصوتية. عندما أصبحت بالغة كانت مذهولة للغاية بشأن الحياة التي تعيشها، فتقرر العودة إلى مكان المأساة..تتحدث إلى طفلها الذي تحمله أثناء عودتها إلى قريتها الأصلية. في مواجهة الصدمات والوفيات والأسئلة العديدة، تحاول أوب إعادة بناء نفسها، ويتعامل معها كامل داود فى إطار إعادة إعمار البلد بالكامل.
"جاكاراندا" وتاريخ الإبادة الجماعية للتوتسى فى رواندا
كانت عودة "جايل فاي" إلى الأدب مدوية مع رواية "جاكاراندا"، التي فازت بجائزة رينودو.. تدور أحداث الرواية للمؤلف الفرنسي الرواندي الأكثر مبيعًا في بوروندي خلال تسعينيات القرن العشرين، ويستحضر الحنين الرهيب لعالم دمرته الحرب، وتتناول الرواية تاريخ الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا، لتضاف إلى الفسيفساء الغنية للأدب الفرنسي والفرانكفوني المعاصر، في رواية تتناقلها الأجيال.
الهجرة إلى المجهول فى "حلم الصياد"
رواية "حلم الصياد" للروائية الكاميرونية الفرنسية هيملي بوم تأخذك إلى تداعيات الهجرة وعبور المحيط فى محاولة لإعادة اختراع الحياة في فرنسا.. في "حلم الصياد"، يفقد زكريا كل شيء بينما يحلم بتحقيق مستقبل جيد لعائلته.. يقتلعهم الحلم، ويلقي بهم في دروب المنفى، من الساحل الكاميروني إلى باريس. وبعد جيلين، يستعد حفيده زاك لسلوك الطريق المعاكس.. قصة حب، في غاية الجمال.
زكريا، صياد سمك، يعيش في كامبو بالكاميرون، ربما في السبعينيات.. زاك، حفيده عالم النفس، يعيش في باريس اليوم. وتنسج هيملي بوم مساراهما، في الخيال على الأقل، لأنهما لا يعرفان بعضهما البعض. كلاهما ينتمي إلى سلالة ملعونة من الرجال الهاربين الذين لا يعرفون كيف يعيشون. هيملي بوم تبدأ قصتهما وتنتهي عند مصب نهر نتم، كمكان للحبكة. وتصف هذا المكان المتناقض "للقاء والصدام"، حيث يمتزج كل شيء: الحياة والموت، الجمال والخطر، الأساطير الملحمية وسبل العيش البسيطة. هنا، تتدفق مياه النهر البنية إلى المياه الصخرية للمحيط، والتي يتم حملها لعدة كيلومترات، ويمكن رؤيتها بوضوح.. تتشابك الدراما والشعر في هذا النص مع دقة الصياغة.
"الشاطئ الآخر للبحر" بداية نهاية أنجولا البرتغالية
في روايته الجديدة "الشاطئ الآخر للبحر"، يتناول الكاتب البرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيس ثورة في مزرعة قطن فى أنجولا، عام ١٩٦١، والقمع الوحشي لها والذى كان بمثابة الشرارة التي أشعلت حرب الاستقلال (١٩٦١-١٩٧٥). فى روايته المترجمة من البرتغالية إلى الفرنسية، يتناول الكاتب هذا الحدث ليس كمؤرخ، بل مثل سيل ينفجر فى جملته المتدفقة دون بداية أو نهاية تحمل مآسى ودموع سنوات طويلة من الاستعمار والتحرر.
كان لأنطونيو لوبو أنتونيس صورة في أوائل السبعينيات، التقطت على متن قارب. في المقدمة، مدفع رشاش. وفى الخلف، يجلس شابًا بالزي العسكرى الرسمي. كان قد أنهى للتو دراساته الطبية، وكما هو الحال مع العديد من البرتغاليين من جيله، تم إرساله إلى أنجولا للمساعدة في "استعادة النظام بين الملونين"، وهي العبارة التي وضعها فيما بعد على لسان أحد شخصيات الرواية. على القارب، كان لا يبدو كجندي. بنظرة بعيدة ومتأملة، يحمل دفترًا مفتوحًا على ركبتيه، كما لو أنه، ككاتب مستقبلي، كان يدون بالفعل ملاحظات للمستقبل.
وستظل آثار حرب إنهاء الاستعمار والمذابح محفورة في ذاكرته. منذ رواياته الأولى (مذكرات فيل، ١٩٩٨)، تعود أنجولا كفكرة مهيمنة على أحاسيسه. في "الشاطئ الآخر للبحر"، تستغل شركة كوتونانج البرتغالية البلجيكية العمالة المحلية لإنتاج القطن. في عام ١٩٦١، اندلعت ثورة: تمرد العمال على ظروف عملهم. كان القمع بلا رحمة، إذ سقط من سبعة آلاف إلى عشرة آلاف قتيل اعتمادًا على المصادر. تتشابك فى الرواية ثلاثة أصوات: صوت ابنة المزارع التي تتذكر شبابها وسط حقول القطن، وصوت مسئول استعماري سابق متزوج من امرأة أنجولية، وأخيرًا صوت عقيد في الجيش البرتغالي عند التقاعد.. وتتداخل القصص حتى تصبح كل صفحة فى الرواية أشكالًا من الأصداء المتنافرة التي لا تعبر إلا عن همجية العالم.
وتطول قائمة الكتب والروايات المميزة فى إصدارات عام ٢٠٢٤ باللغة الفرنسية، لكن المساحة لا تسمح بأكثر من ذلك.