قداسة البابا تواضروس الثاني يكتب.. الميلاد واستجابة الإنسان
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
أهنئكم أيها الأحباء بالعام الميلادى الجديد، وعيد ميلاد السيد المسيح الذى أتى متجسداً من أجل خلاص كل البشر.
لقد كانت الشعوب فى عصور العهد القديم ترفع الصلوات والطلبات من أجل مجىء المخلص، وكان الله يستجيب بإرسال الأنبياء والأبرار والصديقين، لكى ما يقودوا الناس فى تلك العصور القديمة، وكانت استجابة الله للطلبات والصلوات سبب فرح للإنسان، وتعلم الإنسان أن يختم دائماً صلواته بكلمة «آمين»، وهى الكلمة المشهورة فى جميع لغات العالم التى تعنى «استجب يا رب».
وعلى الجانب الآخر، كان الله يطلب من الإنسان أن يستمع وأن يستجيب لوصاياه، ولذلك نرى هذه الكلمات تتكرر بين أسفار الكتاب المقدس: «من له أذنان للسمع فليسمع» (رؤيا 2: 3)، وتتحدث عن الأذن التى تمثل جهاز السمع والإصغاء لدى الإنسان وبها يستمع لكل ما يقال حوله، فهى بمثابة جهاز استقبال.
ولا نتحدث عن هذا العضو الصغير الموجود فى رأس الإنسان فقط، إنما أيضاً الأذن الداخلية للإنسان، وتتمثل فى قلبه، فكل الأحاديث والآراء التى حولنا تدخل هذا الجهاز وتُترجم قلبياً، ولنا بعد ذلك الاختيار والحرية لقبول ما نسمع أو رفضه أو الاستجابة له، حسب ما يقرر قلبنا وعقلنا وحكمتنا.
هل لاحظت أن كلمة قلب بالإنجليزية وتعنى heart تحوى داخلها كلمة ear أى الأذن، لذا دائماً ما نجد ارتباطاً بين الأذن والاستجابة بقلب الإنسان، فما يسمعه بأذنه يترجمه قلبه، وتكون الاستجابة بحسب هذه الترجمة.
وإذا انطلقنا فى رحلة الإنسان على مدار أيام حياته على الأرض نجده يقابل الكثير من المواقف التى تحتاج منه إلى قرارات، بداية من أصدقاء الطفولة، نوع الألعاب، ما يفضله من أنواع الطعام، إلى اختياراته للدراسة والعمل والارتباط وغيرها من القرارات الكثيرة واليومية، وبحسب استجابته للمواقف تسير أيامه، وبحسب اختياراته يرسم حياته، وهكذا صار على مر الزمان.
نرى فى الأيام الأولى للحياة على الأرض كيف استجابت حواء لنداء الحية، وبعد الحديث معها أذعنت لطلبها، وهكذا أيضاً امتثل آدم لطلب حواء أن يأكل الثمرة، وبحسب خضوعهما للحية واختيارهما لسماع كلماتها، سارت حياتهما، فطُردا من الفردوس بعد أن كسرا وصية الله.
كذلك نتذكر كيف كان نوح البار ينادى الجميع أن يتوبوا وينضموا معه إلى الفلك، لكنهم رفضوا بسبب قساوة قلوبهم، بل تهكموا على من يبنى مركباً على سفوح الجبال، وهكذا هلكوا بالطوفان، وهناك أحداث كثيرة على مر العصور توضح اختلاف استجابة الإنسان بحسب رؤيته للمواقف.
ونحن نؤمن أن الله يستجيب، فقد قال بوعد: «ادعنى فى يوم الضيق أنقذك فتمجدنى» (مز50: 15)، فهو يريد الاستجابة لنا، لكن استجابته تتغير بحسب الزمان والمكان والطلب، وأيضاً بحسب قلب السائل، إن كان يطلب بإيمان، أو يطلب كما لقوم عادة، فقد طلب أبونا إبراهيم من الله ابناً له، ولم يمل من الطلب، فأعطاه الله نسلاً بعد وصوله وزوجته إلى الشيخوخة، وقد قبل الله صلاة يونان النبى بعد مكوثه فى جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، أيضاً استمع الله للقديس سمعان الخراز فى نقل جبل المقطم، وغيرها الكثير من الأمثلة.
وفى احتفالنا بميلاد السيد المسيح له المجد، تظهر أمامنا مجموعات مختلفة من الاستجابات البشرية، وهو ما أود أن أتأمله معكم اليوم:
استجابة القلب المطيع:
فتاة عذراء تجد ملاكاً، يبشرها بولادة ابن الله منها ويقول لها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِى تُظَلِّلكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ». (لو 1: 35)، وبكل الطاعة تجيب: «هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك»، وتستجيب لبشارة الملاك وتستعد لاستقبال ابن الله داخلها. مع أن مريم فتاة صغيرة، لكنها تعلمت كيف تطيع الله، وتؤمن بكلماته، وتعمل كل ما يطلبه منها، ومن اتضاعها الجميل عندما تعلم أن نسيبتها أليصابات العاقر حبلى تذهب مريم عبر الجبال لتخدم أليصابات فى حملها بيوحنا المعمدان، وتقدم مثال التواضع للكل، لذلك نطوبها ونمجدها لأنها صاحبة استجابة قوية ونخصص لها شهراً كاملاً هو شهر كيهك نقدم فيه الصلوات والتسبيحات ونطلب شفاعتها أمام المسيح إلهنا.
استجابة القلب النقى:
رعاة ساهرون فى جو بارد، وهواء الشتاء الرطب، يرعون خرافهم باجتهاد فى السهول والوديان، وفجأة تنير السماء بملاك الرب يبشرهم قائلاً: «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِى مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ».
ويدلهم على مكانه، ثم يظهر جمهور من الجند السماوى مسبحين الله قائلين: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو2: 14)، «فقال الرجال الرعاة بعضهم لبعض لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذى أعلمنا به الرب، فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل وكان طفلاً مضطجعاً مقمطاً» (لو2: 12)، ففرحوا بالعطية الإلهية، واستجابوا لنداء الملائكة «ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوه كَمَا قِيلَ لَهُمْ». (لو 2: 20).
استجابة القلب الواسع
بيت لحم، القرية الصغيرة، كانت تعانى من ازدحام شديد بسبب الاكتتاب خلال هذه الفترة، فقد رجع كل إنسان إلى مكان ميلاده ليكتب اسمه فى السجلات، ليتم عد الشعب بأمر الملك هيرودس، فكان الازدحام شديداً ولا يوجد مكان لإنسان، وكانت البلاد فى ذلك الزمان عبارة عن مساكن للبشر ومساكن للحيوانات، ولم يجد يوسف النجار مكاناً يذهب إليه مع مريم العذراء خطيبته ويبيتان فيه، حتى عرض عليهما صاحب بيت، لا نعرف اسمه، أن يستقبلهما، لكن ولضعف إمكانياته، فى مذود البقر، وهكذا استقبل أهل بيت لحم المولود فى قريتهم، فتباركت هذه البلدة من الله بسبب استقبالها للطفل يسوع.
استجابة القلب المتلهف أو المشتاق:
أناس علماء يدرسون الفلك والنجوم، رأوا سماء مليئة بالنجوم ولكن بينها نجم خاص، فتركوا كل شىء وذهبوا وراء النجم، لم يعلموا إلى أين يقودهم، وقد تطول فترة سفرهم بالشهور، لكنهم لم يفكروا كيف يسيرون، لأنهم يثقون أن هناك حدثاً عظيماً ويجب أن يسيروا وراءه، واختاروا المسير، ووصلوا إليه بعد تتبع النجم، وفى مقابلتهم للطفل يسوع قدموا أثمن الهدايا، واثقين أنه ليس طفلاً عادياً حتى لو مولود فى مذود متواضع بسيط، وبعد مقابلتهم له غيروا طريق عودتهم لأنهم آمنوا أنه ملك بقلوبهم لا بعيونهم.
استجابة القلب الشرير:
إنه مَلك خاف على مُلكه حين سمع من المجوس أن النجم الظاهر هو لملك عظيم، قتل الآلاف من الأطفال حتى يستمر مُلك هيرودس ولا يزعزعه أى قادم، وغضب من المجوس بسبب عدم عودتهم له، وعدم إخباره بمكان المولود، لم يفكر سوى بنفسه ومملكته وسلطته.
وهكذا ومواقف كثيرة أخرى فى حادثة الميلاد تظهر التباين بين الاستجابات بحسب القلوب، وما زالت الأصوات تعلو فى العالم تنتظر استجابة:
صوت الله يطرق على كل قلب، ليختار الإنسان أن يفتح ليدخل الله ويقيم فى قلبه، أو يغلق ولا يسمح لله بالدخول.
صوت الوصية الإلهية، ليستجيب الإنسان لها أو أن يكسرها بإرادته ويفعل ما يحلو له فى العالم، ويسير فى طريق الإلحاد وخطايا المثلية والإدمان بكل أنواعه وغيرها الكثير.
صوت الإنسانية الصارخة، ونحن جميعاً نسمعها الآن، من خلال الحروب التى انتشرت حولنا، ورد فعل العالم لها، وكيفية استجابة الشعوب لهذا الصراخ، تسمع وتستجيب أم تصم أذنيها عن الأنين الخارج من الشعوب المحطمة فى الحروب.
لقد كانت فترة الصوم الميلادى فرصة لإصلاح الأذن الداخلية فى قلب الإنسان، ليستطيع الاستماع والاستجابة، ومكتوب: «يستجيب لك الرب فى يوم شدتك»، فإذا كانت القلوب نقية فإنها تعرف كيف تسمع وتستجيب، ولأن العالم يضج بالحروب والنزاعات فهو لا يستطيع أن يستمع للصوت الإلهى الصارخ من أجل الدمار والصغار والنساء والقتلى والمجروحين والأنين الخارج من النفوس المحطمة.
إننى هنا يجب أن أشيد برد الفعل المصرى لما يحدث فى المنطقة، وكيف وقفت مصر بجانب الشعوب بمساعدات متنوعة، وأقامت مؤتمراً دولياً لإحلال السلام، ولم يألو الرئيس عبدالفتاح السيسى جهداً يبذله من خلال المباحثات والمشاورات لأجل مستقبل المنطقة.
وقد خصصت الكنيسة شهر كيهك كاملاً للصلاة من أجل إحلال السلام فى العالم كله، ليحل السلام من ملك السلام المولود.
فى النهاية.. هذا اليوم هو فرصة لكل إنسان أن يراجع استجاباته.. السيد المسيح أتى لينير الإنسانية ويضىء قلوب البشرية، يطلب منا أن يحل السلام، فهل يستجيب العالم لندائه؟ سؤال ينتظر إجابة من كل إنسان.
أخيراً، إننى أنتهز هذه الفرصة لكى ما أشكر السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى على زيارته وتهنئته لجموع المصريين بهذا العيد المجيد، ونهنئ أنفسنا على انتخابه لقيادة البلاد فى المرحلة القادمة، واستكمال خطة بناء الدولة بالمشروعات والإنجازات العظيمة.
كما نشكر كل رجال الدولة الذين قدموا لنا التهنئة بالحضور والمقابلات والمكالمات والرسائل، ونصلى أن يديم الله المحبة والروابط العميقة التى تربط جميع المصريين، على أرض هذا الوطن العزيز، كل عام وأنتم بخير.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: محبة المسيح رسائل السلام التسامح هوية المصريين من أجل
إقرأ أيضاً:
أبو بكر الديب يكتب: من نيكسون لترامب.. هل يخشى الأمريكان عملة "بريكس"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
رغم أن مجموعة أو تكتل "بريكس" لا يملك عملة مشتركة حتى الآن، والمناقشات في هذا الصدد ما زالت طويلة، إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يبدو أنه منزعج لهذا الاحتمال حتى أنه كرر تحذيره أكثر من مرة، لدول مجموعة "بريكس" والتي تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، اضافة لمصر وإثيوبيا وإيران والإمارات وإندونيسيا، من استبدال الدولار كعملة احتياطية، ويتوعد في كل مرة بفرض رسوم جمركية بنسبة 10 %.
واليوم قال الرئيس الأمريكي من جديد: "سنطلب التزاما من هذه الدول المعادية على ما يبدو بألا تطلق عملة جديدة لمجموعة بريكس، ولا تدعم أي عملة أخرى لتحل محل الدولار الأمريكي العظيم، وإلا فإنها ستواجه رسوما جمركية بنسبة 100 %.. ولا توجد فرصة لأن تحل مجموعة بريكس محل الدولار الأمريكي في التجارة الدولية أو في أي مكان آخر، وأي دولة تحاول ذلك يجب أن تقول مرحبا بالرسوم الجمركية، وداعا لأمريكا.
فيما ردت روسيا بأن أي محاولة أمريكية لإجبار الدول على استخدام الدولار ستؤدي إلى نتائج عكسية.
وخلال اجتماعات قمة بريكس الـ 16، فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم بحمله نسخة من عملة أطلق عليها عملة بريكس، وهو ما أثار ضجة إعلامية كبيرة في الغرب ورغم أن هذا الإعلان مبكر جدا، حيث إن بريكس ما زالت في بدايتها وما زالت تتفاوض على استخدام العملات المحلية في التعاملات التجارية بينها ولم تنفذ ذلك حتى الآن، فضلا عن إعلان "عملة موحدة للمجموعة كما لا يزال الدولار العملة الاحتياطية الأساسية في العالم، كما أن طرح عملة موحدة لبريكس يتطلب إنشاء بنك مركزي للمجموعة، يقوم بدوره بطرح هذه العملة للدول الأعضاء، إلا أن الرئيس الأمريكي، هدد أكثر من مرة بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول البريكس، في حالة الابتعاد عن الدولار، وإنشاء عملة جديدة.
لكن رغم تهديدات ترامب المتواصلة أوقفت روسيا والصين التعامل بالدولار الأمريكي في معظم التعاملات التجارية فيما بينهما، وتتم أكثر من 90 % من المعاملات التجارية بين البلدين بعملتي الروبل الروسي واليوان الصيني.
ويبدو أن ترامب قلق على مستقبل الدولار صاحب التاريخ الطويل الممتد منذ أكثر من 242 عاما وبالتحديد منذ أن أذن الكونجرس القاري للولايات المتحدة بإصدار العملة القارية في عام 1775 وفي 2 أبريل 1792، استحدث كونجرس الولايات المتحدة الدولار الأمريكي كوحدة قياسية مالية موحدة في البلاد.
ومنذ إطلاق العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" في عام 1999 وحتى نهاية عام 2022، انخفضت نسبة مساهمة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمي من 71% إلى 58%، وسط توقعات بأن تستمر رحلة تراجع حصة الدولار في الاحتياطات الأجنبية العالمية، حال انخفاض نسبة مساهمته في حجم التجارة الدولية، والتي تبلغ حاليًا 50% من إجمالي المعاملات التجارية العالمي، وسط تأثير متزايد لليوان الصيني والعملات غير الدولارية الأخرى على هيمنة "الورقة الخضراء" على الاقتصاد العالمي.
وبحسب معطيات صندوق النقد الدولي، انخفضت حصة العملة الأمريكية في الاحتياطيات الدولية بالبنوك المركزية العالمية خلال الربع الثالث من العام الماضي مقابل زيادة حصة عملات أخرى.. ورغم أن الدولار كان عادة العملة الاحتياطية المفضلة لغالبية البنوك المركزية على مستوى العالم بسبب استخدامه على نطاق واسع واستقراره في الأسواق العالمية، إلا أنه بدأ يخسر هيمنته تدريجيا منذ بداية الألفية الحالية، عندما كانت حصته تفوق 70%.. ويأتي ذلك التراجع في وقت تتسارع فيه خطوات عدة دول وتكتلات اقتصادية إلى الحد من هيمنة الدولار على التعاملات التجارية حول العالم، وخاصة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وفرض العقوبات الغربية على موسكو، وبدأ ذلك من خلال التوجه نحو التعامل بالعملات الوطنية للدول على الصعيد الثنائي، أو من خلال إطلاق عملات جديدة، بما يسهم في تعرض الدولار لتحديات مستقبلية واسعة تتجدد معها التساؤلات بشأن ما إن كان العالم سوف يشهد بداية النهاية لهيمنة الدولار في ضوء تلك التطورات.
"والدولار" هو تلك القوة الناعمة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو سلاح فتاك لا يقل قدرة وفعالية عن أسلحة الحرب المتعارف عليها ولذا تحرص واشنطن على قوته بكل السبل المعلنة والخفية، وحاربت من أجل إيجاد نظام نقدى جديد يعتمد على الدولار عقب الحرب العالمية الثانية، وتحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة العالم الأولى، تستخدمه الولايات المتحدة كسلاح اقتصادي للدمار أحيانا، وهو ما تحاول فعله مع روسيا حاليا ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وتعود حكاية هيمنة الدولار على العالم إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث اتجهت الدول المنتصرة فيها، إلى تقسيم الغنيمة ورسم صورة جديدة للعالم فى ظل اختلاف موازين القوى، وكانت أمريكا بالطبع الأقوى عسكريا واقتصاديا، فوقعت مع 43 دولة اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، لتطوير النظام النقدى الدولى الجديد، وجعلت فيها "الدولار" هو المعيار النقدى الدولى لكل عملات العالم، بعد أن كان الذهب هو الغطاء النقدى لكل هذه العملات، وتعهدت أمريكا - وقتها - بأنها ستملك غطاء من الذهب، يوازى ما تطبعه من دولارات، وتثبيت قيمة الدولار أمام الذهب بما يعادل 35 دولارا للأوقية، أى أن من يسلم أمريكا 35 دولارا تسلمه أمريكا "أوقية ذهب"، بينما باقى العملات يتم تقييمها بالدولار، وليس بالذهب مباشرة، وهنا سبب تسمية "الدولار" بالعملة الصعبة، فهو العملة الوحيدة التى يمكن استبدالها بالذهب، واكتسب ثقة دولية لاطمئنان العالم لوجود تغطيته من الذهب فى أمريكا، صاحبة أكبر رصيد من الذهب حينها، حيث كانت تمتلك 75% من ذهب العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وجمعت الدول فى خزائنها أكبر قدر من الدولارات، على أمل تحويله لقيمته من الذهب، فى أى وقت أرادوا، واستمر الوضع على هذا الحال حتى منتصف أغسطس عام 1971، حيث خرج "ريتشارد ميلهاوس نيكسون"، وهو الرئيس السابع والثلاثون لأمريكا، بعد اجتماعات سرية فى "كامب ديفيد" مع رئيس الاحتياطى الفيدرالى ووزير الخزانة ومستشارين فى البيت الأبيض، ليصدم شعوب وحكومات العالم جميعا، ويعلن بشكل مفاجئ، أن بلاده لن تسلم حاملى الدولار، ما يقابله من ذهب، وهو ما سمى بـ "صدمة نيكسون"، ليكتشف العالم، أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بلا حساب، وأن ما طبعته كان أكثر بكثير من الذهب الذى تملكه، وأنها اشترت خيرات الشعوب، وامتلكت ثروات العالم بحفنة من "أوراق خضراء" لا غطاء ذهبى لها.. ولم تتمكن أى دولة من الإعتراض ورفض هذا النظام النقدى الجديد، لأن هذا كان معناه حينها أن كل ما خزنته هذه الدول من مليارات الدولارات فى بنوكها سيصبح ورقا بلا قيمة، وهى نتيجة أكثر كارثية مما أعلنه الرئيس الأمريكي.
وأعلن نيكسون، حينها تعويم الدولار لينزل فى السوق تحت المضاربة، وسعره يحدده العرض والطلب، ولن تكون له قيمة ثابتة كما كان سابقا، خلافا لاتفاقية "بريتون وودز" التى جعلت قيمة محددة للدولار مقابل الذهب، وبذلك أصبحت واشنطن قادرة على التلاعب بقيمة الدولار، ومن ثم التلاعب بقيمة عملات الدول الأخرى المرتبطة به، عبر تحكمها فى كمية الدولارات التى تطبعها وتطرحها فى السوق النقدية.. وقال نيكسون كلمته الشهيرة: "يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها، ويجب أن يلعبوها كما وضعناها".. وبذلك صارت أمريكا تشترى ما تريده من ثروات الشعوب دون أن تخسر شيئا، لتحقق الرفاهية للشعب الأمريكى بلا تعب ولا حروب.