فى عيد الميلاد المجيد، المصريون ما بين محتفل ومهنئ، يحدث ذلك منذ سنوات بعيدة، من قبل أن يصبح يوم 7 يناير إجازة رسمية، لم يكن قرار الإجازة سوى اعتراف بأمر واقع وتأكيده، وترسّخ الأمر أكثر فى السنوات العشر الأخيرة، حيث صارت الزيارة الرئاسية التى يقوم بها الرئيس السيسى سنوياً إلى مقر الصلاة والاحتفال بالميلاد طقساً من طقوس العيد، ينتظره الجميع بابتهاج وفرح، وهكذا صار الاحتفاء بعيد الميلاد، رسمياً وشعبياً، لنقل وطنياً، إلى جوار بعده الدينى من البداية.
وبيننا أفراد يصرون على معاداة الأعياد والترصد لنا فى كل بهجة لإفسادها، يريدون اعتبار الجهامة والكآبة، ومن ثم كراهية الحياة، منهجاً وأساساً، وهكذا شككوا فى عيد الميلاد والاحتفاء أو التهنئة به، وباءت محاولتهم بالفشل أمام مساندة ودعم رسمى، فضلاً عن رغبة شعبية جارفة فى الاحتفال والاحتفاء، والحق أن المؤسسة الإسلامية الرسمية، ممثلة فى فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، وفضيلة المفتى د. شوقى علام، تصدت بجسارة لأولئك الذين يريدون فرض التحريم واتهام الاحتفال والمحتفلين.. ندعو الله أن يجنبنا أذاهم وأن ينير بصيرتهم.
فى المسيرة الإنسانية سعى حثيث ودائم نحو البهجة والسعادة؛ للتغلب على صعاب الحياة والقدرة على مواجهتها؛ لذا اخترع الإنسان فكرة «العيد» والاحتفالات؛ وقد نجحت كثير من المجتمعات فى ذلك؛ وربما يكون المجتمع المصرى من أبرز المجتمعات الإنسانية فى ذلك؛ لذا تعددت الأعياد والمناسبات، منها ما ارتبط بالجانب الدينى والعقائدى فى الأساس، ومنها ما ارتبط بالجانب الاقتصادى والمعيشى، مثل عيد وفاء النيل وعيد الحصاد وغيرهما، ومنها ما ارتبط بالمناسبات والأحداث الوطنية الكبرى، لدينا منها الكثير على المستوى الوطنى العام، فضلاً عما يرتبط بكل إقليم ومحافظة.. الأفراد أيضاً حددوا أعياداً خاصة بهم، على مستوى الأسرة والعائلة؛ أعياد النجاح والترقى والخطوبة والزواج وغيرها وغيرها.
وإذا كانت الأعياد الخاصة على مستوى الفرد والأسرة يكون هدفها الفرحة والبهجة، فضلاً عن زيادة التماسك والروابط الأسرية والاجتماعية.. فإن الأعياد العامة لا تقتصر على البهجة والفرحة ولحظات السعادة فقط، لكنها تحمل رسائل أبعد من ذلك بكثير، إنها نوع من بناء الذاكرة الجمعية والتماسك الوطنى، وتعميق الروح الإنسانية والانحياز إلى القيم العليا مثل الحب والخير والعدل والحرية، واحترام الضمير الإنسانى والخلق النبيل، وكلها قيم لا مفر منها فى البناء الوطنى والتماسك الاجتماعى والإنسانى.
7 يناير هو الاحتفال المصرى بميلاد السيد المسيح، رمز المحبة والتسامح والسلام فى هذا العالم، ومن واجبنا أن نحتفل بمولده، ذلك أن مصر لعبت دوراً مهماً فى حياة وسيرة السيد المسيح والسيدة والدته مريم العذراء، فقد جاءت «العائلة المقدسة» إلى مصر هرباً من فلسطين، حيث الاضطهاد الرومانى والإصرار على قتل الطفل المبارك فى العالمين، أقامت العائلة بمصر حوالى ثلاث سنوات، طبقاً للعديد من الروايات الموثقة تنقلت العائلة فى أنحاء البلاد من سيناء إلى منطقة بابليون، حيث كنيسة «أبى سرجة» الآن فى الفسطاط، ثم إلى العديد من المحافظات والمواقع، منحتهم مصر الأمان والسلام، ومنحوها البركة والمحبة، نعرف أن سنوات الطفولة الأولى تكون الأساس الثقافى والوجدانى للإنسان، وهكذا فإن السيد المسيح، عليه السلام، كانت بداياته المبكرة هنا، على هذه الأرض الطاهرة والمباركة.
ونحن نحتفل بعيد الميلاد المجيد، نحتفل بجانب عظيم من تاريخ وروح هذا الوطن المعطاء، روح المحبة والتسامح والسلام، جاء السيد المسيح ليقاوم غرور القوة وبطش السيف، ممثلاً وقتها فى البطش الرومانى، لكن إلى اليوم ما زال غرور القوة قائماً، نراه حولنا؛ فى فلسطين، وفى غيرها، وما أحوجنا اليوم إلى روح المحبة والسلام، المحبة نحو الجميع، والسلام للخائفين والمهددين.. المروعين فى بيوتهم ومدنهم بفلسطين الحبيبة، ودائماً كانت مصر واحة الأمان والسلام.
قد يتصور البعض أن الاحتفال بعيد الميلاد المجيد والتهنئة به نوع من المجاملة للمسيحيين، ورغم أن المجاملة فعل محمود وإيجابى، لكن الأمر ليس كذلك، نحن نحتفل بلحظة مهمة فى تاريخ مصر، حين لجأ إليها السيد المسيح وعاش بها، مكرّماً معززاً مع السيدة والدته، مريم العذراء، ثم دور مصر بعد ذلك مع اعتناق المسيحية، وحتى ما بعد دخول العرب مصر فاتحين.
الاحتفال كذلك رمز لتعددية دينية وثقافية فى مصر يجب أن نحرص عليها قوية وبناءة تكون عنصر ثراء وخصوبة اجتماعية وحضارية عُرفنا بها تاريخياً. فى هذه اللحظة تحيط النيران بنا من كل جانب، الخراب يسود، والخوف يشتد، لنتذكر دائماً أن مصر كانت بلد الأمان والمحبة للجميع، وكانت ملاذاً للخائفين وللمضطهدين، ويجب أن نحرص ونعمل على أن تظل كذلك، وفى يوم الميلاد يجب أن نستحضر قيم وروح المحبة والسلام، ورفض منطق القوة والعنف.
على أرض مصر تحرك أبوالأنبياء إبراهيم، وبها قضى السيد المسيح جانباً من طفولته، وفيها تجلى الله لكليمه موسى فى سيناء، وفى سيناء أيضاً توقف البراق بنبى الإسلام ليلة الإسراء، بوركت أرض مصر بهم جميعاً عليهم السلام، وفى يوم الميلاد المجيد، نحتفل ونهنئ أنفسنا وكل المسيحيين المصريين.. دامت مصر ودامت المحبة على أرضها وبين أبنائها جميعاً.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: محبة المسيح رسائل السلام التسامح هوية المصريين المیلاد المجید السید المسیح
إقرأ أيضاً:
صيام أم انتقام؟؟
شهر رمضان من أكثر الشهور الهجرية قداسة عند المسلمين نظرا لنزول القرآن في هذا الشهر المبارك، وفيه العشر الآواخر التي هي أفضل عشر ليالٍ للعبادة وخاصة ليلة القدر التي عظَّمَها الله وقال عنها {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ}، وصومه هو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو أيضا شهر التوبة والغفران وتلاوة القرآن وتكثيف العبادات والأعمال الخيرية والتقارب بين المسلمين، ويساعد الصيام من الناحية النفسية على ضبط النفس وتربيتها وتهذيبها والارتقاء بها عن الشهوات والمشاحنات واكتساب عادات حميدة والتخلص من العادات السيئة، ويساهم في نزع الحقد والكراهية بين البشر والإحساس بالفقراء والمحتاجين ومعاناتهم والإحسان إليهم والارتقاء بالأخلاق الإسلامية العظيمة.
ولكننا مع الأسف نجد أن البعض وهم قلة قليلة بإذن الله يمارسون عصبية مٌفرطة في نهار رمضان وهم صائمون خاصة عند الاختلاط بالآخرين في الأماكن العامة، ولا شك أن لهذه العصبية أسباب كثيرة من أهمها نقص الماء في الجسم والذي يؤثر على وظائف الدماغ، ونقص مستوى السكر في الجسم الذي ينعكس سلباً على مستوى الجلوكوز خلال فترة الصيام مع المجهود الذهني أو البدني الذي يُصَعِّب التركيز والقدرة على التعامل مع الضغوط للصائم ويسبب سرعة الانفعال والشعور بالقلق والتوتر، ناهيك عن الانقطاع عن المنبهات خلال الصيام كشرب الشاي والقهوة خاصة لمن تَعوَّد عليها في الأيام العادية لأن الكافيين يُعتبر من محفزات الجهاز العصبي للشعور بالنشاط والحيوية ويُعزز من إفراز الدوبامين الذي يمنح شعوراً بالراحة والسعادة، أما المدخنين فإن أبرز أسباب العصبية عند أغلبهم هي الانقطاع المفاجئ عن التدخين خلال فترة الصيام الذي يسبب نقص كمية النيكوتين التي اعتاد عليها الجسم في الأيام العادية، وأخيرا اضطراب عادات النوم في شهر رمضان بسبب السهر وعدم الحصول على قسط كافِ من النوم وتغيير إيقاع الساعة البيولوجية الطبيعية الذي يؤثر على الحالة المزاجية للصائم.
أما معلم البشرية ورسولنا الكريم مُحَمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام فقد علَّمَنا كيفية التعامل مع هذه العصبية في نهار رمضان وأختصرها في حديث عظيم قال فيه عليه الصلاة والسلام “إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ” (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(
في هذا الحديث بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بنهي الصائم عن الرفث وهو فحش الكلام، والصخب وهو الصياح والخصام، وذكر عليه الصلاة والسلام في حالة التَعدِّي ما يجب قوله “فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ” ليُوضح في آخر العبارة قمة الأدب في عدم الانتقام للنفس وتذكير الشاتم أو المقاتل بعظمة الصيام وفضله عند الله عز وجل، وأقسم بعدها بمالك نفس محمد -عليه الصلاة والسلام- والذي يملك جميع الأنفس بأن لخلوف فم الصائم وهي تغيير رائحة الفم بسبب الصيام أطيب وأزكى عند الله من ريح المسك وهو أطيب الروائح وأزكاها إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن رُتبة الصوم من أعلى المراتب على غيرها ولا تستحق من المسلم أن يفرط فيها بسبب مشاتمة أو مقاتلة وينتقم لنفسه فيها، فهل يختار المسلم لنفسه الصيام أم الانتقام؟ .