بعيدًا عن المسارات التقليدية، يسبر مجموعة من الفنانين أغوار التجليات الروحانية في الفنون الإسلامية المعاصرة، مستلهمين جوهر التصوف الإسلامي ورمزياته البصرية... يتجاوزون في إبداعاتهم حدود المألوف، معتنقين في أعمالهم زوايا رؤية مبتكرة تتجلى في استيحاء الجوانب الروحانية والتأملية من التراث الإسلامي... يخوضون في مفاهيم مجردة وفلسفية كالزمان والمكان، ويستقصون طبيعة الواقع والإدراك، مستكشفين قضايا اجتماعية وسياسية من خلال لوحاتهم الفنية.

ويعمد البعض إلى الغوص في التراث الشعبي بحثًا عن الحكمة والقيم المتجذرة في الثقافات الأصيلة، فيما يركز آخرون على دور الفن في معالجة قضايا معاصرة مرتبطة بالهوية والانتماء.

يقدم الفنان المصري أحمد قشطة في عمله «اللانهائية والتجلي» تأملا في دور الجندي كرمز للحماية والأمان عبر العصور، بينما تستمد الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا الإلهام من التراث البدوي في أعمالها، مستخدمةً اللباد كوسيط فني، بينما يناقش الفنان السعودي سعد الهويدي أهمية الروحانية والتصوف في حياة الإنسان. وتتناول الفلسطينية سمر حجازي في «الحدود المتجاوزة» آليات تشكل المعنى وأثرها على إدراك المتلقي.

يطرح هذا الاستطلاع الرؤى المتنوعة لهؤلاء الفنانين، مقدمًا تأملات عميقة في مضمون أعمالهم الفنية المختلفة..

في العمل الفني «اللانهائية والتجلي» لأحمد قشطة يتكاتف الجنود على الجدران بتنويعات لا نهائية من الاحتمالات الرياضية، تماما كالمشربيات العتيقة في حواري المدينة القديمة، حيث يتسلّل الضوء من فتحاتها الدقيقة وهي تكسر أشعة الشمس الحارقة، لكنها تبقي قبسا من نورها، وهي إذ تشتت قوة الشمس إلا أنها لا تلغي حرارتها، بل ترشد طيشها وتهذب حضورها وتجليها.

يرى الفنان المصري أحمد قشطة (المقيم في إسبانيا) بأنّ الجندي هو اللبنة الأولى في جدران الحماية والأمان، وهو القاسم المشترك في مختلف حكايات التاريخ الكامنة في طبقات الحضارة الإنسانية، وأن الجندي قد يرتدي زيا جديدا وقد يبدل أسلحته ودروعه، لكنه يظل حاضرا بروحه وبحضوره الطاغي على الأشياء، وفي فلسفة لعبة الشطرنج، فعلى الرغم من أنه العنصر الأضعف إلا أنه الوحيد القادر على التحول، وتأتي هذه التجربة الفنية نتاج تفاعل العلاقات المجردة، والبحث الدائم وراء النسبة وأسرارها، فالجمال كله نسب والموسيقى نسب والشعر والعمارة نسب، والظل والنور واللون نسب والتراتيل والترانيم والمزامير كل شيء بمقدار.

ويضيف «قشطة» يأتي العمل للتعبير عن مفهومه للفن الإسلامي، حيث يعتبر بأنه قد وجد ليسكن القلب، وينقش برقة رسالة محفورة على جدار العقل، وينفذ سائغا إلى عمق كيان الإنسان، ويخاطب فيه الزمان والمكان حيث أنفاس الغائبين، ويجود بجماله ليملأ فراغات الروح، ويتركها سارحة في الملكوت تسبح بحمد الله.

التمسك بالثوابت

عن أعماله بمجملها يشدد الفنان سعيد العلوي على أهمية الاحتفاظ بالثوابت التراثية والتمسك بها، إذ تُعد هذه الثوابت التي ورثناها عبر العصور أساسًا حيويًا للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيز الانتماء. يمثل التراث رابطًا بين الماضي والحاضر، ويمنحنا خلاصات ومعارف ذات قيمة يمكننا أن نستفيد منها في حياتنا اليومية. ومن خلال استثمار الهبات التي أنعم الله علينا بها من مواهب وإبداعات، نتمكن من تطوير أنفسنا ومجتمعاتنا. فالعقل البشري، كواحدة من هذه الهبات، يمكنه أن يدفعنا نحو التقدم والتطور في مختلف المجالات، ومن ضمنها المجال الفني. وبالتالي، يتوجب علينا استثمار هذه الثوابت والهبات بشكل مبدع وجمالي يتفق مع التحولات الحضارية الحديثة. وينبغي للفنان أن يلعب دورًا مهمًا في استلهام هذه الإنجازات وتعزيز الهوية من خلال إبداعاته الفنية.

ويضيف: أنه من خلال الابتكار واستخدام التقنيات الحديثة، يستطيع الفنان التعبير عن الهوية العربية الإسلامية بأساليب مختلفة ومبتكرة. يمكنه استخدام الرموز والأشكال التقليدية للتواصل مع الماضي والتراث، في حين يجب عليه أن يجسد الروح الحديثة والتجدد التي تتماشى مع التطور الحضاري. إن الهوية العربية الإسلامية تحمل تنوعًا كبيرًا وتراثًا غنيًا يمكن للفنان أن يستوحي منه لإبداع أعمال فنية تعبر عن جمالية الثقافة العربية والإسلامية. يمكنه أيضًا استخدام العناصر الزخرفية والهندسية التقليدية في العمارة والحلي لإضفاء لمسة تقليدية على أعماله الفنية، مع الحفاظ على القدرة على الابتكار والتجديد. وبالتالي، يكون إنجاز الفنان العربي الإسلامي محاولة لاستثمار الهوية الثقافية والتراثية بقالب إبداعي يعكس التجدد والتحول، والفنان قد يكون جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، ويساهم في تعزيز الوعي بالثقافة المنطقة والتراث العربي الإسلامي.

بالإضافة إلى ذلك، يشدد الفنان سعيد العلوي على أن الاحتفاظ بالثوابت التراثية لا يعني التجميد في الماضي، بل يجب أن يكون هناك توازن بين التراث والتجديد. يمكن للفنان أن يستوحي من التراث ويعيد صياغته بطرق معاصرة ومبتكرة، مما يُحافظ على الروح الأصيلة للثقافة وفنون المنطقة وفي الوقت نفسه يجعلها قادرة على التأقلم مع التطورات الحديثة. يعتبر الابتكار والتجديد في الفن وسيلة للمحافظة على الهوية وتطويرها في آنٍ واحد.

التوتر والعتبة

وعن عمليها «التوتر»، و«العتبة» تقول الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا: بداية فإن عمل «التوتر» هو مكون من كرات لباد مجوّفة معلقة في الهواء ومتصلة بسلسلة ذهبية، يمثل هذا العمل الكون بأكمله بالنسبة لي، هو عبارة عن عالم دقيق وعام بنفس الوقت، يمثل تجارب الحياة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، حيث اكتشاف الماضي والحاضر من خلال طرح العديد من التساؤلات حول المستقبل، وقد يعكس هذا العمل حالة العالم في الوقت الحالي، مع وجود انقسامات داخل المجتمع الواحد، وتصاعد الرفض والقسوة، ومن خلال استخدام الذهب سعيت إلى دفع المشاهدين إلى التفكير في قيمة الحياة.

وتضيف موكاجانوفا: توظيف هذا الفن للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية على الصعيدين الوطني والعالمي، يستهدف تسليط الضوء على الكثير من المشاكل التي نشأت تاريخيا بسبب جشع البشر، حيث كان الذهب معدنا وعملة ثمينة.

أما عمل «العتبة» فهو سعي إلى توضيح العلاقة المعقدة بين العوالم الداخلية والخارجية. وفي المحادثات المتعلقة بعمليتها الإبداعية، تذكر موكازانوفا تراث تنغري والثقافة البدوية، وكذلك الارتباط بمعارف الأجداد، وغالبا ما تنعكس نقاط الاتصال أو «البوابات» في أيقونية أعمالها، خاصة في سلسلة «بوساغا»، حيث تفضل موكازانوفا العمل مع وسائط ملموسة مثل الأقمشة والمواد العضوية التقليدية الكازاخية مثل اللباد الذي تصنعه بنفسها من الصوف، ووفقا للفنانة، فإن اللباد هو وسيلة تعيدها إلى جذورها، وتوضح الفنانة الكازاخية جولنور موكازانوفا: «نحن مختلفون تماما عن أجدادنا، حياتنا اليوم ليس لها أي تشابه مع حياتهم، ولكن عندما أبدأ في عملية اللباد، أشعر بالارتباط من خلال اللمس بيدي».

على الفطرة

من جانبه يبحث الفنان السعودي الدكتور سعد الهويدي في عمله «على الفطرة» عن دور وتأثير بصمة الإنسان في الدلالة على وجوده وفرادته، فهي السمة الفيزيائية والبيولوجية التي تستخدم في تحديد هويته الخاصة، حيث تعد بصمة الإصبع رمزا لحاجة الإنسان الملحة لترك أثر يدل على وجوده، لذلك يأتي العمل الفني كشعاع رأسي يدل على الطاقة الكامنة داخل الإنسان وتأثيرها المحتمل، حيث يوحي شعاع الضوء بالاتصال مع الكون من خلال العبادة الدينية والأنشطة التأملية التي تنير الروح والعقل، وترسل الطاقة إلى أماكن أبعد من المستوى الأرضي، وتمكن الإنسان من تجاوز حضوره المادي، وبالتالي بصمات أصابعه.

ويعاين عبر ممارسته الفنية، العديد من الموضوعات المتعلقة بالذاكرة والتجارب المسجلة، ويطرح تساؤلات حول أهميتها بالنسبة للمنجز الإبداعي الذي يرى بأنه أفضل وسيلة للتعبير عن أفكاره وتصوراته، والتي يعبر عنها عن طريق السرد القصصي المرئي، لمعرفة الأثر الذي تحدثه لدى المشاهد، وكيف يمكن أن ينعكس هذا الأثر على الفنان نفسه.

حدود متجاوزة

بينما يستكشف التجهيز الفني كبير الحجم ذو الوسائط الفنية المتنوعة «الحدود المتجاوزة 10» للفنانة الفلسطينية سمر حجازي الطرق التي يتشكل بها المعنى بناءً على تصوّر المشاهد في الزمان والمكان، مع تسليط الضوء أيضا على استحالة تجميع المعنى وتجسيده، وفي هذا العمل، تظهر العناصر الأساسية للتجهيز الفني معلقة من السقف ومصنوعة من خيوط مطرزة على شكل زخارف تقليدية دون استخدام القماش، كما تتدلى الزخارف جنبا إلى جنب لتكوين أنماط متكررة ومتداخلة، في حين تعلّق المواد العاكسة داخل العمل الفني وحوله لتعكس العمل نفسه وصورة المشاهد أثناء تحركه في أنحاء المساحة الفنية، إذ تعمل بنية العمل الفني وماديته على إشراك المشاهد بشكل فعال في اكتشاف الدور الذي يلعبه في إظهار تجربته وتشابكه مع خلق المعنى.

وتضيف «سمر حجازي»: ينتمي «الحدود المتجاوزة 9» إلى نفس سلسلة الحدود المتجاوزة 10 ويتبع نفس خط التساؤل بشأن كيفية إنشاء المعنى وتشكيله من خلال منظور المشاهد، باستخدام تقنيات المنسوجات والنحت والتجهيز الفني والطباعة، وتستكشف هذه الأعمال إمكانيات توسيع الحدود الداخلية لصناعة المعنى، وهي تستمد الإلهام من التقاليد الحرفية المختلفة وتستخدم عناصر مثل الضوء والظل والانعكاس والحركة لخلق تجارب غامرة متعددة الأبعاد تستكشف من خلالها طبيعة الإدراك المتغيرة باستمرار في الواقع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العمل الفنی من خلال

إقرأ أيضاً:

في ذكرى وفاته.. تعرف على أبرز المحطات الفنية للفنان عزت أبو عوف

تحل اليوم الإثنين ذكرى وفاة الفنان القدير عزت أبو عوف، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم في عام 2019، بعد صراع طويل مع المرض، رحل وترك بصمته الفنية الخاصة في كثير من الأعمال الفنية التي شارك بها، على مدار مشواره الفني.

معلومات عن عزت أبو عوف

 

ولد الفنان عزت أبو عوف في مدينة القاهرة في عام 1948، درس الطب في الجامعة، ثم تفرغ للموسيقى والعزف على الأورج، حيث انضم لفرقة "بلاك كوتس"، وأسس مع شقيقاته الأربعة فرقة "فور إم" في أواخر حقبة السبعينات.

 

ومع حلول التسعينات، اتجه عزت أبو عوف إلى التمثيل، وكانت بدايته مع المخرج خيري بشارة من خلال فيلم "آيس كريم في جليم"، ومنذ ذلك الوقت استمر في مجال التمثيل، وقدم العديد من الأدوار المتنوعة مابين السينما والدراما.

أبرز أعمال عزت أبو عوف الفنية

 

كان من أبرز الأعمال التي شارك بها الفنان عزت أبو عوف في السينما: أيس كريم في جليم، كشف المستور، حرب الفراولة، بخيت وعديلة، طيور الظلام، امرأة هزت عرش مصر، حسن اللول، عيش الغراب، إسماعيلية رايح جاي، اضحك الصورة تطلع حلوة، عبود على الحدود، أرض الخوف، سيب وأنا أسيب، هو فيه إيه، كذلك في الزمالك، الرجل الأبيض المتوسط، واحد من الناس، عمر وسلمى، مطب صناعي، الجزيرة، بوشكاش، هروب اضطراري.

 

ومن أبرز الأعمال التي شارك بها في الدراما:عفاريت عدلي علام، الأب الروحي، ألف ليلة وليلة، نيللي وشريهان، ربيع الغضب، باب الخلق، أسرار، طعم الخياة، اللهم إني صايم، العملية ميسي، رحيل مع الشمس، شيخ العرب همام، كريمة كريمة، أنا قلبي دليلي، شط إسكندرية، لحظات حرجة، عباس الأبيض في اليوم الأسود.

مقالات مشابهة

  • على اعتبار أن الفن رسالة بلغة إبداعية صامتة ..آراء متفقة للفنانين العمانيين حول حرية التعبير والقيود
  • في ذكرى وفاته.. تعرف على أبرز المحطات الفنية للفنان عزت أبو عوف
  • يسرا تواصل مسيرتها الفنية الناجحة  في ملك والشاطر
  • نغم يمني في باريس يفوز بإحدى جوائز فئات المهرجان العربي بتونس
  • منحوتتان عمانيتان في معرض «قطعة من الفن» بالكويت
  • نتيجة دبلوم تجارة.. رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2024 دور أول بوابة التعليم الفني
  • من الصدفة إلى الاحتراف.. مهند بحاري يروي رحلته مع الفن التشكيلي
  • فتح باب التقديم لمسابقة "مصر ترسم" لاكتشاف المواهب الفنية ودعم ذوي الهمم
  • «الثقافة» تعلن فتح باب التقديم لمسابقة «مصر ترسم» لاكتشاف المواهب الفنية
  • برفقة أحمد عز.. يسرا تروج لمسرحيتها الجديدة "ملك والشاطر"