جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-04@06:02:12 GMT

عام "طوفان الأقصى"

تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT

عام 'طوفان الأقصى'

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

عامٌ مضى تغيرت معه معالم العالم، ظهرت فيه صراعات جيوسياسية؛ لكن حدث مُتغيِّر هائل، يدفعنا لتسمية 2023 بأنَّه "عام طوفان الأقصى".

فما الذي حدث بالضبط؟! إنِّه تغيُّر كبير حدث في قلب الأمة ذات ظهيرة تحررية، انتفضت الشعوب ومعها أحرار العالم، أخذت المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة، أرسلت رسالتها الإيمانية إلى قوى الاستكبار، لتطرز على جبين تاريخ نضال الشعوب أعظم ملحمة، بدت وكأن وراء كل مقاوم فيها جيش أمة بأكملها، هنا والآن، ثمة شيء تغير، أيستطيع أحد ما، بعد الذي حصل أن يحل لي لغز يوم 7 أكتوبر 2023؟! سيقول أحد أنا لا أحبُّ حل الألغاز، لا أملك ثقافة النضال والمناضلين، وأنا أقول له: لا أحد يلومك، أنت طوال الوقت تعيش زمان الفوضى اللا خلاقة، تتابع ملاحم كرة القدم، وفوضى أسواق أسهم لاعبيها المشاهير، وأنا بدوري أذوي لمتابعة التغييرات الجيوسياسية وأحوال البيئة الاجتماعية، وأرقب بأعين مشدوهة، خط بيان أعداد الشهداء في غزة جراء ممارسات المحتل الصهيوني في فلسطين، أنت لا تصحو من حياة الفوضى ولهوها، وأنا أصحو صحوة الموت، ولكن، كلانا يُخفض جناح الذَّل لقوّة ما، تصنع الحدث، إن كنت ممن لا يعترف بوجودها، سيأتي آخرون يشاركونك لهو الحياة، أنا لا أنتظر شيئاً، لم أعد كحالي كما في سنوات الشباب، هذه من خسائر وحسرات الدرب، يمكنك أن تقول إنني بتُّ قليل الحركة منطوياً على نفسي، ومولعاً بكتب التاريخ أكثر من أي وقت مضى، وحماسي شديد لصلاح الدين وغيره من أبطال أمة المليار، وأقصى ما أطمح إليه اليوم أن أنعت بالكلاسيكي الذي يستثمر في كتابة الشكوى من زمان غدر بأبطالها وملاحمها في زيادة وعي أجيالها المتعاقبة.

وقبل أن أتحدث عن غزة العزة، ونعرف صمود الشعب الفلسطيني فيها، والأحداث التي تجري على أرضها اليوم، لابد أن نعرف أن زمن حدوثها عام يجدر تسميته بعام "طوفان الأقصى"، شأنه شأن أعوام كتب عنها التاريخ، حدثت فيه تغيرات عالمية، وظهرت فيه توازنات جديدة تبث الأمل بزوال الظلم عن الشعب الفلسطيني إلى الأبد، هو عام رجحت فيه كفة الحق على الباطل، وعلت به سردية الصدق على الكذب، عام 2023، نسميه بهذا الاسم نسبة إلى ملحمة طوفان الأقصى، كل هذا والعنان متروك لتخيلاتي، تمنيت لو عدت إلى عنفوان الشباب، وفجأة تذكرت شيئا آخر، وجدت عنفوان الكتابة، نفسي مشدودة إلى شيء مضى، نعم مضى، لكنه زمان يذكرني بقسوة هذا المحتل الغاشم المعتدي الآثم، فتسلمت عنان نفسي لأخوض غمار ذكريات ملاحم صلاح الدين وأبطال الأمة، لعلي أجد في ذلك سلوى لنفسي المكلومة.

كانت علاقة الأمة بالقضية الفلسطينية قبل عام طوفان الأقصى، مجرد علاقة زيادة الصادرات والواردات، ومرور خطوطها العالمية البرية والبحرية، وأشياء من هذا القبيل، على مدى سنوات انسلت من الأمة روح الثورة والتحرر، وصارت تصالحية مع عالم يتقدم بسرعة هائلة، ولكن نحو الكارثة! وترى العالم ينقسم بين الإنسان التقني والإنسان المستهلك، لا على أساس الصراع وفق الأخلاق والدين، بل وفق لعبة جديدة تقوم على المراوغة والنفاق، يديرها "مستكبر" برأس واحد، لم تكن شعوب الأمة سعيدة ولا تعيسة باللعبة هذه، وهي لا تستحق أن تكتب أو تذكر، وأتحاشى أن أشتم الزمن، هنا الزمن هو الزمن الذي نعبره إلى النهاية المحتومة، لكن لفظة زمن بعد طوفان الأقصى تأخذ دلالات جديدة، بما يحمل من احتمالات، من تناقضات، من مفاجآت.

كان الناس يتجمعون في نيل حقوقهم والتمتع بخيرات أوطانهم والانعتاق من الاستعمار البغيض، حيث تعطلت حركة التنمية في أوطانها، وتشكلت بؤرة تجمع راحت تتسع، ذكرتني بأفكار مرت على العالم حول سيطرة المستكبرين على الشعوب ومعتقداتها، الأعوام هي ذاتها التي تطالب فيها الشعوب بحريتها، شيد المستعمر نظامه العالمي ليكون صك وصاية على الشعوب المستضعفة، ورفع سعر تواجده على الأرض المستعمرة، كم أحب مجتمعات الفت مدنها وشوارعها وأزقتها الخلفية؟!، مجتمعات أعظم شيء فيها أنها بنيت على الفطرة الإنسانية، إنها لا تسحق بسطوة جمالها، ولا تنفرك بصلفها، أعتقد هكذا يجب أن يكون المجتمع العالمي، عالم يتقابل فيه المحبون للسلام، دون أن يستعبد أحد الآخر، السلام يمنح العالم رونقاً ونكهة للحياة، وجود المجتمع الفلسطيني في هذا العالم أسبق من وجود مجتمع الاستيطان الصهيوني، ولا أعرف إذا ما كان في ذلك أي مأثرة، إلا أن الفوضى أصبحت من معالم المجتمع الصهيوني الثابتة.

كانت قد اجتمعت شعوب أمة المليار على مطالب حقوقية، هي مشروعة، لكنها نسيت مطلب إزاحة آخر محتل لأطهر بقعة على وجه الأرض، تعطلت حركة القضية الأم، وتشكلت بؤرة تجمع راحت تتسع، ذكرتني بنظريات لينين، وكنت أرى في أحلام نومي وأحلام يقظتي جماهير الأمة العربية تحتشد وتنطلق هاتفة بالثورة، كنت لا أزال أردد أبيات المتنبي، وأنا اقترب من المحتشدين لأرى ماذا يجري كانت وجوه بعض الناس متحفزة،  وأخرى لا توحي بأي انفعال، وأنا توقفت إراديا عن ترديد أبيات قصيدة لوحة الزمن للمتنبي، وكنت أحاذر أن أكون جزءا من الحشود، حبي للمتنبي لن يجعلني أتزحزح قيد أنملة. لقد سكنت أبيات لوحة الزمن منذ أعوام في عقلي وقلبي، رأيت العملاق المستكبر يركب موجة مطالب تلك الشعوب الحقوقية، ينظر خلفه باستكبار، ماذا يريد هنا؟، حال تاريخه الاستعماري بيني وبين الإجابة عن ما يريد، ولم أجهد نفسي! لأتقدم إلى قلب الحدث، وأرى بنفسي عالم الضغائن كيف تتلظى به أمة المليار. تقدمت، ولم أرَ أي ردة فعل تجاه المحتل البغيض، كان ثمة رجال يوحون بماض بطولي، يستندون على عقيدة إيمانية، وباقي المحتشدين يقفون بغضب في مواجهتهم، كانوا هم صامتون ومصدومون تعلو وجوههم ابتسامة باهته وحزينة، وكان صمتهم الخالي من أي غضب، قد شجعهم على الإعداد لملحمة عظيمة، لهم رمزيتهم الخاصة، والتي قد تستفز فجأة وعند حد ما، كان الرجال ينكمشون ويتمددون وهم ينظرون في حال شعوب الأمة من حولهم، يبدو أنهم يبحثون عن وسيلة لمخاطبة العالم الحر بمظلوميتهم، لكن، بدت لهم شعوب الأمة مشغولة بمطالبها في أوطانها، تصرخ في شوارعها "الشعب يريد تغيير النظام" خلفهم العملاق المستكبر وأحلافه، كمن يعمل في حبك شيء ما؟

استطعت أن أخمن أن الفوضى في الأمة العربية قد استشرت، حول أفضلية الأنظمة، وخيل لي أن اضطرابات كبيرة يمكن أن تسود البلدان، انحاز من في الميدان إلى أحجية العملاق المستكبر الذي لعب أحجيته عن بعد متحاشياً الورطة، الحشود التي تدافعت كونت استعصاءً اجتماعيًا، أطلقت أصوات حناجرها، إلا أن أحداً لم يتذكر مطلب الأمة الأساس، خرج من فلسطين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقالوا "وا قدساه.. وا أقصاه"، لم يكترث أحد من الجموع لما قاله الرجال الذين خرجوا للنضال من أجل حق مغتصب، ما جعلهم يقومون بملحمتهم البطولية وحدهم، ورد البعض على ما قام به رجال المقاومة في فلسطين مجرد صفير، وقال آخرون معلقين على ما جرى يوم 7 أكتوبر من عام طوفان الأقصى، إنهم سبب البلاء الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني.

سمع الرجال الأبطال فحيح هؤلاء، وقابلوا ذاك الفحيح بملحمة تاريخية غيرت معالم العالم؛ إذ أعوج فم المحتل ومعه المثبطين، ثم عضوا شفاههم السفلى، لم يكن رجال المقاومة مُعتدِّين بماضي نضالهم ولا بما حققوه، ولم يخافوا من محاصريهم بل مدهوشين، يبدو أنهم أرادوا القول الفصل في تراجع الأمة لسبب ما، صرخوا في غزة العزة في وجه العالم، فليرحل المحتل الغاصب عن أرضنا، فوقفت الشعوب الحرة تأييدًا، إلّا أن العملاق المستكبر وحلفاء بني صهيون جمعوا أساطيلهم وبوارجهم الحربية، تقدموا محاولين مؤازرة كيانهم الذي صنعوه بأيديهم، واصطف خلفهم المتخلفون، حينها نظرت شعوب الأمة بغضب، جعل شيئًا غامضًا يسري في شراينها جميعًا؛ إذ راحت تراجع انفراط جمعها، وهي تتحدث بالهمس تارة والإشارة تارة أخرى، انفتح طريق الحرية في عام طوفان الأقصى، بصعود رجال المقاومة في غزة العزة سلم المجد والفخار، تاركين خلفهم زمنا بغيضا لا يروى، وأنا أيضا لن أفعل، رغم أنني لمحت فيه يوما مدخل اضطراب، بلا نبل، وبلا أفق مثل "لوحة المتنبي الشعرية".. لكن المتنبي أخطأ حين أعتقد أن الزمن سينتهي بتركه لسيف الدولة وذهابه إلى مصر، ومعاملة كافور له بغير مما كان، وكتب لوحته الشعرية عمّا فعل به الدهر.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

تعدد قضايا الأمة ووحدة الهدف: غزة تستنهض الضمير الإسلامي

يحل شهر رمضان المبارك هذا العام في أجواء قاتمة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. فبينما تعيش شعوب عديدة في أجواء الحرب والتوتر، تعاني أخرى من الاضطهاد، والقمع والاستبداد والاحتلال. وتبرز السودان كواحدة من البلدان التي أحدثت الحرب الأهلية فيها إنهاكا إنسانيا واسعا خصوصا انتشار المجاعة وتصاعد أعداد ضحايا الاقتتال بين الفئات المتصارعة. وفي الأسبوع الماضي قال السيد آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين إن جرائم بشعة ارتُكبت بحق سكان الكنابي ونازحي دارفور، مطالبا بالعدالة الدولية ومحاسبة المسؤولين.

واعتبر آدم المجازر التي وقعت في ولاية الجزيرة، خاصة بحق سكان الكنابي «انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان» قائلا إن هذه العمليات الانتقامية، التي استهدفت الأطفال وكبار السن بسبب ألوانهم وأعراقهم، ارتُكبت على يد الجيش السوداني وحلفائه من مليشيات «كتائب البراء» و«درع السودان». ويقدّر عدد ضحايا الحرب التي اندلعت في شهر أبريل /نيسان من عام 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، بحوالي عشرة آلاف إنسان، وأدت إلى نزوح أكثر من 5 ملايين شخص من مناطقهم.

أما غزّة، التي أصبحت الجرح النازف في جسد هذه الأمة، فقد استقبل أهلها حلول الشهر الفضيل بمشاعر متباينة. فهناك ابتهاج شعبي واسع بأجواء شهر رمضان المبارك، ولكن يتزامن معه شعور بالغضب لتدمير مساجدها، حتى أصبح أهلها يعيشون بين الركام الذي لم يشهد العالم له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية.

فقد ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي أبشع أساليب القصف والتدمير في غزة، مستهدفا المدنيين والبنية التحتية، بما في ذلك المساجد والكنائس العريقة التي كانت ولا تزال توثّق جزءا من ذاكرة الشعب الفلسطيني وتاريخه. وتجاوز ذلك إلى ارتكاب جرائم قتل بحق علماء الدين وأئمة المساجد. وأكّد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن 92 في المئة من الوحدات السكنية في غزة مدمرة أو متضررة. ويشير مكتب «أوتشا» في تقرير حديث إلى أن 436 ألف وحدة سكنية تأثرت بالحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزّة، حيث تم تدمير 160 ألف وحدة وتضرر 276 ألف وحدة بشكل خطير أو جزئي. وبالإضافة إلى ذلك، هناك أكثر من 1.8 مليون شخص في حاجة ماسة إلى مأوى طاريء ومستلزمات منزلية أساسية.

بينما يقول المتحدث باسم وزارة الأوقاف في قطاع غزة إكرامي المدلل إن «صواريخ الاحتلال وقنابله سوّت 738 مسجدا بالأرض، ودمرتها تدميرا كاملا من أصل نحو 1244 مسجدا، بما نسبته 79 في المئة». وتضرر 189 مسجدا بأضرار جزئية. ووصل إجرام الاحتلال إلى قصف عدد من المساجد والمصليات على رؤوس المصلين الآمنين، كما دمرت آلة العدوان الإسرائيلية 3 كنائس تدميرا كليا جميعها موجودة في مدينة غزة. ولم يبق أمام الصائمين سوى التنقل بين الخيام في هذا البرد القارس بعد أن دمرت قوات الاحتلال 60 في المئة من المباني منذ بداية العدوان. وهذا يؤكد أن القوات الإسرائيلية لم تلتزم بحدود أو أخلاق وهي تمارس عدوانها المتواصل منذ سبعة عشر شهرا بدون توقف.

وبين تلك الأكوام استرخصت قوات الاحتلال روح الإنسان، فقتلت حتى الان أكثر من 46 ألفا من سكان غزة. وهناك الان أكثر من 40 ألفا من الفلسطينيين يعيشون بدون مأوى بعد أن أجبرتهم قوات الاحتلال على ترك ديارهم في جنين وطولكرم في شمال الضفة. وتلاشت حقوق الإنسان بدون حدود.

وأكد الخبراء الحقوقيون الدوليون والسياسون الجرائم الإسرائيلية بوضوح. وقالت فرانكي برونوين ليفي مندوبة جنوب أفريقيا: «قائمة الأهوال التي لا توصف والتي ارتُكبت ضد الفلسطينيين غير مسبوقة». وأيّد الاتحاد الأوروبي دعوة التقرير إلى إجراء تحقيق مستقل، وأدان التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ولم يوفّر حماس من الإدانة. وفي الأسبوع الماضي اتهم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك «إسرائيل» بإبداء تجاهل غير مسبوق لحقوق الإنسان في عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين.

وأثناء تقديمه تقريرا جديدا عن وضع حقوق الإنسان في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف، قال تورك “لا شيء يبرر الطريقة المروّعة التي أجرت بها إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة والتي انتهكت القانون الدولي بصورة مستمرة”.

المؤسسات الدولية أصبحت مترددة في أداء دورها المطلوب. وتبدو محكمة الجنايات الدولية الجهة الدولية الأقوى القادرة على اتخاذ إجراءات رادعة بحق من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، برغم استهدافها من قبل «إسرائيل»

في هذه الأثناء لا يبدو العالم في عجلة من أمره للسعي لوقف جرائم الاحتلال بشكل فاعل. بل إن المؤسسات الدولية أصبحت مترددة في أداء دورها المطلوب. وتبدو محكمة الجنايات الدولية الجهة الدولية الأقوى القادرة على اتخاذ إجراءات رادعة بحق من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، برغم استهدافها من قبل «إسرائيل» وأمريكا معا. وفي الأسبوع الماضي قالت المحكمة الجنائية الدولية: سنواصل تحقيقا يتعلق بحرب غزة على وجه السرعة. لكن هذه السرعة لا تواكب سرعة حدوث الجرائم التي لم تتوقف، كما لا تبدو تلك التصريحات رادعة بما يكفي لمن انسلخ عن إنسانيته باستهداف أرواح البشر وارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
الواضح أن التحدّي الذي يواجه العالم اليوم لا يقتصر على التحرّك العاجل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على فلسطين وأهلها، بل يتمثل كذلك في ضرورة منع سقوط النظام السياسي الدولي الذي توافقت الدول عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

هذا النظام يقوم على آليات لضمان منع إبادة الشعوب والحدّ من العدوان، وحماية تراث المجموعات الإنسانية خصوصا الواقعة تحت الاحتلال. وقد أصبح هذا الهدف صعب المنال بعد أن أصبحت الدول الكبرى نفسها تسعى لمنع الأجهزة الدولية من أداء واجبها، سواء حماية المدنيين المحاصرين بالاحتلال، أم حماية تراثها، أم منع تعرضها لما يمكن اعتباره «إبادة». وهذا يتطلب أيضا حماية المؤسسات الدولية التي أُنشئت لمقاضاة من يخالف القانون الدولي باستهداف المدنيين أو تدمير التراث أو الانتقاص من سيادة الشعوب وحقوقها الثقافية والسياسية.

فاستهداف المدنيين بالقتل والإبادة لا يحدث من فراغ، بل يصدر القرار المرتبط به عن «جهات عليا» تكون عادة متربّعة على قمة الهرم، كرؤساء الدول والحكومات. وما يحدث من استهداف للإنسانية في المناطق الفلسطينية المحتلة إنما هو نتيجة قرارات اتخذتها حكومة الاحتلال وعلى رأسها رئيس وزرائه. وبرغم ما يبدو من صعوبة التعرّض القانوني لمسؤول كبير إلا أنه ضرورة لحماية أرواح الآخرين الذين يدفعون فواتير قراراته بأرواحهم. فلا شك أن امتلاك القوّة العسكرية والسلاح الفاعل يثير في نفوس بعض المنسلخين من الانسانية الرغبة في القتل والانتقام. وبعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن أصبح تطويع أهل فلسطين للاحتلال مستحيلا، الأمر الذي أصبح سببا لحنق زعماء الاحتلال الذين تأسس مشروعهم الاستيطاني على محو الهويّة الفلسطينية. لذلك اندفع بعضهم لارتكاب جرائم حرب واضحة. وأصبح العالم بين خيارين: الصمت على ما يجري في غزة والمخيّمات الفلسطينية أو التصدي لذلك بمقاضاة الزعماء المسؤولين عن إصدار قرارات الاعتداء والتدمير.

إن مصلحة العالم تقتضي تفعيل الآليات الدولية التي يُفترض أن تمثل الإرادة المجتمعة لدول العالم المنضوية تحت راية الأمم المتحدة. هذا التفعيل يؤكد حيوية العمل الدولي المشترك ويمثل رادعا لمن تسوّل له نفسه اختراق القانون الدولي. هذا القانون يعتبر عمود الخيمة في المشروع السياسي الذي يمثل أدنى مستويات التوافق الدولي الهادف لمنع العدوان وانتهاك حقوق البشر. وما لم تظهر الدول الكبرى بشكل خاص حماسا للمؤسسات الرقابية والقضائية الدولية، فستبقى مقولات العمل الدولي المشترك شعارات بلا مضمون. إذا لم تُستخدم هذه القوانين للتصدي لمن ينتهكها فسوف يتحول العالم إلى حالة من الفوضى والعبث، ويصبح محكوما بعقلية التنمّر.

تقرير مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك دعا إلى التحقيق في جميع الانتهاكات على نحو مستقل. ولكن ليس متوقعا أن تتعاون «إسرائيل» من خلال منظومتها القضائية مع الدعوة للمساءلة الكاملة، ومراعاة المعايير الدولية. ولم تستجب قوات الاحتلال لطلب مكتب المفوّض بالسماح له بزيارة الأراضي المحتلة والتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف.

فحكومة الاحتلال لا تجهل ما هو مسموح أو ممنوع من أساليب التعامل مع فلسطين وأهلها، وأن مسؤوليها وقواتها الأمنية والعسكرية ارتكبت ما يعتبر «جرائم ضد الإنسانية» في غزّة. فهل هناك قانون أو شرعة دولية تسمح بتدمير الأبراج السكنية على رؤوس ساكنيها؟ هل يقبل ذو عقل أو ضمير أو إنسانية تسوية مباني غزّة بالأرض بدون رأفة أو رحمة؟ ولولا التواطؤ الغربي مع الاحتلال وزعمائه لما تفاقمت معاناة أهل الأرض تحت وطأته، ولما تواصلت مِحن أهل فلسطين على مدىً تجاوز ثلاثة أرباع القرن.

إن شهر الصوم فرصة للعبادة بكافة أشكالها من انصياع مطلق للإرادة الإلهية والاستجابة لأوامره، والإنفاق على الفقراء والمعوزين وتمتين أواصر الأخوّة بين المؤمنين، والاهتمام بأوضاع الأمّة من منطلق وجوب الاهتمام بشؤون المسلمين. فلتكن قضايا الأمة حاضرة في أذهان الصائمين، وليكن مفهوم «الولاء والبراء» واضحا لديهم لكي لا تختلط الأوراق والمفاهيم والقيم. فالصوم مشروع يحقق الوحدة في الدّين والإنسانية من خلال قيم التضامن مع المحرومين واحتضان المظلومين وكسر شوكة الشيطان ورفع راية التوحيد والعبادة والأخلاق، كما قال رسول الله في خطبته حول استقبال شهر الصوم.

مقالات مشابهة

  • «طوفان الأقصى» يفضح إخفاقات جيش الاحتلال| اعترافات إسرائيلية بالفشل الأمني والعسكري في التصدي للهجوم المباغت
  • شاهد | بعد ربع قرن.. الحاج صدقي يذوق طعم الحرية في أجواء رمضان مع عائلته في الخليل
  • شاهد | الأسير الفلسطيني المحرر جلال الفقيه بعد 22 عاماً في سجون العدو يتنسم عبق الحرية بغزة
  • مكتسباتُ معركة “طوفان الأقصى”
  • تعدد قضايا الأمة ووحدة الهدف: غزة تستنهض الضمير الإسلامي
  • صنعاء.. انعقاد المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة للطوفان – أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير”
  •   صنعاء : انعقاد المؤتمر الدولي فلسطين: من النكبة للطوفان - أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير
  • مؤشرات الضعف التدريجى للذراع الأيمن لقهر الشعوب “ الإمبريالية الأمريكية”
  • طوفان الأقصى: السياسي والإيديولوجي
  • محللون: إقرار جيش إسرائيل بفشل 7 أكتوبر يطمس حقائق طوفان الأقصى