عام "طوفان الأقصى"
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
عامٌ مضى تغيرت معه معالم العالم، ظهرت فيه صراعات جيوسياسية؛ لكن حدث مُتغيِّر هائل، يدفعنا لتسمية 2023 بأنَّه "عام طوفان الأقصى".
فما الذي حدث بالضبط؟! إنِّه تغيُّر كبير حدث في قلب الأمة ذات ظهيرة تحررية، انتفضت الشعوب ومعها أحرار العالم، أخذت المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة، أرسلت رسالتها الإيمانية إلى قوى الاستكبار، لتطرز على جبين تاريخ نضال الشعوب أعظم ملحمة، بدت وكأن وراء كل مقاوم فيها جيش أمة بأكملها، هنا والآن، ثمة شيء تغير، أيستطيع أحد ما، بعد الذي حصل أن يحل لي لغز يوم 7 أكتوبر 2023؟! سيقول أحد أنا لا أحبُّ حل الألغاز، لا أملك ثقافة النضال والمناضلين، وأنا أقول له: لا أحد يلومك، أنت طوال الوقت تعيش زمان الفوضى اللا خلاقة، تتابع ملاحم كرة القدم، وفوضى أسواق أسهم لاعبيها المشاهير، وأنا بدوري أذوي لمتابعة التغييرات الجيوسياسية وأحوال البيئة الاجتماعية، وأرقب بأعين مشدوهة، خط بيان أعداد الشهداء في غزة جراء ممارسات المحتل الصهيوني في فلسطين، أنت لا تصحو من حياة الفوضى ولهوها، وأنا أصحو صحوة الموت، ولكن، كلانا يُخفض جناح الذَّل لقوّة ما، تصنع الحدث، إن كنت ممن لا يعترف بوجودها، سيأتي آخرون يشاركونك لهو الحياة، أنا لا أنتظر شيئاً، لم أعد كحالي كما في سنوات الشباب، هذه من خسائر وحسرات الدرب، يمكنك أن تقول إنني بتُّ قليل الحركة منطوياً على نفسي، ومولعاً بكتب التاريخ أكثر من أي وقت مضى، وحماسي شديد لصلاح الدين وغيره من أبطال أمة المليار، وأقصى ما أطمح إليه اليوم أن أنعت بالكلاسيكي الذي يستثمر في كتابة الشكوى من زمان غدر بأبطالها وملاحمها في زيادة وعي أجيالها المتعاقبة.
وقبل أن أتحدث عن غزة العزة، ونعرف صمود الشعب الفلسطيني فيها، والأحداث التي تجري على أرضها اليوم، لابد أن نعرف أن زمن حدوثها عام يجدر تسميته بعام "طوفان الأقصى"، شأنه شأن أعوام كتب عنها التاريخ، حدثت فيه تغيرات عالمية، وظهرت فيه توازنات جديدة تبث الأمل بزوال الظلم عن الشعب الفلسطيني إلى الأبد، هو عام رجحت فيه كفة الحق على الباطل، وعلت به سردية الصدق على الكذب، عام 2023، نسميه بهذا الاسم نسبة إلى ملحمة طوفان الأقصى، كل هذا والعنان متروك لتخيلاتي، تمنيت لو عدت إلى عنفوان الشباب، وفجأة تذكرت شيئا آخر، وجدت عنفوان الكتابة، نفسي مشدودة إلى شيء مضى، نعم مضى، لكنه زمان يذكرني بقسوة هذا المحتل الغاشم المعتدي الآثم، فتسلمت عنان نفسي لأخوض غمار ذكريات ملاحم صلاح الدين وأبطال الأمة، لعلي أجد في ذلك سلوى لنفسي المكلومة.
كانت علاقة الأمة بالقضية الفلسطينية قبل عام طوفان الأقصى، مجرد علاقة زيادة الصادرات والواردات، ومرور خطوطها العالمية البرية والبحرية، وأشياء من هذا القبيل، على مدى سنوات انسلت من الأمة روح الثورة والتحرر، وصارت تصالحية مع عالم يتقدم بسرعة هائلة، ولكن نحو الكارثة! وترى العالم ينقسم بين الإنسان التقني والإنسان المستهلك، لا على أساس الصراع وفق الأخلاق والدين، بل وفق لعبة جديدة تقوم على المراوغة والنفاق، يديرها "مستكبر" برأس واحد، لم تكن شعوب الأمة سعيدة ولا تعيسة باللعبة هذه، وهي لا تستحق أن تكتب أو تذكر، وأتحاشى أن أشتم الزمن، هنا الزمن هو الزمن الذي نعبره إلى النهاية المحتومة، لكن لفظة زمن بعد طوفان الأقصى تأخذ دلالات جديدة، بما يحمل من احتمالات، من تناقضات، من مفاجآت.
كان الناس يتجمعون في نيل حقوقهم والتمتع بخيرات أوطانهم والانعتاق من الاستعمار البغيض، حيث تعطلت حركة التنمية في أوطانها، وتشكلت بؤرة تجمع راحت تتسع، ذكرتني بأفكار مرت على العالم حول سيطرة المستكبرين على الشعوب ومعتقداتها، الأعوام هي ذاتها التي تطالب فيها الشعوب بحريتها، شيد المستعمر نظامه العالمي ليكون صك وصاية على الشعوب المستضعفة، ورفع سعر تواجده على الأرض المستعمرة، كم أحب مجتمعات الفت مدنها وشوارعها وأزقتها الخلفية؟!، مجتمعات أعظم شيء فيها أنها بنيت على الفطرة الإنسانية، إنها لا تسحق بسطوة جمالها، ولا تنفرك بصلفها، أعتقد هكذا يجب أن يكون المجتمع العالمي، عالم يتقابل فيه المحبون للسلام، دون أن يستعبد أحد الآخر، السلام يمنح العالم رونقاً ونكهة للحياة، وجود المجتمع الفلسطيني في هذا العالم أسبق من وجود مجتمع الاستيطان الصهيوني، ولا أعرف إذا ما كان في ذلك أي مأثرة، إلا أن الفوضى أصبحت من معالم المجتمع الصهيوني الثابتة.
كانت قد اجتمعت شعوب أمة المليار على مطالب حقوقية، هي مشروعة، لكنها نسيت مطلب إزاحة آخر محتل لأطهر بقعة على وجه الأرض، تعطلت حركة القضية الأم، وتشكلت بؤرة تجمع راحت تتسع، ذكرتني بنظريات لينين، وكنت أرى في أحلام نومي وأحلام يقظتي جماهير الأمة العربية تحتشد وتنطلق هاتفة بالثورة، كنت لا أزال أردد أبيات المتنبي، وأنا اقترب من المحتشدين لأرى ماذا يجري كانت وجوه بعض الناس متحفزة، وأخرى لا توحي بأي انفعال، وأنا توقفت إراديا عن ترديد أبيات قصيدة لوحة الزمن للمتنبي، وكنت أحاذر أن أكون جزءا من الحشود، حبي للمتنبي لن يجعلني أتزحزح قيد أنملة. لقد سكنت أبيات لوحة الزمن منذ أعوام في عقلي وقلبي، رأيت العملاق المستكبر يركب موجة مطالب تلك الشعوب الحقوقية، ينظر خلفه باستكبار، ماذا يريد هنا؟، حال تاريخه الاستعماري بيني وبين الإجابة عن ما يريد، ولم أجهد نفسي! لأتقدم إلى قلب الحدث، وأرى بنفسي عالم الضغائن كيف تتلظى به أمة المليار. تقدمت، ولم أرَ أي ردة فعل تجاه المحتل البغيض، كان ثمة رجال يوحون بماض بطولي، يستندون على عقيدة إيمانية، وباقي المحتشدين يقفون بغضب في مواجهتهم، كانوا هم صامتون ومصدومون تعلو وجوههم ابتسامة باهته وحزينة، وكان صمتهم الخالي من أي غضب، قد شجعهم على الإعداد لملحمة عظيمة، لهم رمزيتهم الخاصة، والتي قد تستفز فجأة وعند حد ما، كان الرجال ينكمشون ويتمددون وهم ينظرون في حال شعوب الأمة من حولهم، يبدو أنهم يبحثون عن وسيلة لمخاطبة العالم الحر بمظلوميتهم، لكن، بدت لهم شعوب الأمة مشغولة بمطالبها في أوطانها، تصرخ في شوارعها "الشعب يريد تغيير النظام" خلفهم العملاق المستكبر وأحلافه، كمن يعمل في حبك شيء ما؟
استطعت أن أخمن أن الفوضى في الأمة العربية قد استشرت، حول أفضلية الأنظمة، وخيل لي أن اضطرابات كبيرة يمكن أن تسود البلدان، انحاز من في الميدان إلى أحجية العملاق المستكبر الذي لعب أحجيته عن بعد متحاشياً الورطة، الحشود التي تدافعت كونت استعصاءً اجتماعيًا، أطلقت أصوات حناجرها، إلا أن أحداً لم يتذكر مطلب الأمة الأساس، خرج من فلسطين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقالوا "وا قدساه.. وا أقصاه"، لم يكترث أحد من الجموع لما قاله الرجال الذين خرجوا للنضال من أجل حق مغتصب، ما جعلهم يقومون بملحمتهم البطولية وحدهم، ورد البعض على ما قام به رجال المقاومة في فلسطين مجرد صفير، وقال آخرون معلقين على ما جرى يوم 7 أكتوبر من عام طوفان الأقصى، إنهم سبب البلاء الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني.
سمع الرجال الأبطال فحيح هؤلاء، وقابلوا ذاك الفحيح بملحمة تاريخية غيرت معالم العالم؛ إذ أعوج فم المحتل ومعه المثبطين، ثم عضوا شفاههم السفلى، لم يكن رجال المقاومة مُعتدِّين بماضي نضالهم ولا بما حققوه، ولم يخافوا من محاصريهم بل مدهوشين، يبدو أنهم أرادوا القول الفصل في تراجع الأمة لسبب ما، صرخوا في غزة العزة في وجه العالم، فليرحل المحتل الغاصب عن أرضنا، فوقفت الشعوب الحرة تأييدًا، إلّا أن العملاق المستكبر وحلفاء بني صهيون جمعوا أساطيلهم وبوارجهم الحربية، تقدموا محاولين مؤازرة كيانهم الذي صنعوه بأيديهم، واصطف خلفهم المتخلفون، حينها نظرت شعوب الأمة بغضب، جعل شيئًا غامضًا يسري في شراينها جميعًا؛ إذ راحت تراجع انفراط جمعها، وهي تتحدث بالهمس تارة والإشارة تارة أخرى، انفتح طريق الحرية في عام طوفان الأقصى، بصعود رجال المقاومة في غزة العزة سلم المجد والفخار، تاركين خلفهم زمنا بغيضا لا يروى، وأنا أيضا لن أفعل، رغم أنني لمحت فيه يوما مدخل اضطراب، بلا نبل، وبلا أفق مثل "لوحة المتنبي الشعرية".. لكن المتنبي أخطأ حين أعتقد أن الزمن سينتهي بتركه لسيف الدولة وذهابه إلى مصر، ومعاملة كافور له بغير مما كان، وكتب لوحته الشعرية عمّا فعل به الدهر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أنصار الله .. من الشعب وللشعب
محمد الجوهري
تحاول وسائل إعلام غربية وعربية تصوير ما يحدث في اليمن على أنه مجرد “نعرة سياسية” أو تصعيد غير محسوب، متجاهلة حقيقة راسخة في ضمير اليمنيين: أن إسناد غزة والدفاع عن شعبها المحاصر هو مطلب شعبي جامع، يتخطى الخلافات السياسية والانتماءات الحزبية. في الواقع، إنّ ما يحدث في اليمن من حراك شعبي لنصرة فلسطين يعكس وجدان الشعوب العربية قاطبة، مقابل صمت رسمي لأنظمة خاضعة للهيمنة الأمريكية وتغلف مواقفها بشعارات “حماية المصالح الوطنية”.
في المحافظات الواقعة تحت الاحتلال السعودي الإماراتي، يُمنع اليمنيون من الخروج في مسيرات تضامنية مع غزة، وتُقمع الفعاليات المؤيدة لفلسطين، رغم أنها لا تطالب سوى بأبسط معاني التضامن الإنساني. هذا الواقع دفع الآلاف إلى قطع مسافات طويلة تصل إلى مئات الكيلومترات، نحو المحافظات الحرة، فقط للمشاركة في فعالية أو مسيرة شعبية تعبّر عن انتمائهم العربي ورفضهم للصمت والتواطؤ.
إن هذا السلوك العفوي النابع من عمق الوجدان الشعبي يبرهن أن اليمنيين كغيرهم من الأحرار في العالم، لا يمكن أن يغضوا الطرف عن المظلومية المستمرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عقود. ولولا العراقيل التي تفرضها قوى الاحتلال الداخلي، لكانت اليمن من أقصاها إلى أقصاها حاضرة كل أسبوع في فعاليات داعمة لغزة، كما فعلت في أكثر من مناسبة على مدار الحرب.
أما مواقف أنصار الله المشرفة، فهي ليست وليدة لحسابات سياسية، بل امتداد طبيعي لانتمائهم لصفوف الشعب اليمني، بعيدًا عن أجندات الخارج أو المصالح الحزبية. لقد أثبتت الوقائع – وآخرها عملية “طوفان الأقصى” – أن من يدعم فلسطين فعلًا هم الشعوب الحرة وقواها المقاومة، لا الأنظمة التي تسير بتوجيهات غرف القرار في واشنطن وتل أبيب.
وموقف أنصار الله ليس استثناءً؛ بل ينسجم مع خط المقاومة في لبنان والعراق وإيران، حيث لا يزال العنوان الأهم هو “تحرير فلسطين”. وعلى الجانب الآخر، تصطف أنظمة التطبيع والقمْع العربي، المدعومة من الغرب في طابور الصمت والتبرير، في ظل قصف المستشفيات والمدارس والمساجد في غزة.
ولا عذر لمن يتخاذل عن نصرة غزة، فالخنوع بذريعة الخوف على مصالح المواطنين هو الخيانة والنفاق بذاته، فالشعوب نفسها تطالب بالتدخل ومناصرة غزة، وهي على استعداد لتحمل التكاليف، خاصة وأن عواقب التخاذل كبيرة جداً، وأولها غياب الحرية والخنوع للطواغيت، كما هو حال الشعب السعودي الذي لا يجرؤ على مناصرة المسلمين في غزة، وتقوده سلطة آل سعود إلى التطبيع مع اليهود والقبول بهم في بلاد الحرمين، رغم علمهم بأن ذلك يتعارض مع القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهكذا حال أغلب الشعوب العربية.
لقد بات واضحًا أن الموقف من فلسطين هو البوصلة الحقيقية التي تفرز الأحرار من الخانعين. فبينما تصرخ غزة من القصف، تتسابق أنظمة عربية إلى التطبيع، وتفتح أجواءها لرحلات الاحتلال، وتغلقها أمام نداءات الغوث. تلك الأنظمة لم تعد تخشى شعوبها، لأنها استبدلتهم بالقمع والدعم الغربي. ولهذا فإن واشنطن تحرص على بقائهم، لأن سقوطهم يعني عودة الشعوب الحرة إلى المشهد، وتحرير فلسطين سيكون أول خطوة في الطريق.