كم هي عظيمة أمّة مانديلا!
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
كم هي كثيرة علامات الاستفهام والتعجب لأمة العرب التي تُواصل التراجع والتدهور التاريخي، فلا حول ولا قوة لها أمام العصابة الصهيونية النازية التي تحكم إسرائيل حاليًا، وترتكب أبشع الجرائم ضد الأشقاء في غزة من النساء والأطفال والشيوخ والجميع بلا استثناء، مُسجلةً بذلك أضعافًا مضاعفة مما تعرض له اليهود من تنكيل وقتل في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، على يد الغرب المسيحي وخاصة النازية.
لذا يجدُر بالحكومات العربية- من المُحيط إلى الخليج- أن تدرك فداحة تقصيرها ونجاح غيرها من الأمم القوية والتي تملك الإرادة في رفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، فهناك من العرب من ساعد على إحكام الحصار على غزة، بينما اكتفى البعض بالمؤتمرات وبيانات الشجب والتنديد التي تعودنا عليها عبر العقود الماضية؛ فهي لا تساوي قيمة الحبر التي كُتبت به تلك الكلمات الجوفاء.
وبالفعل، عند المصائب والأزمات العظيمة، تظهر معادن النَّاس ومواقفهم الإنسانية؛ بل وشجاعتهم ونضالهم البطولي في الدفاع عن الحق ودحض الباطل، ومن هنا ندون هذه السطور لنحيِّي ونبارك ما أقدمت عليه حكومة جمهورية جنوب أفريقيا وشعبها العظيم، والتي تبعد عن فلسطين عشرات الآلاف من الأميال، لكنها سبقت كل الدول العربية في رفع قضية الإبادة الجماعية ضد دولة الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بمملكة نيذرلاند، فجرائم إسرائيل في قطاع غزة وفلسطين المحتلة مكتلمة الأركان، ونُفِّذَت أمام شاشات القنوات الفضائية مباشرة على مرأى ومسمع من العرب والعالم، وسبقها تنافس بين قادة إسرائيل بالإعلان عن قطع كامل للماء والطعام والكهرباء عن قطاع غزة؛ وبل وصف الشعب الفلسطيني بالحيوانات التي يجب إبادتها، كما قال الإرهابي المُجرم الذي يعمل وزيرا للدفاع (يوآف جالانت)، وذلك قبل العدوان البري والمذابح التي ارتكبها الجيش الصهيوني والتي أسفرت عن أكثر من 22 ألف شهيد من النساء والأطفال والشيوخ في غزة، إضافة إلى 60 ألف جريح، والآلاف ما زالوا تحت أنقاض القصف الغاشم الهمجي.
وستبدأ جلسات الاستماع العلنية في محكمة العدل الدولية يومي الخميس والجمعة المقبلين 11 و12 يناير الجاري.
لقد تكشَّفت الحقيقة المُرّة والمتمثلة في عجز وخنوع حكومات المنطقة وتخاذلها عن القيام بواجبها حول الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، بينما في المقابل لا تكف أمريكا عبر عقود عن حماية إسرائيل ومساعدتها على الإفلات من العقاب في المحاكم الدولية، وكذلك في منابر الأمم المتحدة وعلى وجه الخصوص مجلس الأمن الدولي، الذي فقد مصداقيته وتنصل من مسؤولياته الإنسانية، في ظل الفيتو الأمريكي المُلطّخ بدماء الأبرياء في مختلف الصراعات العالمية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وتكون طرفًا في ارتكاب جرائمها المُستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
لا شك أنَّ هذه الأمة الخالدة- التي أنجبت المناضل نيلسون مانديلا الذي أمضى 27 سنة في سجون نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا الذي كان مسيطرًا على البلاد ومُشكِّلًا حكومة من الأقلية البيضاء من بقايا الاستعمار الأوروبي على البلاد، ومطبقًا سياسة ما يعرف (Apartheid Regime) ضد السكان الأصليين من السود- ليس بغريب عليها أن تتخذ مواقف مُشرِّفة وتسبق الدول العربية مجتمعة في نيل هذا الشريف العظيم.
الجميع يعلم أنه كانت هناك علاقات قوية وتعاون عسكري بين النظامين العنصريين في جنوب أفريقيا والكيان الصهيوني، وعندما خرج الزعيم مانديلا من المعتقل وتولى منصب رئاسة الجمهورية، دعا إلى إقامة الدولة الفلسطينية ومساندة نضال الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وعند وفاته في 2013 نعت حركة حماس الزعيم مانديلا واعتبرته أحد رموز الحرية في العالم وأشادت بمسيرته النضالية ضد التفرقة العنصرية.
ومن المفارقات العجيبة أن تحتفظ بعض الدول العربية بعلاقات دبلوماسية مع هذا الكيان الغاصب والذي ارتكب مذابح تقشعر لها الأبدان، بينما تغلق جنوب أفريقيا سفارة تل أبيب في بريتوريا، ذلك بعد التصويت في البرلمان على تعليق العلاقات مع هذه الدولة المارقة الذي تفتقد للشرعية. كما سبق لجمهورية جنوب أفريقيا وجيبوتي وبنجلاديش وجزر القمر وبوليفيا أن تقدمت بطلب للمحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق عاجل حول الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة. وهنا نوضح الفارق بين المحكمتين الدوليتين هو أن المحكمة الجنائية تختص بسلطة محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب مثل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، بينما سلطة محكمة العدل تتمحور حول النزاعات القانونية بين الدول، وكذلك جرائم الإبادة الجماعية مثل التي تحدث حاليًا في فلسطين المحتلة.
وفي الختام.. سيأتي اليوم الذي تنكشف فيه الحقيقة، فيندم كل من تخلّى عن نصرة الحق وتنازل عن المقدسات في سبيل تحقيق أهداف مادية رخيصة في هذه الدنيا الفانية، لينطبق عليه قول المولى جل في عُلاه: "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج: 46).
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك