لجريدة عمان:
2024-07-06@02:59:56 GMT

مرفأ قراءة... «سيد الوقت» في ربوع الفنون والآداب

تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT

مرفأ قراءة... «سيد الوقت» في ربوع الفنون والآداب

- 1 -

... واستكمالًا لمتعة الاستماع إلى كاتب كبير وأديب مبدع ذي تاريخ حقيقي بقيمة إبراهيم عبد المجيد الذي احتفلنا بعيد ميلاده الحادي والثمانين في ديسمبر الماضي، مد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية، وأمتعنا بإبداعاته ومطالعاته وجولاته التي لا نظير لها في ربوع الآداب والفنون والفكر والثقافات المختلفة، والكتب والشخصيات، نتوقف اليوم عند أحدث مكاشفاته واستبصاراته ومتابعاته الدقيقة المركزة في كتابه الأخير «سيد الوقت وكل وقت في الأدب والفن والجمال».

وهذا الكتاب الذي يقع في ما يزيد على 350 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عن منشورات إيبيدي 2023، يكاد يشكل موسوعة مصغرة مكثفة مقطرة لكل ما استنشقه إبراهيم عبد المجيد من رحيق الكتابة والأدب والفن والسيرة، والكتابة عن شخصيات عرفها وأحبها أو قرأ لها وتأثر بها، أو أفاد منها على مستوى من المستويات، لكنه في النهاية عبَّر عن مشاعر الامتنان أو التقدير أو القراءة في هذه الصفحات التي أفردها لكل شخصية (في الغالب تكون من أصحاب الإبداع المعروفة على مستوى العالم العربي في نصف القرن الأخير).

- 2 -

يمثل كتاب «سيد الوقت» حلقة بالغة الأهمية في سلسلة الكتب التي عكف إبراهيم عبد المجيد على إخراجها في السنوات العشر الأخيرة، إنها كتبٌ بمثابة عطاءات سخية لكاتبٍ كبير تفرغ في السنوات الأخيرة بالكامل للقراءة والكتابة والإبداع ولا شيء آخر.

يمضي يومه، كما قال لي مرارا وحكى كثيرا، بين قراءة الكتب والأعمال الأدبية والفكرية وما يصله من إهداءات الأصدقاء، وهو كثير جدا من مصر وخارجها، وبين مشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى ومتابعة الأخبار التي لا تجلب سوى الكآبة والحزن، ويكون لا مفر منها سوى بالعودة السريعة إلى مطالعة الكتب ومشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى.. وهكذا!

وبموازاة الكتابة الإبداعية الخالصة التي تفصح عن نفسها بروايةٍ جديدة في العام الواحد أو كل عامين، لا يكف عبد المجيد عن الكتابة الدورية الأسبوعية في زاويته المحددة في الصحف والمواقع التي ينشر بها بانتظام، سواء في مصر أو خارجها، وهي تمثل "النافذة" أو "الواحة المشرقة" التي يطل بها عبد المجيد على قرائه ومحبيه ومتابعيه فيقدم لهم "خلاصات" و"إضاءات" و"قراءات" و"مراجعات" قيمة وثمينة، ومنها ما يمثل "شهادة ميلاد إبداعية" أو "شهادة ميلاد نقدية" لمن يكتب عنهم، ويقدمهم للرأي العام الثقافي، ودوائر التلقي والقراءة والاستجابة في العالم العربي كله.

- 3 -

إنه الدور ذاته الذي كان يمارسه كبار الكتاب المبدعين من الأجيال السابقة، الرائدة النهضوية، طه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات، والعقاد.. وغيرهم.

وماذا كان يفعل العظيم يحيى حقي في مجلة (المجلة) التي رأس تحريرها في الستينيات وكانت منبرا لاكتشاف المواهب الطليعية المبدعة في القصة أو في الكتابة الدورية الأسبوعية والشهرية عن إبداعات وروايات وقصص ومسرحيات وكتب نقدية وعروض مسرحية وفنية، وكلنا وقعنا في غرام عناوين الكتب التي ضمت هذه الخلاصة الثمينة «عطر الأحباب»، و«أنشودة للبساطة»، و«الفراغ الشاغر».. إلخ.

أنا أرى أن إبراهيم عبد المجيد في سلسلة كتبه هذه التي اقتربت من العشر تقريبًا تلعب نفس الدور الذي لعبته كتب يحيى حقي التي ما زلنا نقرأها ونستكشف جمالها وقيمتها، إنها شهادة مبدع صاحب تاريخ، وتاريخ أدبي مواز للتواريخ الرسمية والسرديات المعتمدة! ففي كل مقال يكتبه أو فصل يدونه في واحد من هذه الكتب يصور عبد المجيد قطعة من الواقع والتاريخ سواء قصد إلى ذلك أم لم يقصد!

المنهج واحد في «سيد الوقت» (2023)، وفي «استراحة بين الكتب» (2022)، وفي «الأيام الحلوة فقط ـ سيرة مع الأدباء» (2020)، وفي «رسائل إلى لا أحد» (2022)، و«حاولت أن أنظر حولي وأمامي» (2022)، وفي كتابه الأخير (عن الدار المصرية اللبنانية) الصادر قبل أشهر قليلة..

فيها كلها وفي غيرها مما يشبهها، رغم اختلاف الموضوعات والقضايا التي يكتب عنها، والكتب التي يقرأها والشخصيات التي يعاينها، لكنك فيها جميعًا ستجد نفسك في رحلة روحية وعقلية مع أفكار وإبداع وقضايا فكرية وإنسانية، ومع إبراهيم عبد المجيد ذاته الذي يقول "أنا الذي عاصرت البلاد في فرحها ومحنتها، ورأيت أجيالا من المفكرين والكتاب والفنانين تركوا في فضاء الوطن راياتٍ من الجمال بما كتبوه أو أبدعوه في الرواية، والفن التشكيلي، والسينما، والمسرح، والصحافة. هؤلاء الذين عشت بهم مؤمنًا أن الوطن يستحق الحياة، ليس لأنه أرض أعيش عليها أو وُلِدتُ فيها فقط، لكن لأن في فضائه هذه العقول والأرواح".

- 4 -

بهذا الحس الإنساني والوطني والجمالي (ولا أتردد أيضًا في وصفه بالأخلاقي لا بالمعنى الجامد أو المحافظ بل بمعنى وعي المسؤولية، وإدراك معنى تكريس القيمة) يقرأ إبراهيم عبد المجيد الكتب والروايات، ويشاهد اللوحات والأفلام والمسرحيات (إن وجدت) ويستمع إلى الموسيقى والسيمفونيات، والمقطوعات الموسيقية المتنوعة، والعروض الفنية الراقصة أو التعبيرية أو غيرها، إنه في النهاية يمارس فعل "المقاومة" النبيل في حدود القدرة والطاقة والجهد!

ولهذا فإنه سيبتدرنا في مقدمة كتابه «سيد الوقت» بهذا الدفاع الاستباقي:

"لا تقل لي -إذن- لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه من تراجع في الاقتصاد والتعليم، وغيره، لأنك ستعرف ذلك وأنت تقرأ حين ترى أمامك عقولًا وأرواحًا عظيمة، فتدرك أن السياسة والساسة لا يرون ما حولهم من جمال، وهذه محنة البلاد. بل كثيرون من أصحاب الجمال عرفوا سجون الساسة وتعسفهم، لكني لا أريد أن أفسد الجمال بالحديث عن ذلك".

إنه يعي تماما دوره ككاتب مهموم ومنخرط في هموم وقضايا وطنه وأمته، بل إنه من أكثر الناس رهافة وامتلاكا للترمومتر الذي يقيس به حرارة مجتمعه، ولديه ما يشبه المقياس الطبيعي لمدى سلامة أو اعتلال هذا المجتمع وهذه الأمة. وبالتالي فلا عجب أن يكون القسم الأول من الكتاب بأكمله مخصصا لقضية القضايا "من يحمي الإبداع؟" هذه القضية التي تتفرع عنها كل مشكلاتنا الأزلية والمزمنة حول الحرية وحق التعبير والتعددية ومواجهة الفكر بالفكر والإبداع بالإبداع، هذا القسم وحده يستحق قراءة خاصة وتأملية ودقيقة لأخطر ما مسه إبراهيم عبد المجيد من خطوط ومساحات شائكة وملتبسة بل هي في نظر البعض "خطرة جدا" أيضًا!

- 5 -

وهو على موقفه دائما، لا يخشى ولا يخاف، وهو لا يبخل لا بالنصح ولا بالرأي ولا بالإشارة ولا المشورة، حتى لو كان يعلم أنه لا يوجد من يسمع ولا يقبل بالنصيحة ولا يرضى بالنصح ولا يعترف بمبدأ "لا خاب من استشار".. ما علينا فكلُّ هذا من آفات هذا الزمان، فلندع الآفة ولنبحث عن "الغافة" التي تظلل وتمنح الراحة والأمان!

يوجه إبراهيم عبد المجيد نداءه إلى قارئه الذي يخاطبه ويبحث عنه ويقدره يقول له تعال لندر ظهورنا إلى القبح القبيح والفوضى العارمة، تعال لنبحث عن الجمال والفن والإبداع، تعال لنجول معا بين رياض الفكر وبساتين الأدب وأروقة المشائين وأعمدة المجاورين وحلقات الدرس والبحث للمتحلقين بحثا عن المعرفة وطرحًا للسؤال واجتلابًا للأمل والتشبث به، وهل نملك غيره لنتشبث به بكل ما أوتينا من قوة؟!

إذن، وكما يقول «سيد الوقت» في ختام تقديمه "أتركك أفضل مع قضايا الإبداع ومن يحميه، وأمثلة من أهم مظاهره في المسرح والسينما والغناء والشعر والرواية، وما تشاء من جمال أشبه بأساطير في سفينة فوق بحر متلاطم الموج تمضي فيه السفينة في رحلة اغتراب بحثًا عن وطن. ستجد شيئًا من المراثي لعظماء عرفتهم، وشيئًا من الفرح والألم مما مر عليّ في السنوات الأخيرة، لكنه لا يشغل مساحة كبيرة. المساحة الأكبر هي للأرواح والأفكار العظيمة. كيف رأيتها؟ وكيف كانت أعظم أسباب استمراري في الحياة.. .

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إبراهیم عبد المجید سید الوقت

إقرأ أيضاً:

ما قبل الغرب.. صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي.. قراءة في كتاب

الكتاب: Before the West: The Rise and Fall of Eastern World Orders
By Ayse Zarakol
Cambridge University Press, 2022, 314 pp


تقدم الباحثة التركية عائشة زاراكول، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج، في كتابها المعنون "قبل الغرب: صعود أنظمة العالم الشرقي وسقوطها" الصادر عام 2022 عن دار جامعة كامبريدج البريطانية، سردية جديدة لنشوء النظام العالمي بخلاف السردية الغربية القائمة على المركزية الأوروبية لهذا النظام. فهو يقدم تاريخاً عالمياً بديلاً للعلاقات الدولية يركز على أوراسيا، حيث تعيد الباحثة صياغة نظرية السيادة والنظام والتراجع من منظور عالمي.

تستخدم عائشة زاراكول تاريخ الإمبراطورية المغولية لإعادة التفكير في المفاهيم الأساسية للنظام الدولي وتاريخ العلاقات الدولية. الكتاب يتحدى المركزية الأوروبية من خلال فحص آسيا وترابطها ببقية أوراسيا، وهو يرفض الأعمال المركزية التي تعامل المغول على أنهم "برابرة"، حيث تضع المؤلفة الإمبراطورية المغولية موضع التحليل وتؤكد على الدرجة العالية من المركزية في نموذج السيادة الجنكيزيدية (نسبة إلى الحاكم المغولي جنكيز خان).

توضح زاراكول في كتابها كيف "أصبحت آسيا كاملة لأول مرة" من خلال غزو جنكيز خان للعالم. تقلب بعض الأفكار الرئيسية التي وردت عن العلاقات الدولية الأكاديمية رأساً على عقب. ففي رأيها، شكّلت، وقبل وقت طويل من تشكيل النظام العالمي الحديث من قبل الغرب الصاعد، إمبراطوريات الشرق الكبرى أنظمة عالمية خاصة بها، تستند على السيادة الإقليمية والعالمية في تطلعاتها. من خلال رسم المسارات التاريخية لهذه الأنظمة عبر خمسة قرون، تشجعنا الكاتبة على مراجعة تقييماتنا للنظام الدولي وخاصة تلك المتعلقة بصعود وسقوط الأنظمة العالمية. على هذا النحو، يعد هذا الكتاب مساهمة لا تقدر بثمن في دراسة العلاقات الدولية في سياق عالمي.

تعيد الكاتبة ببراعة توجيه التركيز الأوروبي المركزي في دراسة العلاقات الدولية من خلال دراسة العلاقات بين الجهات الفاعلة الآسيوية في حد ذاتها، بدلاً من كونها مشتقة من التفاعل الأوروبي الآسيوي. إنها تسلّط الضوء على تأثير المفاهيم الجنكيزية (نسبة إلى جنكيزخان) للسيادة والنظام العالميين.
"هذا الكتاب العبقري يفعل بالنسبة للعلاقات الدولية ما فعله مارشال هودجسون لتاريخ الاقتصاد العالمي. فالكاتبة تكشف ببراعة عن عالم العلاقات الدولية الذي كان موجوداً قبل عالم أوروبا الوستفالية، والذي كان مغموراً لفترة طويلة خلف جدار المركزية الأوروبية."
تظهر زاراكول مدى تشكيل تاريخ العالم، حتى عصرنا الحديث، من خلال نمط المغول المتمثل في السيادة الأرستقراطية شديدة المركزية. فهي تقدم تاريخاً كلياً لصعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي التي تتحدى بقوة التاريخ التقليدي للعلاقات الدولية. بالإضافة إلى تقديم حجة مقنعة لفصل صعود وانحدار القوى العظمى عن صعود وانحدار الأنظمة العالمية، تقدم زاراكول تفسيراً بارعاً لـ"انحدار الشرق". يمزج عملها المميز بين التاريخ ونظرية العلاقات الدولية.

وبحسب تعبير الأستاذ جون هوبسون فإن "هذا الكتاب العبقري يفعل بالنسبة للعلاقات الدولية ما فعله مارشال هودجسون لتاريخ الاقتصاد العالمي. فالكاتبة تكشف ببراعة عن عالم العلاقات الدولية الذي كان موجوداً قبل عالم أوروبا الوستفالية، والذي كان مغموراً لفترة طويلة خلف جدار المركزية الأوروبية."

كم عمر العالم الحديث؟ يميل علماء العلاقات الدولية إلى تأريخ بداية مجال دراستهم منذ حوالي 500 عام، عندما بدأت حفنة من الدول في أوروبا الغربية في إنشاء مستعمرات في إفريقيا وآسيا والأميركيتين. من وجهة نظرهم، فإن التحولات التي أطلقها الاستعمار الأوروبي جعلت العالم على ما هو عليه اليوم. وكذلك فعلت اتفاقية سلام ويستفاليا عام 1648، وهما معاهدتان وقعتهما القوى الأوروبية المتناحرة والتي أنهت سلسلة من الحروب الدموية. كانت تلك هي اللحظة التي بدأت فيها العلاقات الدولية بالفعل. بفضل هذه التسوية، وافقت الدول رسمياً لأول مرة على الاحترام المتبادل للسيادة على الأراضي المحددة، مما وضع الأساس لـ"النظام الوستفالي" الملزم لعالم مقسّم إلى دول قومية ذات سيادة.

لا تزال هذه النظرة الأوروبية تجاه الماضي تشكل الطريقة التي يرى بها معظم علماء العلاقات الدولية العالم. عند البحث عن التاريخ ذي الصلة بأحداث العالم اليوم، نادراً ما ينظر المؤرخون والباحثون إلى ما وراء النظام العالمي الأوروبي الذي تم بناؤه بعد عام 1500. بل يعتقدون أن السياسة لم تحدث على نطاق عالمي قبل ذلك. وبما أن الدول خارج أوروبا لم تلتزم بمبادئ ويستفاليا، اعتبر علماء العلاقات الدولية أن مساحات شاسعة من التاريخ غير ذات صلة إلى حد كبير بفهم السياسة الحديثة.

إن التركيز الحصري على عالم يهيمن فيه الأوروبيون المسلحون بالبنادق والمدافع على الشعوب المختلفة التي واجهوها، يغيّب الكثير مما حدث خارج أوروبا وخارج الأماكن التي استعمرها الأوروبيون. هذا التركيز يقرأ التاريخ ابتداء من أسبقية الغرب، كما لو أن كل ما حدث من قبل أدى حتما إلى هيمنة حفنة من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية. كشف صعود قوى غير غربية، مثل الصين والهند واليابان في العقود الأخيرة، عن مدى تضليل مثل هذا النهج.

تقترح عائشة زاراكول طريقة بارعة للخروج من هذا المأزق الفكري. فهي تنظر في تجربة الإمبراطوريات غير الغربية السابقة التي سعت إلى إنشاء أنظمة عالمية. القيام بذلك يجعل من الممكن تقديم تاريخ جديد للعلاقات الدولية يتجاوز النظام الوستفالي. تكشف دراستها عن الطرق الواضحة التي تفاعلت بها الأنظمة السياسية في الأجزاء غير الغربية من العالم مع بعضها البعض في الماضي، لتشكيل كيفية فهم القادة السياسيين المعاصرين للنظام الدولي اليوم.

تتحدى زاراكول الرأي القائل بأن النظام الدولي الحديث بدأ عام 1648 بصلح ويستفاليا. بدلاً من ذلك، اقترحت بديلاً يرجع تاريخه إلى بداية النظام العالمي الحديث إلى عام 1206، عندما كان جنكيز خان حاكماً معروفاً لجميع شعوب السهوب الأوراسية. اختارت الباحثة التركيز على "النظام الجنكيزي" الذي أنشأه هو وخلفاؤه المتنوعون.

ابتداءً من القرن الثالث عشر تحت حكم جنكيز خان وخلفائه، أنشأ المغول أكبر إمبراطورية متجاورة في العالم، والتي امتدت عبر السهوب من المجر في الشرق إلى الصين في الغرب. كان جنكيز خان يطمح إلى حكم العالم بأسره، وأقام علاقات دبلوماسية مع جيرانه على هذا الأساس. لم يتمكن أي من خلفائه من السيطرة على مساحة كبيرة، ولكن مع أخذ المغول كنموذج لهم، فإن خلفاءه خلقوا كلاً من إمبراطوريات مينغ، موغال، الصفويين، والتيموريين على التوالي في الصين الحالية والهند وإيران وأوزبكستان.

الأهم بالنسبة للعلاقات الدولية الحديثة اليوم، أن الشعوب التي تعيش الآن في الإمبراطورية المغولية السابقة تدرك تماماً هذا الماضي، كما يتضح من طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تقدم الكاتبة دليلاً مفاده أن أباطرة مينغ الصينيين المفترضين الذين أطاحوا بسلالة يوان المغولية كانوا في الواقع "ملوكاً جنكيزيين"، إلى جانب التيموريين المعاصرين في غرب آسيا.

إن مقاربة زاراكول القائمة على التركيز على المغول قد سمحت لها بالانفصال عن الاتفاقيات الأوروبية للتاريخ الدبلوماسي والدولي بطرق مثيرة. عبر اهتمامها بالأنظمة السياسية الآسيوية، فهي لا تفترض أن تفاعل هذه الأنظمة مع الممثلين الأوروبيين كان أكثر أهمية من علاقاتها مع بعضها البعض. كما أن الباحثة لا ترتكب خطأ افتراض أن القوى الآسيوية السابقة كانت قوى إقليمية فقط. كان جنكيز خان وخلفاؤه يتطلعون إلى حكم العالم كما عرفوه. صحيح أنهم لم ينجحوا، كما لم تنجح في ذلك أية قوة أوروبية، لكنهم قادوا جيوشاً مترامية الأطراف مدعومة بالمحاربين الخيالين وأسسوا إمبراطوريات انخرطت في الدبلوماسية مع العديد من الجيران ومع دول بعيدة عن السهوب الأوراسية. وكان ذلك نموذجاً دائماً للحكام الآسيويين اللاحقين.

استمر نظام الجنكيزيين، كما تصفه زاراكول، لنحو 500 عام (أطول من نظيره في ويستفاليا حتى الآن) وكانت له ثلاث مراحل مختلفة. كانت الأولى من حوالي عام 1200 إلى عام 1400 ميلادية. وهي تضم كلاً من إمبراطورية المغول الموحدة التي حكمها في البداية جنكيز خان. وبعد تفكك الإمبراطورية في عام 1260، كانت الدول التي خلفتها في العصر الحديث هي الصين وإيران وروسيا وأوكرانيا وآسيا الوسطى. اعتنق لاحقاً حكام الدول الغربية الثلاث الإسلام، بينما دعم كوبلاي خان، حاكم الربع الشرقي في الصين ومنغوليا الحديثة، البوذية والطاوية والكونفوشيوسية.

إن التركيز الحصري على عالم يهيمن فيه الأوروبيون المسلحون بالبنادق والمدافع على الشعوب المختلفة التي واجهوها، يغيّب الكثير مما حدث خارج أوروبا وخارج الأماكن التي استعمرها الأوروبيون. هذا التركيز يقرأ التاريخ ابتداء من أسبقية الغرب، كما لو أن كل ما حدث من قبل أدى حتما إلى هيمنة حفنة من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية. كشف صعود قوى غير غربية، مثل الصين والهند واليابان في العقود الأخيرة، عن مدى تضليل مثل هذا النهج.كان التعايش السلمي بين هذه الأرباع في القرن الرابع عشر بمثابة "بداية العلاقات الدولية الحديثة... عندما تغلبت مصلحة الدولة العقلانية على الانتماء الديني". ترى زاراكول أن الانتماء الديني كان في الغالب متشابكاً مع "مصالح الدولة العقلانية" في الأنظمة السياسية أنذاك. إن اختيار الحاكم لأي دين لرعيته هو الذي حدد إلى حد كبير اختيار حلفائه السياسيين.

يتألف النظام العالمي الثاني للجنكيزيين من الإمبراطورية التيمورية لتيمور (المعروف كذلك باسم تيمورلنك)، الذي عاش من عام 1336 إلى عام 1405، وسلالة مينغ في الصين، التي حكمت من عام 1368 إلى عام 1644. صاغ تيمور دولته على غرار حالة جنكيز خان بل وتزوج إحدى حفيداته لتعزيز ارتباطه بالخان العظيم. في تناقض حاد، ركز حكام سلالة مينغ في الصين كل مواردهم على هزيمة مختلف الأعداء المغول والأتراك (بمن في ذلك قوات تيمور). ومع ذلك، كان أباطرة مينغ يأملون في ترسيخ أنفسهم خلفاء لإمبراطورية المغول البرية، وأرسلوا أسطولاً من سفن الكنوز على متنها 28000 رجل حتى شرق إفريقيا لعرض قوتهم أمام العالم. على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم عن المغول، كان كل من تيمور وأباطرة أسرة مينغ الأوائل يتطلعون جميعاً إلى حكم إمبراطوريات كبيرة مثل إمبراطورية جنكيز خان.

بحسب زاراكول، شمل النظام العالمي الثالث الملوك الألفيين للمغول)الترك) والعثمانيين والصفويين. مع عدم وجود روابط عائلية مع المغول، لم يكن هؤلاء الحكام صريحين على غرار جنكيز خان، لكنهم كانوا كلهم يأملون في حكم العالم. لقد نجحوا في تسخير قوة المحاربين الفرسان لغزو مساحات شاسعة من الأراضي في الهند الحديثة وتركيا وإيران على التتالي، وشكلت إمبراطورياتهم جميعها منافسة جادة للقوى الاستعمارية الأوروبية.

على مدى خمسة قرون، تشترك هذه الدول الجنكيزية في بعض السمات الرئيسية. بدلاً من اختيار حاكمهم عن طريق اختيار الإبن البكر لخلافة أبيه، كما فعلت العديد من القوى الأوروبية، اختاروا حكاماً جدداً من خلال نظام "تانيستري"، وهو مصطلح (مستعار من الممارسات التاريخية لقبائل سلتيك في الجزر البريطانية) يعني أن أفضل فرد مؤهل يجب أن يحكم الجماعة بعد وفاة القائد. على الرغم من أن هذا يبدو ديمقراطياً بشكل غامض، إلا أنه لم يكن كذلك. فمن الناحية العملية، كان هذا يعني أن أي شخص يسعى للسلطة يجب أن ينتصر في حرب عنيفة يمكن أن تستمر لسنوات قبل أن يجتمع جميع المحاربين للتهليل لزعيم جديد. اعتقد المغول أن الجنة، أو الكون قد اختار المنتصر النهائي في صراعات الخلافة هذه، وفي جهودهم لفهم الجنة بشكل أفضل، دعا حكام الجنكيز علماء الفلك الأجانب لزيارة دواوينهم وقاموا بتمويل ببناء مراصد ضخمة.

وبحسب زاراكول، فإن الحكام الجنكيزيين عبر القرون شاركوا "رؤية خاصة للعالم بأسره" وأنشأوا وعدّلوا وأعادوا إنتاج "مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية". تلفت الباحثة زاراكول انتباه علماء العلاقات الدولية إلى هذه الرؤية، متخطية الرؤية الأوروبية للعلاقات الدولية من خلال دراسة الجهات الفاعلة، وتحديداً الدول الموجودة في العصر الحديث، الصين والهند وإيران وروسيا وأوزبكستان، التي طمحت إلى إنشاء إمبراطوريات عالمية مثيرة للإعجاب مثل إمبراطوريات المغول.

من خلال الحصول على روايات سابقة تقتصر على بلد واحد أو عرق أو دين واحد، تشرح الكاتبة كيف تفاعل حكام مختلفون في آسيا مع بعضهم البعض وفي هذه العملية أنشأوا نظاماً دبلوماسياً مشابهاً للنظام الوستفالي.

خمسة قرون هي فترة زمنية طويلة تتم تغطيتها في كتاب "ما قبل الغرب" حيث تسرد الكاتبة الأحداث الرئيسية للعديد من السلالات وتشرح سبب تأهلهم (أو عدم اعتبارهم) كجنكيزيين.

* رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت

مقالات مشابهة

  • رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يحل بملعب “5 جويلية” لحضور نهائي الكأس
  • «تجنب الاقتراب منه».. سر انتشار العقارب داخل الكتب القديمة
  • كيف صاغ حكام مصر ومفكروها هويتها الوطنية؟ قراءة في كتاب
  • الرحّالة الإماراتي عدنان النخلاني في ربوع الأردن
  • ما قبل الغرب.. صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي.. قراءة في كتاب
  • دار الكتب والوثائق تحتفل بذكرى «30 يونيو» (صور)
  • التفاعل المُعقَّد بين الأدب والعلم والنظام الرأسمالي
  • من هو وزير الدفاع المصري الجديد الذي عينه السيسي في اللحظات الأخيرة؟ (فيديو)
  • من هو وزير الدفاع المصري الجديد الذي عينه السيسي في اللحظات الأخيرة؟
  • إدارة مرفأ بيروت عقدت اجتماعاً فنياً بشأن نتائج وإجراءات تقريرين يتعلقان بتقييم الأمن والمخاطر الصناعية