أحمد عثمان عمر يعيد انتاج سرير بروكست (Procrustes)
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
الصديق الدكتور أحمد عثمان عمر يعيدنا مشكورا الي عهد الاساطير الاغريقية، فها هو يعيد انتاج اسطورة سرير بروكرست (Procrustean bed) اليونانية، ويطبقها على واقعنا السياسي الراهن. ويقدم رؤية عدمية للصراع السياسي في السودان، وجهود إيجاد اختراق لإيقاف الحرب. رؤية تبني على منهج ابيض او اسود، على نحن وهم، كل شيء أو لاشئ.
تقول الأسطورة اليونانية ان بروكرس كان حدادا ماهرا وقاطع طريق. وكان يملك سريرا حديديا صنعه بنفسه. يقوم بروكرست بدعوة أي مسافر ليحسن ضيافته، ويصر عليه ان يبيت معه، ويدعوه الى النوم في هذا السرير. وكان بروكرست مهووسا بأهمية ان يناسب طول الضيف السرير. وكان يتسلل بعد ان ينام الضيف. فاذا كان الضيف أطول من السرير قام قطع أرجله ليتناسب مع السرير. وإذا كان أقصر من السرير، مط جسم الضحية حتى تتكسر مفاصله، ويساوي جسمه السرير بالضبط. ولم يكن لاحد ان ينجو من هذا المصير المرعب، الا من وافق طوله مقاس السرير.
أن هذه الشخصية الميثولوجية هي مثال رائع على من يعتبر أن مقاييسه الشخصية وافكاره وقناعاته هي الأفضل للكون، بينما المختلفين عنه مجرد أشياء لا فائدة منها، ويجب إزالتها.
ولديهم في أذهانهم سرير بروكرست، ولا يقبلون أي شخص كما هو، بل يبادرون إلى حشره بالقوة في صورة يصنعونها له ويتخلصون مما لا يوافقهم. لهذا يجب علينا أن نقذف بهذا السرير خارج أذهاننا ونعلم أن للناس مقاسات وعقول ورؤى مختلفة، وألا نحشرهم في قالب نصنعه حسب هوانا ثم نلومهم أذا خالفوه.
هناك مغالطة سرير بروكرست (Procrustean bed)، ويطلق عليها لفظ البروكرستية وتعبر عن أي نزعة إلى «فرض قوالب» جبرية على الأشياء (الأشخاص أو الأفكار..) أو ليّ الحقائق أو تشويه المعطيات، وأن نفرض حقيقة ثم نبحث عما يدعمها، ونفسر المعطيات بما يطابق افتراضاتنا، لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق.
الآن يعمل الصديق العزيز احمد على حشر شعبنا، بكل تنوعه، في سرير التغيير الجذري. ويقوم بإزالة كل الأفكار الأخرى والتيارات الأخرى، والتنظيمات الأخرى، من المجال العام في بلادنا. وان يصبح الرأي الواحد الأحد هو السائد. ألم نقرأ عن التجربة السوفيتية، حيث كان الحزب الشيوعي هو الكل في الكل. وحتى داخل الحزب هناك رأي واحد هو رأي السكرتير العام، ولا رأي غيره.
وجهت تقدم الدعوة الى قائد الجيش وقائد الدعم السريع لاجتماع لمناقشة إمكانية إيجاد اختراق لإيقاف الحرب المدمرة. لم يرد قائد الجيش، ولكن قائد الدعم السريع رد بالقبول. هل بمنطق أحمد عثمان أن نرفض اللقاء، والدعم السريع طرف أساسي في الحرب. وهل، في أي مكان في هذا العالم الذي نعيش فيه، تم إيقاف حرب بدون مشاركة الأطراف المتحاربة. وما يثير الانتباه ان د. أحمد عثمان في كل مقالاته لا يوضح لنا كيف ننهي الحرب مع شعار لا تفاوض. وكيف نحل الدعم السريع الذي اثبت في ميدان المعارك ان أقوى من الجيش أو لا يقل عنه قوة؟
أن مضمون وجوهر الطرح هو ان تستمر الكارثة ويموت الناس وتتدمر البلد كليا، في انتظار ان نبني تحالف التغيير الجذري، وأننا لن نمد يدنا لكل القوى الموجودة في الساحة، فهم دعاة التسوية، والهبوط الناعم، وشراكة الدم، والأهم انهم عملاء للإمبريالية والبنك الدولي.
اعلان أديس أبابا هو جهد يشكل خطوة في الطريق الصحيح، علينا النظر اليه بانه بداية طريق شاق وصعب لتحقيق السلام. وكل جهد انساني فهو يحتاج للتقييم والنقد، بتوضيح النقاط الإيجابية للحفاظ عليها وتطويرها. وبنقد جواني القصور لتقديم بدائل أفضل. والأهم أن هناك قوى مدنية، تؤمن بالديمقراطية، تسعى لإيقاف الحرب وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للملايين من أبناء شعبنا الذين يضورون جوعا. المهم ان نشيد بعدد من المساهمات الإيجابية التي قدمت نقدا موضوعيا للاتفاق بغرض تطويره. وأتمنى ان تتقدم مجموعات اخري بآرائها سعيا وراء تجويد الاتفاق والبناء عليه، وليس هدمه بجرة قلم.
في المقالات القادمة سأقدم نماذج من تجارب البلدان التي انهت الحكم العسكري أو الشمولي بمنهج عقلاني يدرس الواقع جيدا ويعرف موازين القوى، ويتحرك في حدود قدرات الفاعلين فيه.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: أحمد عثمان
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: أسطورة الخيال.. بوابة التغيير والإبداع
الخيال هو أداة الإنسان الأبرز لتجاوز حدود الممكن ورسم مسارات المستقبل. إنه القوة الخفية التي تحرك الفكر والإبداع، وتقودنا نحو احتمالات لم تكن يوماً في متناول اليد. عبر التاريخ، لطالما مثّل الخيال مصدر دهشة وإلهام للبشرية، بدءاً من أساطير الحضارات القديمة وصولاً إلى الابتكارات العلمية الحديثة. إنه المساحة التي تتداخل فيها الأحلام مع الواقع، وتحول المستحيل إلى ممكن، وتمنح الإنسان القدرة على صياغة عالم جديد.
في الماضي، كانت أفلام الخيال العلمي والروايات المستقبلية تُنظر إليها على أنها ضرب من الجنون أو الهروب من الواقع. لكن هذه الأفكار، التي بدت يوماً غير واقعية، أصبحت اليوم نبوءات محققة. الرحلات الفضائية، والذكاء الاصطناعي، والسيارات ذاتية القيادة، كلها ولدت من رحم الخيال، لكنها تحولت بمرور الوقت إلى حقائق ملموسة. هذه الظاهرة تثير سؤالاً محورياً: كيف يمكن للبشرية أن تستثمر في الخيال ليس فقط كأداة إبداعية، بل كقوة دافعة للتغيير والتقدم؟
الخيال ليس مجرد أداة للترفيه أو الهروب من الواقع، بل هو مصدر حقيقي للحلول والابتكارات. عندما تواجه المجتمعات تحديات كبرى مثل تغيّر المناخ، والأزمات الصحية، والتوترات السياسية، فإن الخيال يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تقديم رؤى جديدة واستراتيجيات غير تقليدية. في كل مرة يتحدى فيها الإنسان حدود فكره، يفتح أبواباً جديدة للحلول التي لم تكن مطروحة من قبل. هذه القدرة على تجاوز المألوف تجعل الخيال قوة أساسية في تشكيل العالم.
لتحقيق هذا الإمكان، يحتاج البشر إلى تطوير ما يمكن تسميته بـ”التخيّل المنهجي”، وهو القدرة على استخدام الخيال بطريقة منهجية وموجهة نحو تحقيق أهداف محددة. يتطلب ذلك تعزيز التفكير النقدي والإبداعي لدى الأفراد، خاصة منذ مراحل الطفولة. إن الأطفال، بقدرتهم الفطرية على الحلم، يمثلون التربة الخصبة لزرع بذور الخيال. لكن هذه البذور تحتاج إلى رعاية مستمرة من خلال أنشطة تعليمية وثقافية تُعزز من قدرتهم على استكشاف العالم بطرق جديدة.
الخيال لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمكن أن يصبح مورداً جماعياً للمجتمعات والدول. إنه يشكل الأساس لابتكارات كبرى تحولت إلى ثورات صناعية وتقنية، مثل الإنترنت والطاقة المتجددة والأجهزة الذكية. الشركات الكبرى اليوم، مثل تلك التي تقود قطاع التكنولوجيا، تعتمد بشكل كبير على الأفكار التي تبدأ كخيالات طموحة، لكنها تتحول عبر الابتكار والعمل إلى واقع يغير العالم. لذلك، فإن الاستثمار في الخيال ليس ترفاً، بل ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة.
يتجلى دور الخيال أيضاً في المجالات الثقافية والفنية. الفنون بجميع أشكالها ليست مجرد وسائل للتسلية، بل هي مختبرات للأفكار. الأفلام والروايات والمسرحيات تلعب دوراً محورياً في استكشاف القيم الإنسانية وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية. كما أن الخيال الأدبي والسينمائي يمكن أن يكون حافزاً للعلماء والمبتكرين للبحث عن طرق جديدة لتحويل هذه التصورات إلى حقائق. وهكذا يصبح الخيال ميداناً للتفاعل بين المشاعر والأفكار، ومساحة للتجريب الحر الذي يفتح أبواب المستقبل.
لكن الخيال ليس فقط وسيلة للإبداع، بل يمكن أن يكون أيضاً علاجاً نفسياً ووسيلة لتحسين الصحة العقلية. في عالم مليء بالضغوطات والتحديات، يمكن للخيال أن يمنح الإنسان متنفساً للتأمل والتجديد. الانغماس في عوالم خيالية، سواء من خلال القراءة أو الألعاب الافتراضية، يمكن أن يساعد على تهدئة النفس وتعزيز التفكير الإيجابي. في هذا السياق، يصبح الخيال أداة ليس فقط لبناء المستقبل، بل أيضاً لتحسين الحاضر.
إلى جانب ذلك، يمثل الخيال دعوة للتأمل الفلسفي في طبيعة الوجود الإنساني. إنه يعكس قدرة الإنسان على تجاوز حدود الإدراك المادي، واستكشاف احتمالات جديدة للحياة. الفلاسفة الكبار، من أفلاطون إلى كانط، تحدثوا عن أهمية الخيال كوسيلة لفهم الذات والعالم. إنه المساحة التي يتلاقى فيها العقل مع الروح، حيث تتشكل الأفكار التي يمكن أن تغيّر مجرى التاريخ.
لكن الخيال ليس مسؤولية فردية فقط، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب التعاون بين الأفراد والمؤسسات والدول. من خلال تعزيز ثقافة الخيال والإبداع، يمكن للمجتمعات أن تبني عالماً أكثر عدلاً واستدامة. الاستثمار في التعليم، وتشجيع البحث العلمي، ودعم الفنون والإبداع، كلها خطوات أساسية لتحقيق هذا الهدف.
في النهاية، يمثل الخيال البوابة السرية التي تقودنا نحو التغيير والإبداع. إنه القوة التي تدفع الإنسان لمواجهة التحديات، وتحقيق المستحيل، وخلق عالم يعكس أحلامه وطموحاته. في زمن يحتاج فيه العالم إلى حلول جذرية وإبداعات غير مسبوقة، يصبح الخيال ليس خياراً، بل ضرورة لبناء المستقبل. لذا، علينا أن نعيد اكتشاف هذه القوة الكامنة، ونمنحها المكانة التي تستحقها في حياتنا ومجتمعاتنا. فقط عبر الخيال، يمكننا أن نصوغ عالماً جديداً يتسع للجميع.