مع وفاة هنري كيسنجر في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عن عمر يناهز 100 عام، عادت سيرته للواجهة من جديد، وأصبح إعلان وفاته مناسبة للتذكير بإرثه الدبلوماسي المثير للجدل؛ حيث "ملأ الدنيا وشغل الناس"، وظلّ منذ ظهوره على الساحة السياسية في أواخر الستينيّات محلّ استقطاب شديد بين النخب السياسية في الغرب وحول العالم.
بدأ كيسنجر عمله الحكومي بمنصب مستشارِ الأمن القومي، ثم وزيرًا للخارجية في عهدَي الرئيسين ريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد في الفترة من 1973 إلى 1977. وقد شهدت فترة توليه حقيبةَ الخارجية تحولات سياسية واقتصادية هامّة، تركت آثارها على مسار الدبلوماسية الأميركية.
عراب السياساتلم يكن كيسنجر مسؤولًا عاديًا ينفّذ سياسات الإدارات التي عمل معها، فهو يمثّل العرّاب للعديد من السياسات والإستراتيجيات التي شكّلت ملامح السياسة الأميركية الخارجية في فترة الحرب الباردة، حتى وُصف من قبل أنصاره بـ "عملاق الدبلوماسية الأميركية"، والشخصية الأكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
مكّنت سياساته بلاده من الخروج من مستنقع حرب فيتنام عبر التفاوض، ومكّنتها من فتح قنوات التواصل مع الصين، وتدشين علاقات دبلوماسية بين واشنطن وبكين. الأمر نفسه فعله في علاقة بلاده مع الاتحاد السوفياتي، فقد نجحت سياساته – بحسب أنصاره- في احتواء النفوذ الشيوعي المتنامي في مناطق متفرقة من العالم، وتقليل التوترات مع القطب السوفياتي.
في مقابل هذا الاحتفاء والتبجيل، يحظى سجلّ كيسنجر وإرثه السياسي بنقد كبير عند مناوئيه في أميركا وفي بقية العالم، حيث كان براغماتيًا محضًا، لا يتردّد في عقد الصفقات مع الأنظمة الاستبدادية، وتقويض الديمقراطيات.
وإرثه يمثّل عندهم التجسيد الأقبح لنهج الولايات المتحدة في اتباع أي وسيلة في سبيل تحقيق المصالح، وفرض النفوذ في العالم. ولذلك يصفه منتقدوه بالطاغية؛ لارتكابه العديد من الفظائع والجرائم في فيتنام، وكمبوديا، والشيلي، وفي بنغلاديش، وإندونيسيا، وفي مناطق أخرى عديدة.
لسنا هنا بصدد تقييم الأطروحات التي تناولت إرثَ كيسنجر، بقدر ما نريد لفتَ عناية القراء لمقالة الكاتب جيمس مان، التي نُشرت مؤخرًا في موقع " بوليتيكو"، بعنوان: "الأساطير الستة التي صنعها كيسنجر حول نفسه وكيف وقع الجميع في شِراكها". فقد حاول الكاتب من خلالها النظرَ في إرث كيسنجر بعيدًا عن ثنائية التبجيل والتمجيد أو التشهير والذم.
جيمس مان، صحفي أميركي لامع، عمل لأكثر من عقدَين في مجال الصحافة، إضافة إلى أنه مؤرخ مهم نشر العديد من الكتب حول علاقات أميركا بالشرق الأوسط والصين، أبرزها كتابه: "صعود آلهة النار: وزارة حرب بوش".
اللافت في مقالته هذه أنه يقول: إن كثيرًا من المقالات التي كُتبت عقب وفاة كيسنجر، سواء كانت مقالات تبجيلية أو ناقمة، استندت إلى المرويّات التي دوّنها كيسنجر بنفسه أو أشاعها وسط الإعلام. وأن هذه المرويّات – بحسب الكاتب- تتضمن "سلسلة واسعة من القصص والأكاذيب المضللة التي شيّدها كيسنجر حول نفسه طوال مسار حياته المهنية".
تفنيد الأساطيروينطبق هذا الأمر بصفة خاصة على إنجازات كيسنجر في ملف الصين، "فكثير من التبجيل الذي حظيت به سيرته -حتى عندما تم الاعتراف بسياساته المدمرة في أماكن مثل فيتنام وكمبوديا – يميل إلى اعتباره رجل الدولة وصاحب الرؤية ومهندس فكرة الانفتاح على الصين".
يُشير الكاتب إلى أنه تنبه منذ سنوات لمشكلة مرويّات كيسنجر، حينما أتيحت له أثناء تأليف بعض كتبه، فرصةُ تفحص ومعاينة الوثائق السرية التي رفعت عنها المحاكم غطاء السرية، بموجب قانون حرية المعلومات، إضافة إلى مراجعة المذكرات الشخصيّة التي كتبها من عملوا مع كيسنجر.
ويعترف الكاتب بـ "أن هذه المصادر التي رجع لها، تكشف قصصًا كثيرة تكاد تختلف بشكل جوهري أحيانًا مع الروايات المثيرة للإطراء التي دوّنها كيسنجر بنفسه في مذكراته، أو لجأ إلى تمريرها عن طريق كتّاب أعمدة الرأي الصديقة".
بهذه الخلفيّة، انخرط الكاتب في مهمة أسماها: "وضع الأمور في نصابها الصحيح"، من خلال تفنيد الأساطير الستة التي صنعها كيسنجر من أجل الترويج لنفسه وخلق هالة حول إنجازاته.
أولًا: فكرة الانفتاح على الصين لم تكن مبادرة كيسنجر
ارتبط اسم كيسنجر في مخيّلة الناس باعتباره صاحب مبادرة فكرة الانفتاح على الصين. لكن الحقيقة- بحسب الكاتب- هي أن الرئيس ريتشارد نيكسون هو من كان بالفعل صاحب المبادرة والمحرّك الرئيس وراء تلك الفكرة. لتفنيد هذه الفكرة الشائعة، رجع الصحفي جيمس مان، إلى مذكرات ألكسندر هيج، الذي عمل نائبًا لكيسنجر في تلك الفترة.
في المذكرات، حكى ألكسندر قصة خروج كيسنجر من اجتماع له مع الرئيس نيكسون، وهو يقول: " لقد انسلخ زعيمنا عن الواقع. إنه يعتقد أن هذه هي اللحظة المناسبة لإقامة علاقات مع الصين الشيوعية. لقد أمرني للتو أن أقوم بتحقيق هذه الرحلة الخيالية بعيدة المنال". وبحسب توصيف هيج لتلك اللحظة فقد "وضع كيسنجر رأسه بين يديه وهتف بدهشة: "الصين!". وفقًا لهذه الرواية فإن كيسنجر سخر في بداية الأمر من فكرة إقامة علاقات مع الصين، وهذا يناقض الدور التبجيلي الشائع عنه في ملف العلاقات الأميركية الصينية، فهو لم يكن لا مبادرًا ولا متحمسًا للفكرة.
ثانيًا: كذب كيسنجر بشأن الجوانب الجوهرية والأكثر أهمية في رحلته السرية إلى الصين
يُشير الكاتب إلى أن المرويّات التي أوردها كيسنجر في مذكراته، ظلت لعقود تمثل المرجع الرئيس لكافة المعلومات المتعلقة برحلته السرية إلى بكين في عام 1971. ويصف الكاتب كيسنجر بالكذب فيما أورده في تلك المذكرات، من أن تايوان "لم يتم ذكرها إلا لفترة وجيزة خلال اجتماعه الأول مع رئيس الوزراء الصيني، تشو إن لاي".
ويستند، جميس مان، في ذلك إلى الوثائق المتصلة بهذا الموضوع، خصوصًا محضر لقاء كيسنجر مع تشو إن لاي، الذي رُفعت عنه السرية في عام 2002، فقد ورد فيه أن موضوع تايوان استغرق الثلث الأول من ذلك اللقاء، على عكس إفادة كيسنجر التي تقول: إن تايوان "بالكاد ذُكرت" في اللقاء.
تنازلات غير مبررةالأدهى من ذلك، أن كيسنجر – بحسب التفاصيل الجديدة التي وفرتها تلك الوثائق – قدم خلال ذلك اللقاء، "تنازلات بالغة الأهمية، ظلت منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تتحكم وتعيق مسار السياسة الأميركية تجاه الصين وتايوان".
ومن الشواهد الدالة على ذلك التنازل، أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة، قبل رحلة كيسنجر إلى الصين، كان يعتبر أمر السيادة على تايوان "مسألة غير محسومة". إلا أن كيسنجر، في سبيل إنجاح مهمته "وعد تشو إن لاي، بعدم دعم الولايات المتحدة لحكومتين صينيتين: (واحدة في بكين، وواحدة في تايبيه)، وأنها لن توافق أيضًا على حل: "صين واحدة وتايوان واحدة"، كما أنها لن تدعم استقلال تايوان".
يمضي الكاتب ليتساءل عن جدوى تنازلات كيسنجر المعبّر عنها في تلك الوعود، والتي ما زالت تتحكم في الموقف الأميركي من استقلال تايوان؛ هل كان يتعيّن تقديم هذه التنازلات في سبيل استمرار مبادرة الانفتاح على الصين؟
يرى الكاتب أن هذا أمر غير واضح بعد، مع أن البعض يعتقد أنه لم يكن يستحق تلك التنازلات. ويضيف أن "علينا أن نتذكر أن انفتاح أميركا على الصين كان يعني في المقابل انفتاح الصين على أميركا، لاسيّما أن الصين في ذلك الوقت كانت تعيش في فقر مدقع، وفي أجواء صراع عسكري متصاعد مع الاتحاد السوفياتي".
ويخلص الكاتب إلى أن الصين كانت ترغب بشدة في إقامة علاقة جديدة مع الولايات المتحدة. ويبني على هذه الخلاصة استنتاجًا مفاده أن النظر بأثر رجعي لمسألة علاقة الولايات المتحدة مع الصين، لا يظهر ما يؤكد أن كيسنجر كان بحاجة إلى تقديم مثل هذه التنازلات الكبيرة في ذلك الوقت المبكر من المباحثات.
ثالثًا: تعمد كيسنجر إخفاء بعض المهام التي فشلت فيها دبلوماسيته تجاه الصين
يؤكد الكاتب على أن كيسنجر ظل بعد تركه العمل الدبلوماسي والسياسي الرسمي داخل الولايات المتحدة منذ عقود، يُذكر على الدوام في أدبيات الدبلوماسية باعتباره مهندس فكرة الانفتاح على الصين التي مهدت الطريق لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين في عام 1972. وهو احتفاء- بحسب الكاتب- يتجاهل الإشارة إلى المهام التي فشلت فيها دبلوماسية كيسنجر في الصين.
تصرفات محرجة
عزز الكاتب حجته في هذا الصدد بواقعة حدثت في عام 1995، عندما تمكنت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"- التي كان يعمل بها الكاتب في ذلك الوقت- من كسب دعوى قضائية بموجب قانون حرية المعلومات، تُتيح لها الحصول على دراسة كانت قد صنفت بالسرية، أجرتها الأجهزة الاستخباراتية الأميركية حول المفاوضات الأميركية المبكرة مع الصين.
ومن أبرز الجوانب التي كشفت عنها تلك الدراسة أن نيكسون وكيسنجر كانا يرغبان في مساعدة الصين لهما في إيجاد تسوية لحرب فيتنام. وتبين الدراسة أنهما بالفعل التمسا في عام1972، من بكين أن تبذل ما في وسعها "لإحضار مسؤول التفاوض في فيتنام الشمالية، لو دوك ثو، إلى الصين لإجراء محادثات على الأراضي الصينية خلال رحلة نيكسون التاريخية للصين. غير أن الصين رفضت العرض".
أما على مستوى التصرفات السلوكية المحرجة، يكتفي الكاتب بالإشارة إلى تصريح ورد في إحدى الوثائق، ينسب لكيسنجر أثناء زيارة نيكسون عام 1972، يقول فيه: "بعد وجبة عشاء من بط بكين، سأوافق على أي شيء".
قد لا يعدو أن يكون هذا التصريح مجرد مجاملة تعبّر عن مدى ارتياح كيسنجر لرحلته إلى الصين، لكن الكاتب يرى أن ذلك التصريح كان بداية "افتتان كيسنجر بالصين". ولتأكيد هذا الافتتان، ينقل عن إحدى المذكرات السرية التي أرسلها كيسنجر إلى نيكسون عام 1973، والتي يقول فيها: " ربما تكون الصين الآن الأقرب إلينا في تصوراتها العالمية. ولا يتمتع أي من زعماء العالم الآخرين بالقدرة والخيال اللذين يتمتع بهما كل من ماو وتشو".
رابعًا: كيسنجر فرض نفسه وسيطًا للرؤساء وزعماء العالم
ورد في كتابات النعي الإشارة إلى أن كيسنجر بعد مغادرة العمل مع الحكومة عمل وسيطًا بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، خاصة الصين. ويبدو أن هذه الفكرة تشير ضمنًا إلى أن المسؤولين الأميركيين كانوا يطلبون من كيسنجر العمل كوسيط.
واقعية وحشيةبَيدَ أن من يُراجع سجلّ كيسنجر الحقيقي، يكتشف أن الأمر لم يكن يتم بتلك الصورة، على العكس من ذلك، "فقد اعتاد كيسنجر أن يفرض نفسه وسيطًا، دون أن يُطلب منه ذلك، وحتى عندما يكون غير مرغوب فيه".
وبحسب الكاتب فإن تتبع تحركات كيسنجر بعد ترك الوظيفة العمومية تبيّن أنه كان "يسافر من تلقاء نفسه إلى الصين، لأغراض تجارية في الغالب. وعندما تُتاح له فرصة عقد لقاءات مع القادة الصينيين، كان يأخذ على عاتقه إخبارهم بما يفكر فيه المسؤولون الأميركيون ويصرحون به في واشنطن. ثم، عند عودته إلى الولايات المتحدة، يذهب إلى البيت الأبيض أو وزارة الخارجية ويتطوع لإخبار المسؤولين الأميركيين بما يدور في بكين".
ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك، ليقول: إن كيسنجر لم يقتصر على لعب دور الوسيط من وراء الكواليس، وإنما حاول مرارًا وتكرارًا العودة إلى السلطة بعد إعفائه من منصبه في عام 1976 (أي بعد انتخاب جيمي كارتر رئيسًا).
ففي عام 1980، كان أحد مهندسي "صفقة مؤتمر الحزب الجمهوري، التي تقضي أن يكون الرئيس السابق جيرالد فورد مرشح رونالد ريغان لمنصب نائب الرئيس، وكيسنجر لمنصب وزير الخارجية. غير أن فريق ريغان الانتخابي رفض تلك الصفقة بلطف. كرّر الأمر نفسه في عام 1988، حينما اقترح على فريق جورج إتش دبليو بوش، "أن يتسلّم زمام الدبلوماسية السوفياتية باعتباره المبعوث الأساس للإدارة الأميركية للرئيس السوفياتي ميخائيل جورباتشوف".
يستنج الكاتب -مما سبق – أن كيسنجر في كثير من الأحيان فرض نفسه وسيطًا بدرجة أكبر مما أراده الرؤساء الأميركيون.
خامسًا: في الشأن الصيني لم يكن كيسنجر واقعيًا كما ادّعى
يوصف كيسنجر عادة بأنه رجلٌ يتبنى منهجًا واقعيًا في مجال العلاقات الدولية. ولذلك يعترف الكاتب، بأنه قد يكون بالفعل صاحب منهج واقعي من الناحية الفلسفية، لاسيما أنه " كرّس مشروعاته، في أجزاء كثيرة من العالم – كما لاحظ منتقدوه بدقة في تأبينه – وَفق منهج واقعي صارم، بل ووحشي في بعض الأحيان".
غير أن من يتأمل حصيلة أعمال كيسنجر فيما يتعلق بالصين، يجد أنه كان رومانسيًا أكثر منه واقعيًا. ويستحضر الكاتب في هذا السياق معلومة وردت في إحدى مذكرات كيسنجر الخاصة التي أرسلها إلى نيكسون بشأن الصين، والتي كتبها بعد زيارة قام بها إلى بكين عام 1973، والتقى فيها بالزعيم ماو تسي تونغ، حيث كتب يقول: إن شخصية ماو "تشع بهالة السلطة والحكمة العميقة… لقد تأثرت بعظمة الرجل هذه المرة أكثر من المرة الماضية. يمكن للمرء أن يتخيّل بسهولة قوة وذكاء هذا الرجل في مقتبل عمره ". وبحسب الكاتب، لا يمكن أن يصدر مثل هذا التقييم عن رجل واقعي.
سادسًا: ساهمت إفادات كيسنجر في تضخيم دوره في الدبلوماسية مع الصين
أشارت التقارير قبيل وفاة كيسنجر إلى أنه لعب دورًا في رفع فتيل التوتر بين إدارة بايدن والصين، وأضافت أن الاتصالات رفيعة المستوى التي شهدها البلدان حصلت نتيجة زيارة قام بها كيسنجر إلى بكين. مرة أخرى، الوقائع تقول خلاف ذلك. فإذا كان كيسنجر سافر إلى الصين في منتصف يوليو/تموز، فإن إدارة بايدن كانت قد سبق أن أرسلت وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة، جانيت يلين إلى بكين، وكانت المباحثات جارية بالفعل لترتيب زيارة الزعيم الصيني، شي جين بينغ، إلى الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني. وبالتالي، لم يلعب كيسنجر أيَّ دور في هذه المسألة الدبلوماسية.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الولایات المتحدة کیسنجر إلى الکاتب إلى ذلک الوقت کیسنجر فی إلى الصین ا کیسنجر أن الصین إلى بکین مع الصین ات التی فی ذلک لم یکن فی عام إلى أن وسیط ا أن هذه من ذلک
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع ترامب أن يفرق بين الصين وروسيا؟
ترجمة: نهى مصطفى -
في مقابلة في أكتوبر الماضي تفاخر دونالد ترامب قائلا: «الشيء الوحيد الذي لا تريد حدوثه أبدًا هو أن تتحد روسيا والصين. سأضطر إلى فك وحدتهما، وأعتقد أنني أستطيع أن أفعل ذلك». خلال حملته الانتخابية، قال الرئيس المنتخب إنه سيوقف الحرب في أوكرانيا «في غضون 24 ساعة» وأنه سيكون أكثر صرامة من الرئيس بايدن مع الصين.
لم يوضح ترامب قط خطته بالضبط لـ«تفكيك» هاتين الدولتين، وبناءً على تاريخه، وقد يضطر لابتكار خطة فورية. لكن المؤشرات المبكرة تشير إلى أن الإدارة المقبلة قد تسعى إلى الإضرار بالشراكة الصينية الروسية من خلال الحد من التوترات (وحتى تحسين العلاقات) مع موسكو من أجل الضغط على بكين ــ وهو عكس ما خطط له وزير الخارجية هنري كيسنجر منذ أكثر من خمسين عاما، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق الوفاق مع الصين لاستغلال الانقسام الصيني السوفييتي.
يبدو أن هذه المدرسة الفكرية تحظى بشعبية كبيرة في عالم ترامب، بما في ذلك أولئك الذين تم ترشيحهم لفريق الأمن القومي الخاص به.على سبيل المثال، دعا مايكل والتز، عضو الكونجرس الذي اختاره ترامب ليشغل منصب مستشاره للأمن القومي، إلى مساعدة الولايات المتحدة في إنهاء الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن ثم تحويل الموارد إلى «مواجهة التهديد الأكبر من الحزب الشيوعي الصيني».
في بكين وموسكو، يترقب القادة فترة الفراغ الرئاسي التي ستستمر بضعة أسابيع وبداية ولاية ترامب الجديدة. وتتمثل الأولوية القصوى للكرملين في اجتياز هذه الفترة بأمان وتجنب التصعيد مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا قبل انتقال ترامب إلى البيت الأبيض. ويأمل الرئيس بوتن أن تؤدي ولاية ترامب الجديدة إلى خفض الدعم الغربي لكييف، إذا لعبت موسكو أوراقها بشكل جيد، حتى لو لم يتم التوصل إلى إنهاء رسمي للعدوان في أوكرانيا.
لكن مخاوف بكين عكس ذلك تمامًا. أشار اجتماع الرئيس الصيني شي جين بينج مع بايدن في نوفمبر خلال قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ إلى أن الإدارة الديمقراطية لن تعطل بشكل كبير العلاقات الأمريكية مع الصين في طريقها إلى الخروج، أما بالنسبة للفريق الجمهوري القادم، فلدى بكين أسباب للقلق ــ سواء من خطاب حملته أو من مجموعة الشخصيات التي رشحها ترامب لشغل وظائف رئيسية في حكومته.
لا يوجد الكثير من التفاصيل حول «خطة السلام» التي يعتزم ترامب تنفيذها في أوكرانيا. لكن حتى قبل الدخول في محادثة رسمية مع ترامب، يتعين على الكرملين أن يتغلب على الأسابيع القليلة المقبلة، التي يراها واحدة من أخطر فترات حرب أوكرانيا.
بعد ما يقرب من عام من المداولات المؤلمة، منحت إدارة بايدن أخيرًا كييف الإذن باستخدام أسلحة بعيدة المدى تنتجها دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك الصواريخ التكتيكية للجيش (ATACMS) المصنوعة في الولايات المتحدة وصواريخ Storm Shadow البريطانية، ضد أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية. في 19 نوفمبر، تعرض مستودع أسلحة روسي في منطقة بريانسك لقصف زعمت وزارة الدفاع الروسية أنه صاروخ ATACMS ، وبعد يومين تعرض مركز قيادة ورد أنه يضم جنرالات كوريين شماليين لقصف بصواريخ Storm Shadow في منطقة كورسك الروسية.
لن يكون لهذه النكسات، مهما كانت مؤلمة بالنسبة للروس، تأثير كبير على مسار القتال. فروسيا تكتسب تدريجيا المزيد من الأرض على الجبهة الشرقية. وما يقلق الكرملين هو تجاهل الغرب الواضح للخطوط الحمراء التي أعلنتها موسكو بوضوح والردع النووي. فقد قال بوتن في مناسبات عديدة إن أوكرانيا لا تستطيع استخدام أنظمة مثل ATACMS و Storm Shadow دون مساعدة فنية كبيرة من أفراد حلف شمال الأطلسي، وبالتالي، من وجهة نظر الكرملين، فإن استخدام الأوكرانيين لها يشبه إطلاق الناتو النار على روسيا. والاستهداف داخل الحدود الروسية مسألة مختلفة تماما؛ وفي رأي الكرملين، يجب وقف هذا الأمر عاجلاً وليس آجلاً.
في رد فعل على هذا العدوان الغربي الملحوظ، نشرت روسيا في التاسع عشر من نوفمبر عقيدة نووية جديدة تخفض بشكل كبير حدود استخدام الأسلحة النووية وتمهد الطريق لشن ضربات نووية ضد الدول غير النووية (مثل أوكرانيا) التي تشن هجمات بعيدة المدى بدعم من دولة نووية. ولتعزيز هذه التهديدات اللفظية، التي لم يول الغرب أهمية كبيرة لها، أطلقت روسيا في الحادي والعشرين من نوفمبر صاروخا قادرًا على حمل رؤوس نووية على مصنع عسكري في دنيبرو. من الانفجارات الطفيفة نسبيًا، فإن الصاروخ كان يحمل حمولة ضئيلة أو معدومة ــ وهذا يعني أن الإطلاق كان إشارة سياسية توضح قدرة الكرملين واستعداده للتصعيد.
من وجهة نظر موسكو، عادت الكرة الآن إلى ملعب واشنطن. فقد حذر بوتن صراحة زعماء الغرب من أنه سيرد على أي خطوات تصعيدية، مثل توجيه ضربات جديدة إلى روسيا أو إرسال قوات إلى أوكرانيا. وبذلك، يأمل في استقرار الوضع حتى يفتح تنصيب ترامب نافذة جديدة من الفرصة للتفاوض على إنهاء الصراع لصالح الكرملين.
يدرك الكرملين أن التحركات الأخيرة التي اتخذتها إدارة بايدن، بما في ذلك رفع القيود المفروضة على الأسلحة الموردة إلى أوكرانيا، تعمل على تعزيز نفوذ واشنطن في أي مناقشات مستقبلية. ولهذا السبب فإن موسكو تقاوم بشدة التصعيدات الأكثر خطورة، بينما لا ترد على تلك التي تعتبر أقل أهمية، مثل العقوبات الجديدة ضد النظام المالي الروسي التي كشفت عنها إدارة بايدن في 21 نوفمبر، أو قرار واشنطن بتزويد القوات المسلحة الأوكرانية بالألغام الأرضية.
لا شيء في هذه المرحلة يشير إلى أن بوتن مستعد للتراجع عن أهدافه الأصلية الأكثر تطرفًا - والتي، على حد تعبيره، هي «نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا»، وهو ما يعني في نهاية المطاف تغيير النظام في كييف وحق النقض الدائم لموسكو على السياسة الخارجية لأوكرانيا. سيصبح الكرملين سعيدًا بتحقيق هذه الأهداف على طاولة المفاوضات، ولكن إذا لم يتمكن من تأمين الشرط المسبق الأكثر أهمية - التراجع عن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا - فإن الزعيم الروسي سيستمر في القتال، على أمل أن يكون الوقت في صالح روسيا في حرب الاستنزاف، وأن مخزونات الأسلحة الغربية المستنفدة والإحجام عن التصعيد سوف يحد من قدرة ترامب على مساعدة أوكرانيا.
على النقيض من بوتين، لدى شي العديد من الأسباب لتوقع أن يكون الانتقال من بايدن إلى ترامب فترة من الهدوء النسبي في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. ومع ذلك، بمجرد تولي ترامب منصبه، قد يصبح الوضع بالنسبة لبكين محفوفًا بالمخاطر. في السنوات الأخيرة، عملت بكين وواشنطن بجد للحفاظ على الاستقرار والقدرة على التنبؤ في علاقتهما. باستخدام العديد من قنوات الاتصال، بما في ذلك الاتصالات المنتظمة بين مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ووزير الخارجية الصيني وانج يي، نجحت بكين وواشنطن في الصمود في الانتخابات الرئاسية في يناير في تايوان، وتجنبتا في الغالب حروب التجارة والسيطرة على الصادرات المزعجة، وخفضتا درجة الحرارة في النقاط الساخنة المحتملة للمواجهة العسكرية، بما في ذلك مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.
أكد آخر اجتماع عقده بايدن وشي في نوفمبر أنهما يعتزمان تمديد هذا النهج حتى 20 يناير. وقد ردت بكين على الفور على مجموعة تدابير الرقابة على الصادرات الجديدة التي فرضتها الإدارة المنتهية ولايتها والتي تستهدف قطاع صناعة الرقائق الصيني، والتي تم الكشف عنها في الثاني من ديسمبر، بحظر صادرات العديد من المعادن الحيوية إلى الولايات المتحدة بما في ذلك الجاليوم والجرمانيوم والانتيمون. لكن هذه التحركات تم إعدادها منذ فترة ولم تكن مفاجئة. وفي الوقت الحالي، لدى الجانبين سبب للحفاظ على الهدوء وممارسة ضبط النفس. يتعامل بايدن مع الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والصين ليست في مزاج يسمح لها بالسعي إلى مواجهة غير ضرورية وسط تدهور الظروف الاقتصادية.
في حين أن لدى بوتن أسبابًا للتفاؤل بشأن ترامب، فإن شي لديه الكثير مما يدعو للقلق. فخلال فترة ولاية ترامب الأولى، بدأ حربًا تجارية مع الصين، واستهدف شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة هواوي بالعقوبات وحملة ضغط لإلغاء تثبيت معداتها من شبكات الحلفاء، وعزز الأصول والشراكات العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأطلق العنان لحرب دعائية بشأن جائحة كوفيد-19. وقد يبدو الوضع أسوأ هذه المرة. ففي عام 2016، كان الاقتصاد الصيني على مسار نمو أقوى بكثير مما هو عليه الآن، وكان الاقتصاد الأمريكي ضعيفًا. واليوم، انقلبت الأمور، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى السياسات الاقتصادية التي انتهجها شي على مدى العقد الماضي.
معظم فريق خبراء الأمن القومي والتجارة الذي يجمعه ترامب، الذين تم ترشيحهم حتى الآن، معروفون بآرائهم المتشددة بشأن الصين، وهم يدعون إلى زيادة الإنفاق الدفاعي لمواجهة بكين، فضلاً عن التعريفات العقابية، والمزيد من القيود على مراقبة الصادرات، ودعم تايوان. ولجعل الأمور أسوأ، فإن معظم كبار المسؤولين الجدد في إدارة ترامب إما غير معروفين تمامًا في الصين أو لم يزوروا البلاد منذ سنوات، ويقضون وقتًا في تايوان بدلاً من ذلك. وبالمثل، فإن فريق شي الحالي، وخاصة كبار مساعديه في الاقتصاد، ليسوا معروفين جيدًا في واشنطن. منذ عام 2022، أحاط شي نفسه بأشخاص - بما في ذلك رئيس أركانه، كاي تشي، ونائب رئيس الوزراء هي ليفينج – ليس لديهم مكانة دولية، ولا يتحدثون الإنجليزية، ومن الصعب التواصل معهم منذ ترقيتهم إلى المكتب السياسي.
في خضم حالة عدم اليقين التي قد يجلبها ترامب، فإن آخر ما يقلق بوتن وشي هو قدرة واشنطن على تحقيق انقسام حقيقي بين بلديهما، على الرغم من وعد ترامب بالقيام بذلك أثناء الحملة الانتخابية. أولا وقبل كل شيء، ما زال من غير الواضح ما إذا كان ترامب قادرًا على التفاوض على صفقة بشأن أوكرانيا ترضي بوتن. وإذا لم تتم معالجة المخاوف الأساسية للكرملين، فقد تستمر موسكو في القتال، وستكون الخطة بأكملها لتحسين العلاقات مع الكرملين على حساب بكين غير مؤكدة. وحتى إذا توصلت جميع الأطراف إلى اتفاق بشأن أوكرانيا وخفف ترامب العقوبات الأمريكية ضد روسيا، فإن السحابة السامة حول الاقتصاد الروسي لن تتبدد على الفور. تزويد موسكو بتدفقات نقدية إضافية سيتطلب موافقة أوروبية، وهو أمر غير مضمون بأي حال من الأحوال، لأن العديد من العواصم لا تزال متشككة في روسيا بوتن ولا تريد العودة إلى عصر ما قبل الحرب من الاعتماد الاقتصادي.
تعتمد روسيا بشكل كبير على الصين اقتصاديًا، حيث إن 40٪ من الواردات الروسية تأتي من الصين و30٪ من الصادرات الروسية تذهب إلى هناك على مدى العامين الماضيين. هذا الاعتماد يتعمق، ولا يمكن التراجع عنه بين عشية وضحاها. ووقف هذا الاعتماد يتطلب جهودًا منسقة من قبل الأمريكيين والأوروبيين لزيادة التجارة الثنائية مع روسيا، وهو أمر يصعب تصوره في ظل ترامب.
أخيرًا، يعرف بوتن وشي أن هذه ستكون فترة ولاية ترامب الأخيرة، وأنه يمكن بسهولة أن يتبعه رئيس من شأنه أن يعكس أي اتفاق تم التوصل إليه في عهد الرئيس الجمهوري. على النقيض من ذلك، يخطط كل من شي وبوتن للبقاء في السلطة بعد عام 2029، عندما تنتهي ولاية ترامب. وبصرف النظر عن العلاقة الشخصية بين بوتن وشي، فإن عدم ثقتهما المشتركة في واشنطن وآمالهما في أن يصبحا أكثر قوة في نظام متعدد الأقطاب - على حساب الولايات المتحدة - من المرجح أن يوفر أساسًا قويًا بما يكفي للحفاظ على الشراكة الصينية الروسية مستقرة ومتنامية.
ألكسندر جابويف مدير مركز كارنيجي روسيا وأوراسيا.
نشر المقال في Foreign Affairs