ديما ياسين احلامنا معلقة بين السماء والأرض، تطير بنا إلى محطات العمر المشتت بين أرض الوطن وارض الغربة وارض الاحلام. تطير بنا تائهة في السماء كالسفن التي لا مرسى لها. تحملنا منذ سنين من وطن إلى وطن، ومن مطار إلى مطار محملة في كل مرة أحلام اجيال جديدة لكل منهم حكاية وطن ضائع. نطير إلى بلدنا كالزوار الذي غادرناه باكرا في اول محطة من محطات حياتنا.
عدت إلى الوطن الذي وعدته بالرجوع ولو بعد سنين. واليوم احقق الوعد، عدت من حيث تركته، إلى البيت الذي تعلمت فيه معنى الحلم، طرقت بابه لاستأذن الدخول من جدرانه المهجورة، لا يسمع فيه سوى صوت الجرس وصدى ضحكات اهله، إلى الحي الذي عرفت فيه معنى الصداقة والى القرية التي عرفت فيها معنى البساطة. نعم، حققت وعدي وعدت إلى الوطن الذي أقسمت بأن ادفن فيه. لم أجد شيئا”، لم أجد تلك الوجوه الفرحة التي كانت دائما” مرسومة حتى في أكثر الأيام ألما”. الوجوه اليوم باكية، ملامح إنسان محاه الحزن على وطن استسلم للموت بعد ان صارع المرض لسنوات طويلة. لم اجد البساطة التي كنت احلم بها كل يوم بل قصور معمرة تتنافس للوصول إلى قمم القرية العالية. ركضت تحت شتاء مدينتي كما كنت أفعل دائما، لم أشعر بلذة الشتاء ولا بقطرة الماء التي كنت اراقبها تنزل انا وابي لانها كانت تنزل على أرض محروقة، على وطن قاحل من المشاعر، لا أرى سوى المارة وفي عيونهم دموع مجمدة، محبوسة داخل أجسام تآكلها الحزن. مررت على مدرستي القديمة فوجدتها خالية من العلم، لا يقطع سكونها سوى صوت صدى استاذي يعلمنا القراءة والاملاء، وخيال الناظر يلوح بعصاه مهددا” كلما رآنا نضحك تحت الطاولة، لا يوجد سوى الكتب التي رميناها على الأرض فرحين بانتهاء العام الدراسي معلنين بدء فصل الصيف. أحسست بغصة و ندم على الأيام التي كبرت فيها ولمت نفسي وكأنني انا المسؤولة عن أقدارنا. لا شيئ بقى على حاله سوى الصورة التي طبعتها في رأسي وخزنتها في ذاكرتي لأنني بقيت على الوعد بأن أعود وأبدأ من حيث تركت كل شيئ. لم يبقى شيئ سوى شجرة اللوز التي اعتدت أن اجلس عندها انا وأبي. لم تكبر كما فعلت أنا، وكأن السنين لم تمر عليها ولم تغيرها كما فعلت بي. قاومت غزو الأيام والحياة المتقلبة وظلت مشبثة في الأرض تحرس ذكرياتنا وتغرس اصالتها في التربة التي تحضن أبي تحرسه لنا لأنها الوفية لأسرارنا وحكاياتنا وصديقة دربنا. شكوت لها أحوالي وسألتها عن وطني، وعن رائحة الارض والمطر، أين اختفى كل شيئ، لم تجاوبني، بل أهدتني حبة اللوز التي كنت دائما” أسرقها منها لعلمها بمحبتي لتلك العادة التي ما زلت أعشقها إلى اليوم. فجأة أحسست بأن أرض الوطن غربة وأرض الغربة وطن. وبأن وطني هو الحلم الذي تركته منذ سنين مخزن في ذاكرتي لم يتأثر بشيب شعري ولا بخطوط وجهي، فهو حلم تلك الفتاة الصغيرة العاشقة لحياة البساطة وحب الناس والوطن حتى ولم يعد هناك وطن فهو عزتي وملجأي ومدفني يوم مماتي.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
التغييرات قادمة لا محالة.. ما الذي ينتظر العراق بعد 20 كانون الثاني الجاري؟
التغييرات قادمة لا محالة.. ما الذي ينتظر
العراق بعد 20 كانون الثاني الجاري؟