اللغة كواحدة من أدوات الاحتلال للسيطرة على الأمة
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
مسألة اللغة ليست مجرد حديثٍ عن أداة للتواصل والتخاطب فقط، وإنما هي مسألة ثقافيّة بالدرجة الأولى، ذلك بأن اللغة وطيدة العلاقة بطبيعة متكلّميها سلوكًا وجغرافية وممارسة، فإذا تدخل الاحتلال وغيّر معالم حياة العربي، وفكّك بنياته التي بها كان مسلمًا وذا ثقافة خاصة، فإنه يكون قد فصله عن حقيقة حياته التي عبّرت عنها لغته، وبالتالي يسهل إقناعه بتبني لغة أخرى، مُوهِمًا إياه بأنها تواكب طموحاته، وآفاق حياته الجديدة التي صنعها الاحتلال طبعًا، ولم يصنعها هو على عينه وثقافته.
مثال ذلك، أنّ الاحتلال لما رسّخ فينا مفهوم الأنانية والانزواء بالذات- مرورًا بمحاربة الأسرة الكبيرة إلى الأسرة النووية، والسعي إلى تدمير مفهوم الأسرة أصلًا- لم يعُدْ للفظ الأمّة أي مدلول حضاري لدى كثير من متكلمي العربية اليوم؛ لانعدام معناه النفسي في حسّهم الداخلي، وبالتالي فهم مستعدون للاستغناء عنه لفظًا ومفهومًا لصالح كلمة أخرى أجنبية أو مترجمة عن الأجنبية تؤدي مدلول اللاأُمّة، والتشتت والتقوقع.
حتى يتوهّم أخيرًا – بحكم الاستمرار في هذا الكشط، وعدم المواءمة بين مقتضيات حياته، وبين مدلولات اللفظ العربي – أن لغته لا تساير العصر، ولا تواكب الزمن، ومن ثَمة فهو مستعد للاستغناء عنها واستبدالها بغيرها، خصوصًا أنه لم يَعِ بعدُ أن فلسفة الاحتلال سعت إلى خلق التناقض بين مقتضيات اللسان العربي، ومعالم الحياة المعاصرة المصنوعة لنا على مقاس الآخر، لا على مقاسنا.
كيف سيستقبلُ كلمةَ الحياء مجتمع لُغوي لا يعرف معنى الحياء ولا مدلوله الرمزي والنفسي في مجتمع تأسس على الحياء، وبالمِثْل ما هو صدى كلمة الديمقراطية، مثلًا، في مجتمع لا يعرف إلا القمع والطغيان
زيادة على أنه لم يَعِ أنّ اللغة تحمل قيمًا، والناطق العربي لما فُصلت أخلاقه عن هذه القيم أصبح لا يشعر بحاجته إلى لغته، كما يشعر بحاجته إلى لغة غيره، ومثاله أن التفريط في مفهوم القرابة والأسرة، سيقابله تفريط في مقابلاتهما اللغوية قيميًا.
وإذا كانت اللغة العربية تميز بين العمومة باعتبارها قرابةً من جهة الأب، وبين الخُؤُولة باعتبارها قرابةً من جهة الأمّ، فإنّ اندثار الشعور بهذه العَلاقة لن يُحْوِجَ العربي الجديد إلا إلى كلمة "oncle" التي تأتي مجرّدة من الارتباط بالأبوّة أو الأمومة، ولذلك أبعاده القيميّة والاجتماعية ليس هذا محلّ تفصيلِها.
لقد فُصلت الأمّة عن عناصرها- التي بها تكون أمّة- فصلًا أفقدها حاجتها إلى لُغتها التي تستوفي كلّ تلك العناصر في أعلى مستوياتها، وفي المقابل وُصِلت بعناصر غيرها الحضارية وصلًا أحوجها إلى لغته، والأدهى أن هذا التحويج انقلب تهييجًا ضد لغتها الأصل، فانبرى العربي يحارب لغته من حيث يدري أو لا يدري باعتبارها من العوائق التي إن استمرّت استمرّ فصله عن مقتضيات زمانه المصنوعة على مِزاج الآخر وذوقه، لا على مِزاج العربي وذوقه.
ولمّا انغمس المتكلّم العربي في المنظومة المادية الغربية، فَقَدَ روحه وأشواقه، ولم تعد تعبّر عن طموحه إلا اللغة الغربية المادية، أمّا اللغة العربية، فهي لغة مجاز وشعر، وما دام قد فقَد شعوره وإحساسه فلا حاجةَ له إليها.
إن الذين يدْعون إلى تبني اللغة الإنجليزية؛ بدعوى أن العربية متخلفة، لم يدركوا طبيعة العلاقة بين كل لغة والوجود، بل لم يدركوا أن اللغة لا تعكس الحقائق كما هي في جوهرها، وإنما تعكس تصورنا للوجود، وتمثلنا لتلك الحقائق، ذلك بأنَّ كل لغة هي نافذة نطل بها على العالم من جانب معين يخفى على الآخرين من جهة لغتنا، كما يخفى علينا من جهة لغتهم، وهكذا الأمر بالنّسبة لكل اللغات.
إنَّ الذين يتبنّون لغة غير اللغة الأمّ، يكونون غير ناظرين إلى العواقب والمآلات؛ لأنّ ألفاظ كل لغة ترتبط بمدلولات نفسية ورمزية لصاحب اللغة، قبل أن ترتبط بالمدلولات المادية والحسيّة.
وعليه، كيف سيستقبلُ كلمةَ الحياء مجتمع لُغوي لا يعرف معنى الحياء ولا مدلوله الرمزي والنفسي في مجتمع تأسس على الحياء، وبالمِثْل ما هو صدى كلمة الديمقراطية، مثلًا، في مجتمع لا يعرف إلا القمع والطغيان، وإن كان يبدو أن هذه الكلمة فقدت كل معانيها في الواقع، كما تجلّى في العدوان على الفلسطينيين.
ثم إن هذا التبني يبدو منحازًا إلى أيديولوجية معينة لا تهدف إلا إلى سلب مخزون الأمّة المعنوي، كما تمّ نهب مخزونها المادي، ذلك بأن طرحه لا يستقيم واقعيًا، إذ كيف نخاطب أمة ونؤثر فيها بغير لغتها، وكيف نتواصل معها، بل كيف ندرسها دون إلمام بلغتها؟!، مع العلم أنّ الغرب المادي نفسه من خلال خبرائه، اضطر لأن يتعلم العربية ولهجاتها حتى يتمكّن من دراسة المجتمع العربي، وتحليله وَفق مناهجه في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع؛ تمهيدًا لغزوه، وإمعانًا في تخريبه.
إن هذا لأكبر دليلٍ على أنه لا أمّة تعيش بدون لغتها، وأن لغتها هي السبيل للتوغل إلى عمقها؛ لفهمها والتفاعل معها.
ثمّ لماذا هذا التضييق علينا وعلى نظرتنا إلى العالم؟، ونحن إن تحررنا يسيرًا أو كثيرًا من هذه المغالطة اللغوية المرتبطة بالغرب، اكتشفنا أنّ التقدم لم يرتبط باللغة الإنجليزية أو الفرنسية التي بدأت تفقد مقومات التطوّر، ذلك بأنه أمامنا نماذج من التطور المرتبط باللغة اليابانية، واللغة الصينية، واللغة الكورية، مع ضرورة ملاحظة العلاقة القائمة بين هذه المجتمعات، واستعمالها لغاتِها الوطنيةَ والقوميةَ التي تأسَّست على ثقافتها.
وبعد هذا، فلماذا يصدر الضجيج، ويكثر الطنين حين ندعو في أيسر الأحوال إلى قانون المعاملة بالمثل؟، فنستعمل لغتنا، كما يستعمل كل قوم لغتهم، ونبني بها حضارتنا، كما تبني بلغتها كل أمة تحترم ذاتها حضارتها، ولا يُزايَد علينا بدعوى أن العربية فقدت مؤهلاتها في مواكبة التطور، ومسايرة التقدم، ذلك بأن للتقدم معاييرَ وللتطور مقاييسَ مرتبطة بالدرجة الأولى بتوفير الحرية، ولا حرية أبرز في هذا المضمار من حقنا اللغوي في استعمال العربية؛ لاستئناف عطائنا الحضاري.
وعليه، فكل دعوة من بعض الأصوات إلى تبني الإنجليزية للتطور، هي دعوة مردودة عليهم؛ لأن الدعوة إلى تبني لغة الغير، هي دعوة إلى تقليده في لغته، وتقليده في لغته ينتج عنه تبعية له، بحيث إن هذا الآخر لا يسعى إلى شيء سعيه إلى استبقاء هذا التقليد واستدامة تلك التبعية؛ لضمان إعادة إنتاج نموذجه.
وبذلك يتّضح أنّ دعوى تبني الإنجليزية ما هي إلا مغالطة ماكرة لاستبقاء الاستتباع والاحتلال، ومعلوم أنه لا تطوّر مع الاحتلال والاستتباع، كما أنه لا تقدم مع التقليد والذوبان.
لا يُفهَمُ من هذا أنّنا نعادي اللغات أو ننغلق على ذواتنا، وإنما ندعو إلى الإفادة من فلسفة النحلة التي تعبر الحدود لتلقح زهرة قريبة بلَقاح زهرة بعيدة، دونما إبادة لها أو اقتلاع من جذورها، إنه انفتاح دون إنكار ولا إلغاء.
وعليه فمن استطاع أن يتعلم كل لغات العالم فليفعل وليبادر، ولن يجد منا إلا التشجيع والتحفيز، لكن بشرط ألا يجعل أي لغة من هذه بديلًا عن لغته الأصيلة.
والذي ينبغي أن يُفهم من هذا، أنّ لغة التعليم يجب ألا تكون إلا بلغة الأُمّة؛ لأن من يتعلم بلغة غيره يكون كالذي يتعلم بعقل غيره أيضًا، وكما استغنى عن عقله في هذا المجال حتى فقده، فإنه يستغني عن لغته أيضًا حتى يفقد لسانه، وبذلك تدخل الذات في مسلسل التنازل عن عناصرها، كما لو أنها تتنازل عن جوارحها واحدةً واحدةً، ساعيةً إلى تعويضها بعناصر الآخرين وجوارحهم، ومع ذلك لن تكون مثلهم؛ لأنّها لن تفعل شيئًا أكثر من مسخ ذاتها بسبب هذه الإمعية والتبعية.
هذا، بالإضافة إلى أنّ كل لغة هي مشروع جواب عن سؤال مطروح اقتضتْه سياقات لغوية معينة، فما تجيب به لغة في سياق ما، ليس هو ما تجيب به لغة أخرى في سياق آخر مغاير للسياق الأول، وما اختلاف اللغات لفظًا وتركيبًا ودلالة إلا باختلاف السياق الذي اقتضى تداولًا يوظف اللغة توظيفًا يناسبه.
ذلك بأنّ الإنسان في حياته يضع أسئلةً وجودية كبرى تتعلّق بعمقه ومصيره، كما تتعلّق بإشكالاته وطموحاته التي يثيرها زمانه الخاص، وهنا تأتي اللغة لتعبّر عن هذه التطلعات والأحلام بمقولات وتعابير وصيغ وأشكال تحمل خلفية ثقافية، ومخزونًا إنسانيًا قد لا يوجد في اللغة الأخرى.
لكن اللغة الأخرى في المقابل تملك من الجواب عن إشكالات كثيرة ما لا تملكه اللغة الأولى التي ينبغي أن تسارع- في إطار الإفادة لا الذوبان والإمعية- إلى الاستفادة من هذه اللغة المغايرة لها؛ لإغناء مجالها وتعزيز جوابها عن إشكالاتِها.
ولذلك فإن قتل أي لغة هو حرمان للإنسانية من أجوبة عديدة، ومن فرص نجاة كثيرة قد تحمل الخلاص للإنسان، وتخرجه من مآزقه.
وضميمة إلى معايير التقدم وعلاقة ذلك باللغة، فينبغي ألا نُحَمِّل اللغة وزر التخلف أو سبب التقدم؛ لأنهما مرتبطان بالبنية الثقافية لكل مجتمع ومدى جاهزيته للتطور ومجاوزة الآفات، ثم تأتي اللغة بعد ذلك مصدقة أو مكذبة، ولتعكس هذه الثقافة وعَلاقتها بالفعل داخل الوجود تمثلًا وتصورًا.
إن اللغة تحمل رؤية يزكيها فعل الإنسان ونشاطه في تفاعله مع الواقع والوقائع، ومن هذا الواقع أن كل الأمم التي تحضّرت لم تفرّط في لغتها، وحتى إذا افتقرت في بعض المجالات المعرفية، فإنها تعتمد آلية نقل العلم من المجال المعرفيّ المنتج إلى مجالها المعرفي المستفيد بواسطة الترجمة.
وهو نفس الأمر الذي قامت به المنظومة الحضارية للمسلمين، إذ استطاعت بفضل لسانها أن تثري الفلسفة الموصولة باليونان، بل أن تخلصها مما شابها من أوهام تراجمة السريان، بشكل أسس لفلسفة جديدة تفوقت على سابقتها تفوقًا كبيرًا، وفتحت آفاقًا إشكالية تتعلق مثلًا باللفظ والمعنى، وأيهما تابع للآخر، ذلك لأن إشكال الترجمة بين اللفظي والمعنوي هو الذي فتح هذا الباب، وبذلك ساهم اللسان العربي في إغناء المعرفة وإلباسها لَبُوسًا حضاريًا جديدًا يفيد العالمين.
وقبل الختام أودّ أن أوجه كلمة موجزة إلى من يتهم العربية بالصعوبة في استعمالها ومناهجها وقواعدها، بالإشارة إلى أن أصحاب هذا الاتهام هم- غالبًا – من الذين درسوا في مدارس البعثات الأجنبية أو ما يتبعها، فدرجوا على الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية مثلًا، حتى أصبحت هذه اللغات عندهم هي اللغة الأمّ، بينما العربية إن أعطوها بعض حقها أثناء دراستها، فهي عندهم بمنزلة اللغة الثانية في أحسن الأحوال، إن لم تكن الثالثة أو الرابعة.
وهذا طبعًا إن دَرَسوها كما يجب أن تُدْرس، وإن كان يبدو أنهم درسوها بطريقة لا تجعل منها إلا لغة فاشلة، ومعلوم أن اللغات الثواني لا تكون على نفس السهولة التي عليها اللغة الأم؛ لأن هذه لغة وجدان ولها نصوص محفوظة وأناشيد ترسخ حضورها في الشعور حتى تصبح جزءًا من التكوين النفسي لصاحب اللغة، وللأسف هذا ما لم يفعله هؤلاء مع اللغة العربية.
والحل المقترح عليهم هو أن يبادروا إلى تعلم اللغة العربية بالطريقة الصحيحة، كما يتعلمون اللغات الأخرى، متحمسين ومتهافتين، وليعلموا أن كل لغة لم تدرس في الصغر هي لغة صعبة تحتاج إلى بذل الجهد لتحصيلها وتجاوز صعوباتها.
وأخيرًا؛ يبدو أن اللغة العربية في كامل عافيتها ونشاطها، فبالإضافة إلى تحديها كلَّ عقابيل الزمان حتى وصلت إلينا، في حين ماتت كل اللغات القديمة، وإلى حفاظها على طريقتها في التبليغ بما لم تحفظه لغة غيرها، إذ إننا نقرأ نصوصها القديمة والجديدة دون تعثر في الفهم والذوق، لكن بالمقابل لن نستطيع أن نقرأ إنجليزية شكسبير إلا إذا تُرجمت إلى الإنجليزية المعاصرة، ولن نقدر على قراءة فرنسية القرن الـ 14 إلا إذا نُقلت إلى الفرنسية الراهنة.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإنها أضحت لغة الإنسان حيثما وُجد وكان، خاصة حين تفاعلت مع الزمن الفلسطيني الذي نفخ فيها روحًا جديدًا وأعاد لألفاظها مدلولاتها النفسية والرمزية بشكل لم يقف عند المتلقي العربي وحده، وإنما جاوزه إلى المتلقي العالمي أو المتلقي الإنسان، الذي انبهر بقوة هذا الفلسطيني وقيمه التي حملته على الصبر، ومواجهة تجليات الغطرسة والطغيان.
فأضحى هذا الإنسان العالمي يحمل شعارات عربية للتضامن مع غزة، وينظم حملات لتدبر القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية؛ لإحسان هذا التدبر وإكماله حتى يقف على أسرار الإيمان والصمود والقوة والتسليم لله -تعالى- لدى الفلسطيني، وأكيد أن هذا المتلقي العالمي بدأ يتلمس علاقة اللغة العربية بكل ذلك، خاصة أنه قد ربط بين الخير وبين الإنسان الفلسطيني.
لقد أعاد الزمن الفلسطيني للغة العربية صلتها بالحياة من جهة أراد المتغطرس فصلها عنها باتهامها بالتخلف وعدم المواكبة، كما أعاد لها علاقتها بقيمها من حيث أراد المحتل فكها عنها؛ لإقناعنا بماديته، وجدوى فلسفته ووحشيته.
وإذا كان الزمن الفلسطيني قد أعلن موت الثقة في الغرب وقيمه، وبالتبع موت الثقة في لغته التي تحمل هذه القيم، فإنه قد أعلن في المقابل عن أن العربية هي لغة الروح والحياة والقيم والإنسان.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: اللغة العربیة م العربی فی مجتمع مجتمع ل ذلک بأن لا یعرف من جهة کل لغة
إقرأ أيضاً:
تعدد قضايا الأمة ووحدة الهدف: غزة تستنهض الضمير الإسلامي
يحل شهر رمضان المبارك هذا العام في أجواء قاتمة في مناطق عديدة من العالم الإسلامي. فبينما تعيش شعوب عديدة في أجواء الحرب والتوتر، تعاني أخرى من الاضطهاد، والقمع والاستبداد والاحتلال. وتبرز السودان كواحدة من البلدان التي أحدثت الحرب الأهلية فيها إنهاكا إنسانيا واسعا خصوصا انتشار المجاعة وتصاعد أعداد ضحايا الاقتتال بين الفئات المتصارعة. وفي الأسبوع الماضي قال السيد آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين إن جرائم بشعة ارتُكبت بحق سكان الكنابي ونازحي دارفور، مطالبا بالعدالة الدولية ومحاسبة المسؤولين.
واعتبر آدم المجازر التي وقعت في ولاية الجزيرة، خاصة بحق سكان الكنابي «انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان» قائلا إن هذه العمليات الانتقامية، التي استهدفت الأطفال وكبار السن بسبب ألوانهم وأعراقهم، ارتُكبت على يد الجيش السوداني وحلفائه من مليشيات «كتائب البراء» و«درع السودان». ويقدّر عدد ضحايا الحرب التي اندلعت في شهر أبريل /نيسان من عام 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، بحوالي عشرة آلاف إنسان، وأدت إلى نزوح أكثر من 5 ملايين شخص من مناطقهم.
أما غزّة، التي أصبحت الجرح النازف في جسد هذه الأمة، فقد استقبل أهلها حلول الشهر الفضيل بمشاعر متباينة. فهناك ابتهاج شعبي واسع بأجواء شهر رمضان المبارك، ولكن يتزامن معه شعور بالغضب لتدمير مساجدها، حتى أصبح أهلها يعيشون بين الركام الذي لم يشهد العالم له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية.
فقد ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي أبشع أساليب القصف والتدمير في غزة، مستهدفا المدنيين والبنية التحتية، بما في ذلك المساجد والكنائس العريقة التي كانت ولا تزال توثّق جزءا من ذاكرة الشعب الفلسطيني وتاريخه. وتجاوز ذلك إلى ارتكاب جرائم قتل بحق علماء الدين وأئمة المساجد. وأكّد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن 92 في المئة من الوحدات السكنية في غزة مدمرة أو متضررة. ويشير مكتب «أوتشا» في تقرير حديث إلى أن 436 ألف وحدة سكنية تأثرت بالحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزّة، حيث تم تدمير 160 ألف وحدة وتضرر 276 ألف وحدة بشكل خطير أو جزئي. وبالإضافة إلى ذلك، هناك أكثر من 1.8 مليون شخص في حاجة ماسة إلى مأوى طاريء ومستلزمات منزلية أساسية.
بينما يقول المتحدث باسم وزارة الأوقاف في قطاع غزة إكرامي المدلل إن «صواريخ الاحتلال وقنابله سوّت 738 مسجدا بالأرض، ودمرتها تدميرا كاملا من أصل نحو 1244 مسجدا، بما نسبته 79 في المئة». وتضرر 189 مسجدا بأضرار جزئية. ووصل إجرام الاحتلال إلى قصف عدد من المساجد والمصليات على رؤوس المصلين الآمنين، كما دمرت آلة العدوان الإسرائيلية 3 كنائس تدميرا كليا جميعها موجودة في مدينة غزة. ولم يبق أمام الصائمين سوى التنقل بين الخيام في هذا البرد القارس بعد أن دمرت قوات الاحتلال 60 في المئة من المباني منذ بداية العدوان. وهذا يؤكد أن القوات الإسرائيلية لم تلتزم بحدود أو أخلاق وهي تمارس عدوانها المتواصل منذ سبعة عشر شهرا بدون توقف.
وبين تلك الأكوام استرخصت قوات الاحتلال روح الإنسان، فقتلت حتى الان أكثر من 46 ألفا من سكان غزة. وهناك الان أكثر من 40 ألفا من الفلسطينيين يعيشون بدون مأوى بعد أن أجبرتهم قوات الاحتلال على ترك ديارهم في جنين وطولكرم في شمال الضفة. وتلاشت حقوق الإنسان بدون حدود.
وأكد الخبراء الحقوقيون الدوليون والسياسون الجرائم الإسرائيلية بوضوح. وقالت فرانكي برونوين ليفي مندوبة جنوب أفريقيا: «قائمة الأهوال التي لا توصف والتي ارتُكبت ضد الفلسطينيين غير مسبوقة». وأيّد الاتحاد الأوروبي دعوة التقرير إلى إجراء تحقيق مستقل، وأدان التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ولم يوفّر حماس من الإدانة. وفي الأسبوع الماضي اتهم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك «إسرائيل» بإبداء تجاهل غير مسبوق لحقوق الإنسان في عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين.
وأثناء تقديمه تقريرا جديدا عن وضع حقوق الإنسان في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف، قال تورك “لا شيء يبرر الطريقة المروّعة التي أجرت بها إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة والتي انتهكت القانون الدولي بصورة مستمرة”.
المؤسسات الدولية أصبحت مترددة في أداء دورها المطلوب. وتبدو محكمة الجنايات الدولية الجهة الدولية الأقوى القادرة على اتخاذ إجراءات رادعة بحق من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، برغم استهدافها من قبل «إسرائيل»
في هذه الأثناء لا يبدو العالم في عجلة من أمره للسعي لوقف جرائم الاحتلال بشكل فاعل. بل إن المؤسسات الدولية أصبحت مترددة في أداء دورها المطلوب. وتبدو محكمة الجنايات الدولية الجهة الدولية الأقوى القادرة على اتخاذ إجراءات رادعة بحق من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، برغم استهدافها من قبل «إسرائيل» وأمريكا معا. وفي الأسبوع الماضي قالت المحكمة الجنائية الدولية: سنواصل تحقيقا يتعلق بحرب غزة على وجه السرعة. لكن هذه السرعة لا تواكب سرعة حدوث الجرائم التي لم تتوقف، كما لا تبدو تلك التصريحات رادعة بما يكفي لمن انسلخ عن إنسانيته باستهداف أرواح البشر وارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
الواضح أن التحدّي الذي يواجه العالم اليوم لا يقتصر على التحرّك العاجل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على فلسطين وأهلها، بل يتمثل كذلك في ضرورة منع سقوط النظام السياسي الدولي الذي توافقت الدول عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
هذا النظام يقوم على آليات لضمان منع إبادة الشعوب والحدّ من العدوان، وحماية تراث المجموعات الإنسانية خصوصا الواقعة تحت الاحتلال. وقد أصبح هذا الهدف صعب المنال بعد أن أصبحت الدول الكبرى نفسها تسعى لمنع الأجهزة الدولية من أداء واجبها، سواء حماية المدنيين المحاصرين بالاحتلال، أم حماية تراثها، أم منع تعرضها لما يمكن اعتباره «إبادة». وهذا يتطلب أيضا حماية المؤسسات الدولية التي أُنشئت لمقاضاة من يخالف القانون الدولي باستهداف المدنيين أو تدمير التراث أو الانتقاص من سيادة الشعوب وحقوقها الثقافية والسياسية.
فاستهداف المدنيين بالقتل والإبادة لا يحدث من فراغ، بل يصدر القرار المرتبط به عن «جهات عليا» تكون عادة متربّعة على قمة الهرم، كرؤساء الدول والحكومات. وما يحدث من استهداف للإنسانية في المناطق الفلسطينية المحتلة إنما هو نتيجة قرارات اتخذتها حكومة الاحتلال وعلى رأسها رئيس وزرائه. وبرغم ما يبدو من صعوبة التعرّض القانوني لمسؤول كبير إلا أنه ضرورة لحماية أرواح الآخرين الذين يدفعون فواتير قراراته بأرواحهم. فلا شك أن امتلاك القوّة العسكرية والسلاح الفاعل يثير في نفوس بعض المنسلخين من الانسانية الرغبة في القتل والانتقام. وبعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن أصبح تطويع أهل فلسطين للاحتلال مستحيلا، الأمر الذي أصبح سببا لحنق زعماء الاحتلال الذين تأسس مشروعهم الاستيطاني على محو الهويّة الفلسطينية. لذلك اندفع بعضهم لارتكاب جرائم حرب واضحة. وأصبح العالم بين خيارين: الصمت على ما يجري في غزة والمخيّمات الفلسطينية أو التصدي لذلك بمقاضاة الزعماء المسؤولين عن إصدار قرارات الاعتداء والتدمير.
إن مصلحة العالم تقتضي تفعيل الآليات الدولية التي يُفترض أن تمثل الإرادة المجتمعة لدول العالم المنضوية تحت راية الأمم المتحدة. هذا التفعيل يؤكد حيوية العمل الدولي المشترك ويمثل رادعا لمن تسوّل له نفسه اختراق القانون الدولي. هذا القانون يعتبر عمود الخيمة في المشروع السياسي الذي يمثل أدنى مستويات التوافق الدولي الهادف لمنع العدوان وانتهاك حقوق البشر. وما لم تظهر الدول الكبرى بشكل خاص حماسا للمؤسسات الرقابية والقضائية الدولية، فستبقى مقولات العمل الدولي المشترك شعارات بلا مضمون. إذا لم تُستخدم هذه القوانين للتصدي لمن ينتهكها فسوف يتحول العالم إلى حالة من الفوضى والعبث، ويصبح محكوما بعقلية التنمّر.
تقرير مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك دعا إلى التحقيق في جميع الانتهاكات على نحو مستقل. ولكن ليس متوقعا أن تتعاون «إسرائيل» من خلال منظومتها القضائية مع الدعوة للمساءلة الكاملة، ومراعاة المعايير الدولية. ولم تستجب قوات الاحتلال لطلب مكتب المفوّض بالسماح له بزيارة الأراضي المحتلة والتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف.
فحكومة الاحتلال لا تجهل ما هو مسموح أو ممنوع من أساليب التعامل مع فلسطين وأهلها، وأن مسؤوليها وقواتها الأمنية والعسكرية ارتكبت ما يعتبر «جرائم ضد الإنسانية» في غزّة. فهل هناك قانون أو شرعة دولية تسمح بتدمير الأبراج السكنية على رؤوس ساكنيها؟ هل يقبل ذو عقل أو ضمير أو إنسانية تسوية مباني غزّة بالأرض بدون رأفة أو رحمة؟ ولولا التواطؤ الغربي مع الاحتلال وزعمائه لما تفاقمت معاناة أهل الأرض تحت وطأته، ولما تواصلت مِحن أهل فلسطين على مدىً تجاوز ثلاثة أرباع القرن.
إن شهر الصوم فرصة للعبادة بكافة أشكالها من انصياع مطلق للإرادة الإلهية والاستجابة لأوامره، والإنفاق على الفقراء والمعوزين وتمتين أواصر الأخوّة بين المؤمنين، والاهتمام بأوضاع الأمّة من منطلق وجوب الاهتمام بشؤون المسلمين. فلتكن قضايا الأمة حاضرة في أذهان الصائمين، وليكن مفهوم «الولاء والبراء» واضحا لديهم لكي لا تختلط الأوراق والمفاهيم والقيم. فالصوم مشروع يحقق الوحدة في الدّين والإنسانية من خلال قيم التضامن مع المحرومين واحتضان المظلومين وكسر شوكة الشيطان ورفع راية التوحيد والعبادة والأخلاق، كما قال رسول الله في خطبته حول استقبال شهر الصوم.