الكيان الصهيوني.. بين الانهيار والتفكك
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
قبل مئات السنين جاء الصليبيون إلى هذه الأرض “فلسطين” عاقدين العزم على المقام والاستقرار، مارسوا كل أنواع الإجرام بحق شعبها والأمة العربية والإسلامية والتاريخ شاهد على الفظائع التي ارتكبوها، فقد غاصت أقدام خيولهم بدماء الأبرياء، حين الاستيلاء على القدس، شنوا الحملات الصليبية واحدة تلو أخرى، جاء على رأس تلك الحملات القساوسة والرهبان والملوك من كل دول أوروبا حتى تحقق لهم الاستيلاء، لم تهدأ الثورات والانتفاضات من المسلمين الذين عاشوا قبل ذلك مراحل كثيرة من الفرقة والشتات وإثارة النزعات القومية والدينية وغيرها، ولولا تلك الاختلافات لما استطاع الصليبيون أن تطأ أقدامهم أرض المسلمين بالإضافة إلى الخيانات والمؤامرات التي شكلت أبرز نقاط الضعف والهزيمة.
وعلى حين غفلة جمع القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الشتات وحارب الفرقة وهزم الخونة والمتآمرين واستعاد القدس، واليوم جاء الصهاينة مكررين نفس الأساليب والسيناريوهات ذاتها، قتل وإبادة وتهجير لأصحاب الأرض وإحلال العنصر الصهيوني بديلا بالقوة وبالقانون وبكل أشكال وأساليب العصابات الإجرامية لكن بوسائل الدولة والسلطة والسطوة، وفي كل مرة يقف العالم ما بين مؤيد وهم الصليبيون الجدد، وشاجبون ومنددون، وهم الخونة والعملاء، وعاجزون يطلبون ممن أوجد الكيان وأسس له وقنن وجوده أن يقوم بدور الوسيط الذي يعيد الحقوق، الصليبيون تحركوا بما لديهم من إمكانيات مادية ومعنوية وسياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها لتطمين المجرمين في كل معركة وانتفاضة حتى لا يذهب المشروع الذي أوجدوه ويعود الحق لأصحابه ويستعيد المسلمون كرامتهم وعزتهم ووحدتهم وقوتهم ويخسر الغرب المصالح التي استولى عليها بواسطة الصهاينة من ثروات نفط وغاز وأكبر مستورد للسلاح والمنتجات وغيرها.
المنافقون والخونة والعملاء أذاقوا الشعوب الويلات وساموهم سوء العذاب سرا وجهرا، قتلوا كل إرادة حرة وصادروا كل مقومات التوحد والتكامل، وأبادوا كل بوادر المقاومة والعزة والكرامة، وكلما انقرض مجرم جاء غيره أظلم وأطغى، حُيّدت الدول العربية واحدة تلو أخرى واستفرد المجرمون بكل قطر على حدة واثيرت كل الاختلافات حتى وصل الأمر إلى قطع العلاقات لفوز فريق على آخر في المسابقات الرياضية، وتم تصنيع فزاعة الإرهاب والتطرف والتشدد وساهم خريجو الجامعة الإسلامية بتل أبيب في تصدير الفتاوى وتسويق نماذج القتل القذرة والمتوحشة على أنها دين وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأحداث سرعان ما كشفت زيف تلك الأكاذيب وفضحت الوجوه والأقنعة.
أما المنخدعون فقد صحوا من غفلتهم وتابوا إلى رشدهم، فمنهم من عاد إلى صوابه ومنهم من استمسك بالغيب وفضل المضي حتى آخر المشوار بسبب المصالح التي بذلت له والعوائد التي حصل عليها، والفضل في كل تلك المفاصلة لفلسطين وأهلها المرابطين على أرض ثالث الحرمين.
بين التفكك والانهيار
المجتمعات اليهودية التي استوطنت أرض فلسطين خليط من اتجاهات شتى ( بين يسار ووسط) يعبدون المال ويحبون الحياة، قال تعالى “وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ” البقرة (96)، حريصون على أدنى حياة وحينما وفدوا إلى أرض فلسطين كانت الوعود لهم أنها ستكون واحة من الأمن والرخاء والاستثمار وغير ذلك من المتع، لكن مع استمرار المقاومة وتصاعد وتيرتها فإن تلك الأمنيات ذهبت أدراج الرياح وستكون هناك هجرة عكسية، فكل يهودي سيرجع إلى المكان الذي جاء منه وهو الأمر الذي يدركه ساسة الكيان مما جعلهم يستعينون بأقذر الخونة من الدروز وغيرهم من المرتزقة، فهم لا يثفون بجيشهم أنه يستطيع أن يهزم المقاومة التي استطاعت أن تصنع سلاحها وتقضي على الخطر المفروض، وعملت على تسليح أبناء فلسطين حتى بأبسط الأشياء، لقد وجدنا الأعزل يواجه الجندي المدجج بالسلاح وسمعنا الأعزل يدهس الجنود بسيارته، والآن هناك آلاف من الصواريخ والقذائف والأسلحة صنعت محلياً من أجل التحرير لا الاستعراضات والمباهاة أمام الآخرين، كما يفعل الخونة والعملاء لإرهاب الشعوب المغلوبة على أمرها.
إن من ينظر إلى الأرقام الاقتصادية التي حققها الكيان الصهيوني يستيبعد إمكانية أن تتحول تلك المنظومة الاقتصادية الهائلة وتصبح أثرا بعد عين، لكن الوصف الصحيح أن هناك منظومة أمنية وأخرى اقتصادية هما عماد الكيان، فإذا انهارت المنظومة الأمنية وهو ما حدث بالفعل في السابع من أكتوبر، فإن المنظومة الاقتصادية انهارت أيضا، وهو ما تشير إليه الأرقام الحقيقية في كل المجالات، لقد سقط الاتحاد السوفيتي وانهار بين عشية وضحاها وكان أكثر قوة واستحواذا على الثروات، واقتصاده انهار وتفكك وأصبح عاجزا عن الاستمرار في شن الحروب وانكفأ على نفسه وهو القطب المنافس للمعسكر الرأسمالي، وغادر الصليبيون أرض فلسطين بفعل المقاومة والاستبسال من قبل رجال الإسلام أمام كل محاولات الاستمرار في السيطرة والاغتصاب للأرض وتدنيسها من قبل المجرمين، وغادرت الجيوش الصليبية الأراضي العربية والإسلامية إلى فرنسا وإيطاليا وانجلترا والبرتغال وهولندا واسبانيا وغيرها لا بإرادتهم وإنما بسبب المنطق الذي يؤمنون به ويحتكمون إليه وهو السلاح والقوة مع فارق جوهري وهو الأخلاق والدين والقيم والمبادئ، واليوم جاء الدور على اليهود فقد مكن لهم في الأرض بسبب القوة والخيانة والعمالة وقُدّموا وكشفوا حقيقتهم القذرة على مرأى ومسمع العالم أجمع، فقد مارسوا إجراما لا يقف عند حد، يتسلى بقتل الأطفال وإبادة النساء والعزل ويمارس الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، لأنه يرى أن غيره من أمم الأرض “بهائم” على صورة آدمية، خلقت لتسليته ومؤانسته لا غير ذلك، وهنا يأتي وعد الله الذي لا يخلف وعده بنصر عباده المؤمنين وهزيمة الشرك والكفر والطغيان ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” النور (55).
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
تشريح الانهيار العربي والشخصي في تجربة مسرحيّ التسييس سعد الله ونوس
لطالما سعى الأدب السوري المعاصر لتصفية حساب المجتمع من السلطة السورية المستبدة، ولعب أدباء سوريون معاصرون أدوارا كبرى في الدفاع عن مجتمعهم بالإضافة للتنكيل بالطاغية والسخرية منه، ومن هؤلاء الأدباء السوريين المعاصرين المسرحي الكبير الراحل سعد الله ونوس الذي شكلت عودته إلى سوريا عام 1963 نقطة انطلاقه الفعلية، حيث كتب أعمالا متأثرة بمسرح الذهن ورمزية توفيق الحكيم.
كان لقاء ونوس بالمسرح الأوروبي خلال دراسته في باريس حاسمًا في صقل رؤيته المسرحية والفلسفية. هناك، تأثر بمدارس بريخت وبسكاتور، وتبنى الاشتراكية كموقف فكري. مع نكسة 1967، أصيب ونوس بصدمة كبرى دفعته إلى كتابة مسرحيته الشهيرة "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، التي شكلت بداية مشروعه "مسرح التسييس" الذي سعى خلاله لتحويل المسرح إلى مساحة للنقاش السياسي والاجتماعي، رافعًا شعار البحث عن الحقيقة في وجه الأكاذيب الرسمية. لكن الحكومة السورية حالت دون عرض هذه المسرحية حتى عام 1971.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2روائية "تقسيم الهند" البريطانية.. وفاة الكاتبة الباكستانية بابسي سيدواlist 2 of 2بين المقامة والرواية.. نقد الأحوال المصرية في “حديث عيسى بن هشام”end of listلم يتوقف إبداع ونوس عند حدود المسرح، فقد تعاون مع المخرج عمر أميرالاي لإنتاج فيلم وثائقي بعنوان "الحياة اليومية في قرية سورية"، مسلّطا الضوء على معاناة القرويين. ورغم نجاح الفيلم عالميًا، منع عرضه داخل سوريا بسبب نقده الصريح للأوضاع المعيشية. توقفت كتاباته لفترة طويلة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، لكنه عاد عام 1989 برؤية مختلفة، محوّلا اهتمامه من القضايا العامة إلى مصير الفرد.
إعلانوكانت تجربة ونوس المسرحية تماهت مع واقع سياسي مضطرب، بدءًا من تفكك الإمبراطورية العثمانية، مرورًا بالانتداب الفرنسي، وصولا إلى النكبة والنكسة، إذ رأى ونوس في الهزائم العربية تجسيدًا لفشل سياسي وأخلاقي، كما عبّر في أعماله عن رفضه الدعاية الرسمية التي روجت لصورة وهمية مبالغ فيها عن قوة الجيوش العربية.
هشاشة السلطة والمجتمعوتقول عبلة الرويني "للجزيرة نت" إن كل نصوص سعد الله ونوس كانت للدفاع عن الحرية والديمقراطية، وحق الناس أن يكونوا أحرارا من خلال رؤيتهم الخاصة، وكان مشروعه نشر الوعي من خلال نصوصه المسرحية ومن خلال الفكرة التي يقدمها، رافضا لكل أنواع الاستبداد وأشكاله، وهو يرنو إلى وطن حر أبي، ليس فقط الوطن السوري، بل كل الوطن العربي الكبير، وكانت فلسطين تحتل القلب من اهتماماته وأعماله، وكان متفاعلا مع واقعه، يمرض لمرضه، ويسعد لأفراحه.
عندما تتأزم الأمور، ويصبح الحلم أشبه بالضباب، يخطر له دائما أن يغوص في دخيلة نفسه ولا يخرج، يدخل إلى سراديبه ليمارس لذته السرية، في نهاية السبعينيات وبعد عقد اتفاقية كامب ديفيد، امتد صمت سعد الله ونوس وطال 10 سنوات كف خلالها عن الكتابة الإبداعية، بعد أن تبددت الأحلام، وكثير من التصورات مزقتها الأحداث، كانت التحولات العنيفة التي بدأت تتوالى في السبعينيات قد وصلت إلى لحظة الانكشاف حيث ضياع المشروع وغياب أي حياة ديمقراطية.
وفي كتاب "حكي الطائر" تقول المؤلفة عبلة الرويني: "في سنوات سعد الله ونوس الأخيرة ومنذ أن دهمه المرض عام 1992 زاد غوصه الداخلي ورقت صلته بالعالم، وهو يصف السلطة في أعلى قوتها وأكمل هشاشتها ويقول:
"بلغت السلطة أو الدولة شكلا عاليا من الوضوح والقوة، وبالمقابل تم تهميش المجتمع، وتبدت في الوقت ذاته هشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة وعلى صياغة أساليب نضال مبتكرة وفعالة، كذلك سقطت الكثير من الأوهام المتعلقة بالكفاح والبطولات والشعب والشهادة والشهداء والمنظمات.. وبعد حرب الخليج وصلنا إلى مرحلة عري كامل"
وربط سعد الله ونوس بين المرض القومي ومرضه الجسدي برباط متين وقوي، ولم يفصل الانهيار القومي عن انهيار جسده بسبب السرطان، "انهار حلمنا الشخصي الذي هو المسرح، انطفأت جذوته، وتداعى في غياهب القمع والشمولية وانسداد الحوار في المجتمعات وغياب كل ما هو مدني في حياتنا. إننا مهزومون حتى العظم، وحتى الحفيد الرابع أو الخامس، أقصى حدود الإيجابية هو أن نقبل الهزيمة لا أن نراوغها، أن نواجهها صراحة لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال. ومن كوجيتو (أنا مهزوم) ينبغي أن أبلور حقيقة (أنا موجود) أن أتدرب على تحمل هذا الوجود ومفارقته في آن واحد، لقد انهزمنا دون عزاء. دون تظليلات وكان من قبيل الحاصل أن ينهزم الجسد. بعد ذلك لم يفاجئني السرطان".
إعلانوكما في "حكي الطائر" كانت كثير من نصوص ونوس هي مراجعة للذات، ولأوضاع جيل من المثقفين بسَّطوا التاريخ من فورة حماستهم فحولوه إلى عدد من اللافتات والشعارات، وبوصفه مثقفا كان عليه أن يفهم وبعمق ما جرى في وطنه وفي هزيمة 67، وانكسار المشروع القومي والمشروع الناصري، وتزايد هيمنة السلطة في مقابل تهميش المجتمع.
عبلة الرويني في كتابها "حكي الطائر": كل نصوص سعد الله ونوس كانت للدفاع عن الحرية والديمقراطية (الجزيرة) الحلم الفلسطينيالشاعر إبراهيم داود رئيس تحرير مجلة إبداع وأحد أصدقاء سعد الله ونوس في مصر يقول "للجزيرة نت": "أهم صفات سعد الله ونوس أنه كان منحازا للقيم الإنسانية العليا للبشرية كلها وليس لبلده فقط، هو كان نصيرا للحق الفلسطيني بالطبع من موقف أخلاقي، وكان يرى أن ذوبان الكيان الصهيوني في المنطقة من المستحيلات، مهما زادت وحشية المحتل، ووضح هذا في مسرحية الاغتصاب التي نشرها للمرة الأولى في مجلة أدب ونقد، وكانت تتناول علاقة طبيب نفسى إسرائيلي يعالج مريضا فلسطينيا، هو رأى أنه من الصعب أن يعالج الجاني ضحيته، ولكن حين أخرج النص المخرج العراقي جواد الأسدي، وأبدى تفاؤله بالعلاج غضب سعد جدا.
سعد الله ونوس موهبته أكبر من الجغرافيا، ولذلك تجد أن أعماله صالحة للعرض في كافة الأقطار، هو ضد الاستبداد وضد التطرف الديني وضد العنصرية وضد التبعية للغرب، لم يكن بلاغيا في خطابه، ولكنه كان يحفر في طبقات التاريخ العربي بحثا عن أسباب خيباتنا، وكيف نجح العنصريون الأغراب في احتلال أرضنا، كان مثقفا كبيرا، يفهم في الشعر والموسيقى والتاريخ وعذابات البشرية، في ملحمة السراب آخر أعماله توقع ما نحن فيه الآن، وكيف نجح الغرب في تحويلنا من مواطنين إلى زبائن، وفي الوقت نفسه يساعد الكيان الإسرائيلي لكى يحول لقطاء العالم إلى مواطنين في أرض لا يملكونها، أما ما يحدث في سوريا الآن، والتخلص من طاغية جثم هو أبوه على صدر شعبه كل هذه السنوات، أعتقد أنه لو كان حيا، لانتظر قليلا قبل أن يدلي بدلوه، لأن ما حدث هو الجهاد الأصغر، أما ما يحمله المستقبل لهذا الشعب الحبيب فهو في علم الغيب، وكما يقول سعد الله ونوس وهو يتمسك بأهداب الحياة :"نحن محكومون بالأمل، وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".
كثير من نصوص ونوس هي مراجعة للذات ولأوضاع جيل من المثقفين بسطوا التاريخ من فورة حماستهم فحولوه إلى عدد من اللافتات والشعارات (مواقع التواصل) سيرة مسرحي الساحل السوريولد سعد الله ونوس في 27 مارس/آذار 1941 في قرية حصين البحر القريبة من طرطوس، حيث نسجت الطبيعة الساحلية وأجواء القرية البسيطة ملامح نشأته الأولى، ورغم نشأته في أسرة متواضعة، فقد نهل منذ صغره من معين الأدب، فكان أول كتاب اقتناه وهو في الـ12 من عمره "دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران، قبل أن يتسع أفقه بالاطلاع على أعمال طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وغيرهم من أعلام الأدب.
إعلانفي عام 1959، أتم دراسة الثانوية العامة، لينتقل إلى القاهرة بمنحة دراسية لدراسة الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. هناك، ترك الانفصال بين مصر وسوريا أثرًا عميقًا على وجدانه، فكانت هذه الهزة السياسية بمنزلة الدافع الأول لكتابة مسرحيته الأولى "الحياة أبدا". بدأت هذه المرحلة من حياته في تشكيل وعيه الفني والسياسي، فغاص في الأدب الغربي والمسرح العبثي، متأثرًا بأعمال ألبيرتو مورافيا وصمويل بيكيت وغيرهم.
عاد ونوس إلى دمشق عام 1963، حيث عمل في وزارة الثقافة، وتبلور نشاطه الأدبي بنشر مسرحيات قصيرة مثل "فصد الدم" و"جثة على الرصيف"، قبل أن يصدر مجموعته الأولى "حكايا جوقة التماثيل" عام 1965. في عام 1966، ابتعث إلى باريس لدراسة المسرح الأوروبي، حيث تأثر بأعمال برتولد بريخت وجان فيلار، وأثرت نكسة 1967 بعمق في تجربته الإبداعية، مما دفعه لكتابة مسرحيته الشهيرة "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران".
تميزت مسيرة ونوس بإنجازات بارزة في المسرح العربي، منها تأسيس مهرجان دمشق المسرحي عام 1969، وإصدار أعمال خالدة مثل "الفيل يا ملك الزمان" و"مغامرة رأس المملوك جابر" في السبعينيات، ترجم وأعد أعمالًا عالمية، وأسهم في تأسيس مجلة "الحياة المسرحية"، التي أصبحت منصة رائدة للفكر المسرحي.
شكلت كتاباته في التسعينيات قفزة نوعية، حيث تخلى عن مسرح التسييس ليغوص في قضايا الفرد والمجتمع، كما في "طقوس الإشارات والتحولات" و"منمنمات تاريخية". ورغم معاناته مع مرض السرطان في سنواته الأخيرة، استمر في الكتابة، ليختم مسيرته بمسرحية "الأيام المخمورة".
رحل سعد الله ونوس في 15 مايو/أيار 1997، تاركًا إرثًا أدبيًا تجاوز الـ20 مسرحية، وملهمًا أجيالًا من المسرحيين بأفكاره وكتاباته التي جسدت أوجاع الإنسان العربي وطموحاته.