ثقافة الشهادة وروحية الاستشهاد صنعت طوفان الأقصى الغزاوي الحلقة الثانية واليماني
تاريخ النشر: 6th, January 2024 GMT
الفرز والتمييز وأهميته في تنمية الوعي أجيالنا ومستقبل الثورة الجهادية ثقافة الشهادة مشروع لتعزيز الروح الثورية الجهادية
الثورة / خالد موسى
الفرز والتمييز وأهميته في تنمية الوعي
ثقافة الجهاد والشهادة من أهم انعكاساتها في ميدان الحياة والتحدي والصراع مع الأعداء من الكافرين والمنافقين أنها تصنع حالة فرز بين المؤمنين والمنافقين، وتشكل حالة تمييز بين الأعزاء المعتزين بعزة الإيمان بالله، وبين الجبناء الحريصين على الحياة القابلين بحياة العبيد و الأنعام، والراضين بحياة الأغنام التي تساق من وإلى حظائرها، وتورد إلى مرعاها، ويقدم لها مأكلها ومشربها حتى يأتي دورها للذبح أو الموت، وشعوب المسلمين اليوم البعيدة عن الثقافة القرآنية والثقلين والمؤمنة بشرعية الأنظمة الطاغوتية المحسوبة على الإسلام، والحاكمة باسم الإسلام هذه الشعوب -مع الأسف-تؤمن بشرعية من لم ينالوا عهد الولاية من الله ممن قال الله عنهم(لا ينال عهدي الظالمين) تلك الأنظمة التي تشعل الحروب والفتن وتقدم القتلى خدمة لليهود والنصارى، وفي الجبهة التي ترضى عنها اليهود والنصارى لا في الجبهة التي يرضى عنها الله.
«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا».
إن القرآن الكريم ببصائره وبيانه ونور آياته الهادية إلى الصراط المستقيم وإلى سواء السبيل يمثل الزاد الإيماني لكل المجاهدين الذين يطلبون إحدى الحسنيين ويخوضون الغمرات، ويأنسون بالموت ولا يمكن أن يضعف إيمانهم، ويقل وعيهم مهما كانت الدعايات والأراجيف بل إن وصايا الشهداء، ومشاهد تضحياتهم واقتحاماتهم، وعباراتهم الخالدة كفيلة بصناعة وعي عال وقوي تسقط أمامه كل العوائق والأكاذيب وتتلاشى معه وساوس شياطين الإنس والجن قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ.
إن حالة الفرز تتجلى أكثر عند احتدام المواجهة بين الحق والباطل، وبين قوى الخير والشر، وبين المستضعفين الواعين والمستكبرين المضلين الذين يزينون طغيانهم بعناوين براقة، وشعارات زائفة، ويقدمون أنفسهم كمصلحين حريصين على مصالح الناس كما يفعل طغاة وفراعنة اليوم سيرا على خطى فرعون بني إسرائيل الذي وثق الله موقفه الكاذب في القرآن ليكون درسا مهما لمعرفة خطاب الفراعنة: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.
لقد كشف القرآن الكريم حالة الفرز، وأظهر ما تكنه صدور المنافقين ومرضى القلوب، ووثق ما سيتنطق به ألسنتهم من كلمات، وتتداوله ثقافتهم المنحطة من عبارات سيئة تقلل من عطاء الشهادة، وتطعن في ثقافة الاستشهاد قال الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وقال عنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
فحالة الفرز بين المواقف الإيمانية لعشاق الشهادة وعشاق الحياة الدنيئة قائمة والمنافقون لا يكتفون بالحياد، والسعي لإضعاف الروح المعنوية لعشاق الشهادة، والمحبين للقاء الله بل يسعون بخبث ومكر إلى لوم المجاهدين بعد عودتهم أو زيارتهم من المعركة أو الجبهة، وضرب نفسياتهم واستدراجهم والوصول بهم إلى الشعور النفسي بالندم على الجهاد في سبيل الله.
أجيالنا ومستقبل الثورة الجهادية
مستقبل الثورة الجهادية ومسار التحرك الثوري ضد الظلم والظالمين، والطغاة المستكبرين يجب أن يبقى خالدا وحيا وإرثا بين الأجيال تتوارثه جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الارتباط الروحي، والتمسك الواعي بالقرآن وقرناء القرآن السابقين بالخيرات الذين قدموا للأجيال إرثا جهاديا مقدسا، وتجربة ثورية عظيمة، ومنهجا نضاليا أسهم في إعادة صياغة التاريخ، وأثمر حرية للمستضعفين.
مستقبل الثورة الجهادية مرتبط بمدى ومستوى المحبة والتولي الصادق لصفوة البشرية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أصلحوا فساد الأمة، وأنقذوها من الهوان والذلة في المنعطفات التاريخية الحساسة وعلى رأسهم الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة الذي ترك للأجيال والشباب إرثا كبيرا من الإباء والشموخ والصمود والصبر والتحدي إرثا بقيت حيويته عبر القرون رغم كيد الكائدين وسعي الساعين لمحوه إلا أنه وصل إلى الأجيال كمشروع ثوري ونموذج جهادي راقٍ تستلهم منه الأجيال دروس الخلاص والانعتاق من المستكبرين كل المستكبرين على مستوى ساحة الإسلام الداخلية والخارجية، وهذا الحضور الثوري له شواهده ومصاديقه العملية في واقع اليمن والأمة، على مستوى حيوية المشروع القرآني والمسيرة القرآنية، وعلى مستوى محور المقاومة ورجالها الحسينيين الكربلائيين الذين يرفعون شعار “هيهات منا الذلة” ويتمثلون قول الشاعر في الاستهانة بالخطوب والمخاطر.
وإن لم يكن إلا الأسنة مركباً **فلا يسع المضطر إلا ركوبها.
تساؤلات أخيرة
كيف وصل اليمن إلى المستوى القوي والموقف المتقدم الذي يؤهله لضرب الكيان الصهيوني؟
كيف أصبح اليمن مصدر قلق ورعب للأعداء؟
بفضل من؟
وبجهود من؟
وبإعداد من؟
وبتحرك من؟
من الذي أسس لمثل هكذا مواقف وقرارات وخطوات تغيظ الأعداء؟
وماذا يعني أن تصبح اليمن وقيادتها وأنصارها قوة كبرى تهدد وتكون عند مستوى وحجم التهديد لأمريكا وإسرائيل؟
ماذا يعني ألا نبالي بتهديد ووعيد أمريكا والغرب الكافر؟
ما هي الثقافة التي أهلت أنصار الله قادة وأفرادا وشعبا ليكون بهذه الشجاعة والجرأة والإقدام؟
الإجابة على كل التساؤلات
إنها التربية الإيمانية للثقافة القرآنية التي تربي رجالها على مائدة القرآن والتمسك به والتولي والتسليم لأعلامه الهداة الذين يربون الأمة على العزة والكرامة والتضحية والفداء وإعلاء كلمة الله وإقامة دينه.
إنها ثقافة الشهادة التي تشهد الحقائق والوقائع والأحداث على أنها الثقافة التي تجعل للحياة قيمة وقوة وفاعلية وأثرا يمتد من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى وصدق الله القائل: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.
* عضو رابطة علماء اليمن
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الشهادة في فكر الإمام علي “عليه السلام”
العلامة / عبدالمجيد الحوثي
أطلقت الشهادة في اللغة على:-
1 – “الحضور على الواقع عند وقوعه”. ومن ثم يقال: يرى الشاهد ما لا يراه الغائب.
(ﻭﺷﻬﺪﻩ ﻛﺴﻤﻌﻪ ﺷﻬﻮﺩا ﺃﻱ ﺣﻀﺮﻩ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ، ﺟمعه ﺷﻬﻮﺩ، ﺃﻱ ﺣﻀﻮﺭ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ ﻣﺼﺪﺭ)، وهذا كما قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [سورة الكهف : 51] اي لم أحضِرهم عند خلقها حتى يكونوا شهودا عليها، وكما قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [سورة البقرة : 133] أي أم كنتم حاضرين حين حضر الموت يعقوب عليه السلام
2 – وتقال على معنى “أداء ونقل الواقع إلى الغير”:
(ﻭﻳﻘﺎﻝ: ﺷﻬﺪ ﻟﺰﻳﺪ ﺑﻜﺬا ﺷﻬﺎﺩﺓ، ﺃﻱ ﺃﺩﻯ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ)، فإن كان أداء الشهادة بحق وعلى مقتضى الواقع سميت شهادة حق، كما قال تعالى : (َإِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : 86]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [سورة النساء],
وان كانت بخلاف الحق والواقع سميت شهادة الزور كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان : 72].
والشهادة في القرآن الكريم اطلقت على المعاني المتقدمة، وأطلقت أيضا على معان أخر منها:
3 -“اقامة الحجة وتوضيح الحق للناس ودعوتهم إليه”
حتى لا يكون للناس على الله حجة بأن يقولوا لم يدعنا أحد إلى الحق ولو دعانا لأجبنا، كما قال تعالى:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [سورة النساء : 165]، ثم بعد إقامة الحجة يقومون بأداء الشهادة أمام الله يوم القيامة بأنهم قد أقاموا الحجة على عباده.
وبهذا المعنى اطلق على الرسل صلوات الله عليهم بأنهم شهداء، كما قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [سورة النساء : 41]. وكما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا).[سورة المزمل : 15].
وبهذا المعنى أيضا أطلق على الأئمة الهداة الدعاة إلى الحق من آل البيت عليهم السلام بأنهم شهداء على الناس، كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).[سورة الحج : 78].
وبهذا المعنى أيضا سمى الله الأمة التي تقوم بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) [سورة آل عمران : 110]، واطلق عليها انهم شهداء على الناس ووسمهم بالوسطية فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة : 143].
معنى الشهادة في سبيل الله
بعد أن عرفنا معاني الشهادة في اللغة العربية والقرآن الكريم، ينبغي أن نعلم أن لفظ الشهادة في عرف الشرع قد غلب استعماله في من يُقتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإقامة الحق.
وهو أيضا في هذا الموضع مأخوذ من إقامة الحجة والشهادة لله يوم لقائه بالدعوة للناس إلى الحق “وقبولهم، أو رفضهم له”
فدم الشهيد الذي سُفك في سبيل الله وروحه الطاهرة التي أزهقت في سبيل الدعوة إلى الله ونصرة دينه هي أكبر شاهد على أولئك المجرمين الذين حاربوا الله ورسوله وخالفوا الحق وقتلوا الذين يأمرون بالقسط والحق من الناس، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران : 21].
فالشهادة في سبيل الله هي بذل الروح والنفس في سبيل الدعوة إلى الحق وإقامة الحجة على الناس بما يقطع العذر لهم أمام الله.
ولكن من المهم جدا ان نعلم انه ليس كل من يقتل في المعركة يعتبر شهيدا ويكتب عند الله شهيدا مهما لم يكن قتاله لله في سبيل إقامة الحق والدين ملتزما بالشرع وبالتوجيهات الإلهية في أقواله وأفعاله وجميع سلوكياته؛ إذ كيف يكون شاهدا على من خالف الحق وهو لم يلتزم بالحق في أقواله وأفعاله، فلا يكفي ان يكون الإنسان تحت راية الحق أو مع قيادة محقة أو لأنه يقاتل أهل الباطل في ان يُكتب عند الله من الشهداء مهما كانت تصرفاته وأعماله مخالفة للحق ولتعاليم الله سبحانه؛ ولهذا ورد في كثير من الروايات أن أناسا كانوا يقاتلون تحت راية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشركين فيقتلون، فيقال: يا رسول الله، فلان شهيد، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا؛ إنه في النار في عباءة غلها)، (لا؛ إنه لا يدخل الجنة عاص).
الشهادة في فكر ونهج الإمام علي
وأما إذا جئنا إلى الشهادة في فكر ونهج الإمام علي عليه السلام فإنا نرى الإمام علي عليه السلام مع ما كان عليه من صفات الفضل وخصال الخير التي تفرد بها؛ فهو: من تربى في حجر الرسول، ونما تحت إشرافه ورعايته، وهو السابق إلى الإسلام؛ وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو من قام الإسلام بسيفه كما قال الشاعر:
وبسيفه قامت قناة الدين
لولا سيفه ما قام منه قناه
وهو عيبة علم المصطفى؛ وباب مدينة علمه؛ وهو أخوه، ووصيه، وخليفته من بعده إلى غيرها من الفضائل التي لا تحصى لا تحتويها المجلدات الكبار.
ولكن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان مع ذلك حريصاً أشد الحرص على أن لا يفوته مقام الشهادة ودرجتها العظيمة، فهو من كان يتمناها في كل معركة يخوضها دفاعا عن الإسلام. بل كان يدعو ويبتهل إلى ربه أن يوفقه للشهادة.
ولما مضت عدة غزوات ولم يحصل على الشهادة تقدم إلى أخيه وقدوته ومثله الأعلى بالطلب أن يتقدم بالدعاء إلى ربه أن يرزقه الشهادة في سبيله.
ولما مرت عدة معارك لم ينل فيها الإمام علي عليه السلام الشهادة أخذ يعاتب حبيبه ويشكو اليه: (يا رسول الله طلبت منك ان تدعو الله لي بالشهادة وأنا أرى إخواني يستشهدون دوني)، فيرد عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (انها من أمامك يا علي ولكن من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أما انها ستخضب هذه من هذه -وأشار إلى رأسه ولحيته- فكيف صبرك عندها يا علي)، فيجيب الإمام علي بتلك الروحية العظيمة التي باتت تعشق الشهادة في سبيل الله وتعرف قدرها ومنزلتها، فتعتبرها وسام شرف ودرجة رفيعة، يحمد الله الإنسان ان منحه إياها، فيقول الإمام علي عليه السلام مجيبا على حبيبه المصطفى: (ليس ذلك من مواطن الصبر يا رسول الله بل هو من مواطن الشكر).
هكذا عاش الإمام علي عليه السلام طيلة حياته وهو يحلم بالشهادة في سبيل الله ويبذل حياته للجهاد في سبيل الله، “لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه”، بل كان كما قال عليه السلام: “والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الرضيع بثدي أمه”، وهو القائل عند قتال الخوارج: “والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم”.
وقد كان من إتمام الفضل والشرف لأمير المؤمنين عليه السلام أن يرزقه الله الشهادة على يد شر الخلق والخليقة البذرة الشيطانية التي أنتجت منهج التكفير للمسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم، والذين أخبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم انهم “شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، فكان أمير المؤمنين هو من نال شرف قتل هؤلاء الخوارج المارقين التكفيريين في وقعة النهروان.
وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة بقتلهم قالت من قتلهم؟؟ فقيل: علي بن أبي طالب، فقالت: أما إنه لا يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول فيه ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعته يقول فيهم :(هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة).
وهؤلاء الخوارج التكفيريون هم من حدثنا عنهم وعن صفاتهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: “يأتي أناس يحسنون القول ويسيئون الفعل”، “يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم”، “يحسبونه لهم وهو عليهم”، “تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وتلاوتكم عند تلاوتهم”، “يحفون شواربهم ويعفون لحاهم”، “أزرهم إلى أنصاف سوقهم”، “يحاربون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان”، “طوبى لمن قاتلهم وقتلوه”، “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلة عاد”، “هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، “هم كلاب أهل النار”.
عندما نستمع إلى هذه الأوصاف التي وصف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بها هذه الفرقة المارقة الضالة ندرك مدى ضرر وخطر هذا الفكر التكفيري على مستقبل الأمة.
ولهذا فلا يستغرب أن يقوم هؤلاء بالتقرب إلى الله -على زعمهم- بقتل أمير المؤمنين ويعسوب الدين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين؛ أخي رسول رب العالمين؛ ووصيه، وخليفته من بعده، من يدور مع الحق والحق يدور معه، من هو مع القرآن والقرآن معه، من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
لا غرابة ان يقوم أشقى الخلق بالتربص لاغتيال هذه الشخصية التي انهد بمقتلها عمود الدين وتهدمت أركان اليقين وأظلمت الأرجاء واسود الفضاء.
فتربص اللعين لأمير المؤمنين سلام الله عليه وهو خارج لأداء صلاة الفجر في المسجد فضربه بسيف كان قد صقله بألف دينار وسمّه بألف دينار فشق به هامته المنيفة حتى سال الدم على لحيته الشريفة كما أخبر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنا وفي هذه اللحظة نال أمير المؤمنين ما كان ينتظره بلهفة وشوق منذ أيام شبابه ولم ينله إلا وقد بلغ الثالثة والستين من عمره وعند ذلك يطلق أمير المؤمنين صرخته التي تدل على مدى ترسخ وتجذر حب الشهادة في قلبه وكيانه قائلا:(فزت ورب الكعبة).
فاز لأنه نال شرف الشهادة في سبيل الله، فاز لأنه سار على النهج القويم الذي يؤهله لأن يكون من الشهداء مع كل ما ناله من الفضل والشرف في مسيرة البذل والعطاء اللامحدود التي قضى عمره بأكمله في سبيلها، فصلوات الله عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث إلى ربك مرضي القول مشكور السعي تحمل لواء الحمد وتقف تسقي المؤمنين على حوض الرسول الأمين، وجعلنا الله ممن سار على دربك واهتدى بهداك ورزقنا الشهادة في سبيله بحق محمد وآله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.