إنَّ حرصَ الباحث على مسايرة ميوله الخاصة أو ميول مجتمعه، لن يساعد في إنتاج العلم، بل لن يؤدي - على الأرجح - إلى أكثر من «تطييب الخواطر»، أي الوصول إلى نتائج مريحة لنفس الباحث أو «جماعته»؛ لأنَّها - ببساطة - تؤكد ما كانوا يقولونه دائماً وما يرغبون في قوله، في ثوب جديد أو لغة مختلفة.

في ثاني إصداراته، بعد «بطه يا بطه.

.. شيلي الشنطة»، يفاجئ الفنان المفاهيمي أنس الشيخ من يود قرأته بديوانٍ نثري، يحمل عنوان «أشعار كولاجية». ديوانٌ فارقٌ يدخل التركيبية والمفاهيمية، بمفهومها الفني، إلى النثر بمفهومه النصي، ليخلق شكلاً جديدًا أقرب للفن منه إلى الديوان التقليدي، كما فعل في كتابه السالف، جاعلاً المتلقي يحسبهُ كما لو أنهُ يسجل اعتراضاً على واقعٍ مختلف، منبعه أشعار منتجة كما لو أنها من ذكاء اصطناعي، بيد أنها مولدة من إنسان أراد أن يسلط الضوء على تلك الفارقية لعصر يراه نسبياً، وشكوكيًا، ومتشظيًا.. وهو إلى جانب ذلك، عصر يمتاز بقولبة المفاهيم، وانعدام معناها، لتجيء هذه الأشعار معبرةً عن ذلك شعراً، وفناً، وآلية ابتكار وإيجاد مختلفة للنص.. فهو نصٌ ليس لأنس (بوصفها نصوص مقتطعة من قصائد شعراء آخرين)، وهي له (بوصفها مركبة من قبله)!
إذًا فأشعار الديوان ليست أصيلة البتة، إنها هجينة، مولدة من خلال القص واللصق، إذ يبين أنس «في زمن النسبية، الشكوكية، التشظي، قيلت كل الأشياء وأنهكت، ولم يعد هناك شيء جديد، سواء جمالي أو مفاهيمي، يمكن إنتاجه»، الأمر الذي يستنتج منه أنس بأن «الإصرار على مواصلة الانغماس في أوهام الأصالة، الفرادة، الجوهرانية، وفي تقديس وتجميد العقل، القلب، الوعي، الأنا»، عبث صرف. ولهذا يشخص الواقع كما لو أنه يعاني حالةً حرجة، وكل ما بوسع الإنسان إزاءه «القيام بعملية (استيلاء وإخفاء) لنصوص الشعراء عبر القص، البعثرة، الخلط، التجميع، اللصق... وذلك بغية إنتاج (أشعار هجينة) قائمة على الاختيار والترتيب الاعتباطيين، وعلى التكرار الآلي الرتيب». لكن هل لجأ أنس للاعتباطية بمفهومها العشوائي في ظل تمام المعنى أو مقاربته؟ يقول في إحدى القصائد «في عيون الرفاق/‏ هي الدموع تكتم الريح/‏ لستُ أشهدُ على ما يقولون/‏ وحنينٌ جف كالشعب/‏ وحبي أكثر علواً من أن يحمله فضاء/‏ شجرة خضراء/‏ نحرس أحلامنا/‏ في هذه الكومة/‏ (...)/‏ التي نحولها إلى انطلاقاتٍ في التحول». ربما لن نشهد تناسقاً نغمياً أو قافية في هذا الديوان، لكنا نشهد وحدة في الموضوع أحيانًا، واختيارًا متعمدًا، أو ربما اعتباطي بمحض الصدفة، يؤلف بينه القارئ أنماطًا من المعاني المرادة من هذه القصيدة أو تلك، والعقل بارعٌ في توليف الأنماط، وهو ما يعول عليه أنس كما يبدو، لكن ما الذي أراده أنس من ذلك؟ أهو احتجاج على عصرٍ فاقدٍ للأصالة والمعنى كما يراه في بعض جوانبه؟ أهو تأييدُ أم معارضة لطبيعة النصوص في هذه الأيام؟ أهو تسليطُ للضوء على وهم يستشري في الضن بأنّا بارعون دون براعة؟ أهو اعتراضٌ على كل شيء، كما فعل الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) فلسفياً، وكما فعل (مارسيل دوشامب) فنيًا؟ أم إن أنس أراد أن يؤكد على المفاهيم التي يرى بأن العصر يفتقر إليها (الأصالة، الفرادة، الجوهرانية) من خلال نقضها؟ فأشعار الديوان تثير سؤال الحقوق والملكية؛ لمن تنسب القصائد؟ وما دور أنس؟ أهي عائدة له لأنه أعاد توليفها؟ أم للشعراء التي اقتطعت قصائد أنس من أبياتهم؟ كأن أنس يريد من هذا الديوان، أن يثير كل تلك الإشكالات، التي يفرضها الواقع اليوم، خاصة مع الذكاءات الاصطناعية التي انفجرت بشكلٍ كبير خلال العامين الأخيرين، والتي بدورها فجرت معها نقاشات الأصالة، والفرادة، والجوهرانية، وحقوق الملكية الفكرية، والتأليف... فلمن تعود ملكية النصوص التي أعاد الذكاء الاصطناعي توليدها؟ أو الرسومات والصور التي أعاد تشكيلها؟ أهي للذكاء الاصطناعي كونه أعاد صياغة عدد كبير جدًا من الصور والنصوص التي تدرب عليها، فولفها في شكلٍ جديد، أم لمالكيها الأصل الذين كتبوها أو رسموها أو التقطوها بشكلٍ مغايرٍ تمامًا عما أعاده الذكاء الاصطناعي... وما أخلاقية القيام بذلك؟ هكذا إذًا، يثير ديوانُ من الأشعار الهجينة، كل تلك الإشكالات، ليضع المتلقي أمام تساؤلات شتى، سواء تلك المتشكلة من قراءة النصوص المركبة، أو من أساس إصدار ديوانٍ كهذا، والذي جاء في إحدى قصائده المولفة من قصاصات: «وردةٌ في الفجر.../‏ انتزعوه من حضنها الوثير، وساروا به - حافيًا - في طريق /‏ لكنما البكاء كلب هائل /‏ في مجال انعدام الجاذبية /‏ كلما مسنى الحزن /‏ ترك كلماته تتجول، تحفر في باطن الأرض /‏ لا يوائم الطقس صهيله /‏ توشوش أرواحهم السادرة/‏ ها هي حدائق روحي مفتوحةٌ لك /‏ كي أفتح شجرًا بسكين رديئة في رئتي».

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا

إقرأ أيضاً:

بدر بن عبد المحسن.. تجربة متفردة توجته بلقب أمير الشعر العربي

شهدت قلعة الجاهلي التاريخية ليلة استثنائية من برنامج "ليالي الشعر: الكلمة المغناة"، إحدى أهم فعاليات مهرجان العين للكتاب 2024، خصصها لتناول سيرة ومسيرة أمير الشعر العربي الراحل بدر بن عبد المحسن آل سعود، ضمن محور "الغائب الحاضر"، وهو الذي قاد ثورة الشعر الشعبي عبر قصائد خالدة توجت بالشهرة والانتشار.

تفاصيل الأمسية 


وتحدث في الأمسية، التي نظمها مركز أبوظبي للغة العربية، الشاعران علي السبعان وعلي العبدان، وحاورتهما الإعلامية والشاعرة لمياء الصيقل، حيث بدأت الفقرة بعرض فيلم قصير لخص رحلة الأمير بدر، الذي صدحت بأشعاره أصوات أشهر المطربين العرب، وافتتاحيات أكبر المهرجانات السعودية، وأصدر دواوين شعرية عكست صورة المجتمع بعمق وشفافية، حتى منحه الملك سلمان "وشاح الملك عبد العزيز"، وكرمته "اليونسكو" في اليوم العالمي للشعر، قبل أن يودع جمهوره ومحبيه هذا العام، ويرثيه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في قصيدة مطلعها "الشعر ما يفنى ولا يموت الإبداع، لكن بدر من بدوره ترجل".

 

قصيدة “حروف الذهب” لعلي السبعان 


واستهل الشاعر علي السبعان حديثه بإلقاء قصيدة "حروف الذهب"، التي نظمها الأمير الراحل، وأهداها لدولة الإمارات، قبل أن يحكي عن شخصية الأمير الإنسانية والفكرية بإسهاب، موضحًا أن تجربة الراحل الشعرية تجربة نادرة ومكتملة ومتفردة؛، فهو شاعر موسوعي لم يؤطر نفسه في إطار محدد، وأبدع في الأغنية، وجعلها تنتشر في أرجاء العالم العربي.


وأضاف أن الأمير كان متميزًا بالقصيدة الكلاسيكية بعراقتها وأصالتها، وقد أبدع في الكلمة المغناة وخرج عن التفعيلة، مشيرًا إلى أن شعره كان يشبه إنسانيته وشخصيته.


ورأى السبعان أن الأمير الشاعر كان فدائيًا في تحديث الشعر، وكان جريئًا في أشعاره، وأيضًا كان له تأثير كبير على الأغنية، فقد حدّثها ورفع سقف اللغة والفكر، واقترب إلى الفصيح لذلك تجد له مريدين كثر في العالم العربي كله.

الشاعر والباحث علي العبدان


من جانبه، أوضح الشاعر والباحث علي العبدان، أن الأمير بدر أبدع في القصيدة القديمة كما أبدع في الشعر الحر. وقال إن "الأمير بدر يمثل شعره ويمثل قصائده، وليس غريبًا أنه أدخل الحداثة إلى الشعر الشعبي، فهذا نتيجة طبيعية للحياة والبيئة التي عاشها الراحل، فقد عاش في مصر، ودرس فيها فترة الطفولة، ثم سافر إلى بريطانيا وأميركا، وتابع دراسته العليا هناك، وهذا انعكس في أشعاره، فالاغتراب والعزلة وعلاقته بأخيه الوحيد كلها عوامل صقلت نفسية الشاعر وأثرت في شعره".


وأضاف العبدان أن الشاعر الشعبي عادة ما يتواجد بين شعراء شعبيين، لكن البيئة التي عاشها الأمير بدر كانت مختلفة، فقد عاش في مصر بين شعراء عرب، واطلع على الشعر الحديث، كما عاصر الغرب وبالتأكيد اطلع على أشعارهم، لذلك خلق توجهًا جديدًا يتناسب مع البيئة التي عاش فيها والتنقلات التي تنقلها، كما عرف قيمة المسافات والجدار والعزلة، ثم أنتج العديد من الأغاني الخالدة مثل أغنية "الرسائل" التي غناها محمد عبده، وأغنية "وترحل" لطلال مداح، ففي فترة السبعينيات كانت الحداثة العربية موجودة في القاهرة وبيروت، وكان هو في طريق وسط بين الأصالة والحداثة، ونجح بأن يدخل الحداثة للشعر من دون أن يتخلى عن الأصالة، كما أن موهبته في الرسم ساعدته على المزيد من التألق في الشعر، فهو ينقل مشاعره سمعًا وبصرًا.

مقالات مشابهة

  • الحل الطبيعي لتساقط الشعر.. حل يعيد لشعرك قوته ولمعانه
  • الاستثمار المركب: كيف تجعل 100 ألف ريال تتحول إلى 5 ملايين؟
  • مهرجان الأقصر للشعر العربي يختتم فعالياته
  • احذر.. حلاقة الشعر قد تسبب العدوى
  • دون أدوية.. طرق طبيعية لعلاج تساقط الشعر
  • أهم فيتامينات الشعر لمنع تساقطه وتقويته
  • فوائد زيت اللافندر للبشرة والشعر| مضاد للفطريات ويعالج حب الشباب
  • تجربة بدر بن عبد المحسن في "العين للكتاب"
  • بدر بن عبد المحسن.. تجربة متفردة توجته بلقب أمير الشعر العربي
  • محافظ الدقهلية يتفقد الإدارات الخدمية التي تقدم خدمات مباشره للمواطنين داخل الديوان العام