بداية التسعينات، ذهبت مع أبى لقرية القرين بالشرقية، كنا فى زيارة لصديقه استمرت ليومين وليلة واحدة، قابلنا الرجل بمحبته المعتادة ولهجته الحميمة وحكايات لا تنتهى عن ذكريات قديمة. فى الليل كان جهازا الفيديو والتليفزيون على كرسيين منفصلين، فى فناء المنزل، الذى يظلله النخل وتكتسى أرضه بالخضرة ونحو مائة فرد تحلقوا حول مباريات متتالية من المصارعة، استمرت لساعات.

كنا فى شرفة المنزل بالدور الأول وأنا أراقب كطفل، ولع الناس وحماسهم بهذه الرياضة التى جاء ابنهم من الخليج بجهاز إعجازى يجمع لحظات اعتادوا مشاهدتها سريعاً مغرب كل جمعة فى التليفزيون، فى ساعات متصلة، يخلع الواحد منهم حذاءه ويجلس سعيداً، يتناول أكواب الشاى ويصفق ولا يفيق من النشوة إلا قرب منتصف الليل. نام أبى، وودعنا صديقه وذهب بدوره للنوم وظللت أتابع المنسحبين، واحداً تلو الآخر ثم حمل أحدهم الجهاز السحرى لصالة المنزل، استعداداً لليلة قادمة مشابهة.

قديماً قال رولان بارت إن المصارعة الحرة ليست رياضة بل (فرجة جوهرها مبالغة، فى جوهرها تفخيم لما كان يجرى فى المسرح القديم، فيها يؤدى المهزوم والمنتصر دوراً). المصارعة رياضة دنيوية، مثل مطاردة الثيران، والوقوف أمام الوحوش قديماً، ليست فى سمو سباق الخيل لا ترتبط بالسماء ورومانسيتها بل الأرض التعبة.

كان الجلوس يتابعون المباريات بشغف، تمهد أقنعة المصارعين وحركاتهم لشخصياتهم، فذاك الشرير القبيح، وهذا الطيب الذى ينتصر عليه، وذاك الخائن الذى طعن خصمه فى لحظة سهو، ونال جزاءه سريعاً. لم تتسلل المصارعة فى مسارها الطبيعى، لتكتسب أبعاداً قومية وطائفية على غرار ما كشفه مثلاً حازم صاغية فى كتابه «حدث ذات مرة فى لبنان» عن اللبنانى إدموند الزعنى الذى أكل أحدهم أذنه، فرد بغرس أصابعه فى أحشائه، «ورفع اسم لبنان عالياً»، ثم درب شباب الكتائب. وبالمثل توزع المصارعون على الطوائف على القومى السورى والمخيمات الفلسطينية، وموارنة الجبل. تورطوا فى الأرضى، تاركين السماء لغيرهم.

فى القرين كانت الليلة (لحظة حداثة) مثلها الفيديو وسط النخل، استدعت بدائية ما، ذكرتهم بحلقات السيرك، والقتل الرمزى، لحظة مغايرة لسماوية حلقات الذكر، أو أخلاقية راوى السير. طوى الزمن «فرجة» المصارعة ومعها الفيديو.. ولم يعد يتذكر أحد هؤلاء الذين لبسوا الأقنعة.. أو أسالوا دماً، وتبادلوا التورط فى العروض والحروب.. وأفسحوا المسرح للاعبين جدد.

كرة القدم بدأ تحولها إلى «فرجة» عالمية مع كأس العام 1970، وقتها ظهرت ملاعب الكرة لأول مرة بالألوان، شكلت الأعلام بألوانها الزاهية ورقصات أمريكا اللاتينية عرضاً خاصاً للعالم كله، طبقت تقنية التصوير البطىء، وإعادة الهدف، أمكن اصطياد لحظات الفوز الحاسمة، واستدعت الكرة منذ هذه اللحظة، أشياء جديدة كحقوق النقل التليفزيونى، والإعلانات التجارية، وحقوق البث، وأجور اللاعبين المليونية، لك أن تتخيل أن نصيب الفيفا من حقوق البث فى مونديال إيطاليا بلغ 62.6 مليون يورو، فى حين وصل فى مونديال قطر إلى 7.5 مليار دولار من الصفقات التجارية المرتبطة بالبطولة.

«الفرجة» صاحبتها «فرجات» فرعية، كنزاعات الألتراس، والهوليجانز، وأغانى روابط المشجعين، وعروض شعبوية لاستوديوهات التحليل، وتراشقات عبر السوشيال ميديا، بين لاعبين ومحللين، ومشجعين، وأخبار عن الصفقات، تحصد أموالاً، تتمدد «الفرجة» لأطول فترة ممكنة، بابتكار مناسبات جديدة، فبطولة «دورى الأبطال» تلاها «دورى السوبر الأفريقى»، الذى يضم كبار البطولة الأولى، فى نمط سريع يغذى ما يعرف فى الإعلام الحديث «بالمشاهدة الشرهة»، تزداد الحصيلة، ومباراة السوبر مدد لأربع مباريات، والدورى الأوروبى تتبعه محاولة دورى السوبر.

ويتساقط مع توالى العروض أبطالها المجهدون تباعاً، لنتأمل مثلاً فريقاً مثل ريال مدريد، كواحد من أهم فرق العالم، خلال أربعة أشهر فقط، يصاب بالرباط الصليبى، المدافع النمساوى ديفيد ألابا والمدافع البرازيلى إيدير ميليتاو، والحارس البلجيكى تيبو كورتوا.. وبالمثل المئات حول العالم ضحايا «تمدد الفرجة». يسقطون كأسود منهكة فى أقفاص السيرك.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الشرقية الألعاب الرياضية مشاهدة الرياضة

إقرأ أيضاً:

قداسة البابا تواضروس الثاني يكتب: في ذكرى 30 يونيو.. تحديات وأمنيات

سنة ميلادية كاملة عاشها المصريون (من نهاية يونيو ٢٠١٢ إلى آخر يونيو ٢٠١٣) شعر معظمهم فى خلالها بتغيرات غريبة تخالف المزاج العام لهم على كافة المستويات.

فعلى الرغم من التنوع الثقافى والاجتماعى والفكرى الكبير الذى يزخر به المجتمع المصرى، وهو تنوع يتسم بالتباين إلى حد التضاد فى بعض جوانبه، إلا أن المصريين وقتها اجتمعوا على حقيقة واحدة ألا وهى أن محاولات التغيير الجارية فى المجتمع، تمثل تعدياً واضحاً على هويتهم وإرثهم المتجذر فى وعيهم ووجدانهم.

الأمر الذى دعاهم للخروج إلى الشوارع والميادين بطول مصر وعرضها يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣ معلنين تمسكهم بهويتهم حمايةً لثوابتهم الراسخة.

أردت مما سبق، أن أذكِّر الأجيال الناشئة بتلك الثورة التى أنقذت مصر من مصير مظلم، نراه صار واقعاً حولنا شرقاً وغرباً وجنوباً، ذلك المصير الذى حمى المصريون بلدهم مصرَ منه، بتكاتفهم معاً مستندين على الدرع الواقى للوطن، وهو الجيش المصرى صاحب التاريخ ناصع البياض فى ساحات الوطنية.

من هذه الصفحة من ماضى مصر القريب يمكننا الانطلاق إلى الحديث عن مصر المستقبل. وسأتناول فى هذا السياق، ثلاث نقاط، كالتالى:

١- إنجازات:

لا يجب أن نغفل عن أن ما جرى فى مصر من تنمية وتطوير، عبر الإحدى عشرة سنة الماضية أمر غير مسبوق فى تاريخ مصر.

وأن «الجمهورية الجديدة» صارت لها ملامح واضحة، تبشِّر بمستقبل أفضل.

وللحق أقول إن الطريق ما زال طويلاً وأن طموحات المصريين أكبر بكثير مما تم إنجازه حتى الآن، ولكن لا بد أن نعلم أن مسيرة بناء الدول والشعوب تتطلب وقتاً وتضحيات.

أعلم بالطبع أن المعاناة التى نشعر بها كمصريين واضحة لكل ذى عينين.

لكن كذلك يجب علينا الانتباه جيداً إلى أننا نسير نحو الأمام وأن الجهود المبذولة من الحكومة المصرية، والمنظمات الفاعلة فى المجتمع المصرى حتماً ستثمر واقعاً أفضل للمصريين.

ولا ننسى أننا عشنا عقوداً وعهوداً كنا نسمع فيها وعوداً لم تكن تتحقق، ونرى كلاماً عن إنجازات لا وجود لها على أرض الواقع، ونقرأ عن خطط خمسية وعشرية لا ينفذ منها سوى القدر اليسير، مما خَلَّفَ تركة ثقيلة قررت الدولة المصرية حملها بشجاعة والتصدى للتخلص منها، والانطلاق نحو المستقبل.

كما يجب أن نضع فى الاعتبار أن الأزمات العالمية المتوالية، إلى جانب جائحة كورونا، دفعت ثمنها الدول الناهضة ومن بينها مصر.

وهنا أذكر على سبيل المثال مشروعات البنية التحتية وتطوير العشوائيات وتحسين حياة شريحة من المجتمع المصرى كانت الأكثر تضرراً عبر عقود، إلا أنهم لم يكن لهم صوت، ولم يشعر بهم أحد، هؤلاء أحدثت الدولة المصرية نقلة كبرى فى حياتهم، من خلال المبادرات والتحالفات مثل مبادرة «حياة كريمة» و«التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى» الذى تسعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعضويته من خلال ذراعها التنموية، أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية والتنموية.

٢- تحديات:

أعود فأقول إن الضغوط متعددة، والمعاناة مداها ممتد، والشكوى مستمرة، ما بين ارتفاع الأسعار، وأزمة عدم توافر بعض السلع منها سلع أساسية.

وهو ما يمثل التحدى الأكبر الذى يواجه الحكومة المصرية والشعب المصرى فى آنٍ واحد.

ولكن يجب أن نعلم أن الحكومة والشعب لن يستطيع أحدهما أن يتجاوز هذا الوضع بمفرده.

لذا فإن التكاتف ضرورة والتزام. ويجب أيضاً أن ندرك الظرف الراهن وتحدياته.

ويجب أن ننتبه إلى أننا قطعنا شوطاً لا بأس به، بل هو الشوط الأصعب فى المسيرة.

٣- أمنيات:

أتمنى، بثقة فى صلاح الله، أن يأتينا المستقبل بخير كثير، وأن تصبح رؤية دولة ٣٠ يونيو الوطنية للجمهورية الجديدة، حقيقةً وواقعاً.

ولنتذكر أن سر نجاح ثورة مصر منذ ١١ عاماً كان تكاتف الشعب ومؤسسات الدولة واجتماعهم على قلب رجلٍ واحدٍ من أجل صالح البلاد.

وفى نفس الوقت فنحن فى أمَسِّ الحاجة لأن يؤدى كل مسئول وكل فرد فى هذا الوطن، عمله بكل إخلاص.

مع ضرورة الاهتمام بأن نبحث عن الكفاءات ومن يتحلون بالأمانة ونهيئ لهم ظروفاً مواتية لينهضوا بالوطن وليصلوا به إلى غاياته، فلن نستطيع أن نتجاوز هذا الوضع الصعب، إلا بيد أناس أكفاء أمناء.

ولن يتقدم أى مجتمع إن لم يتحمل أفراده -جميع أفراده- مسئولياتهم بكل جدية وأمانة وإخلاص.

وهو ما أصلى لأجله دوماً، وأثق أن يثبته الله فى قلوبنا لاجتياز كل التحديات وتخطى كل العقبات وتجاوز كل المعطلات لنصل بمصر الوطن الغالى إلى ما تستحقه وما يليق بها.

مقالات مشابهة

  • سامسونج تستخدم هاتف "Galaxy S24 Ultra" للبث المباشر خلال الألعاب الأولمبية باريس 2024
  • قداسة البابا تواضروس الثاني يكتب: في ذكرى 30 يونيو.. تحديات وأمنيات
  • سكان جنوب غزة ورحلة نزوح لا تنتهي: الآلاف يفرون من الملاجئ بعد المنازل
  • القضايا المناخية أصبحت في صلب ألعاب الفيديو
  • أيمن عقيل يكتب: ثورة 30 يونيو.. ما الذي تغير؟
  • اللجنة الوطنية الأولمبية المغربية تعقد جمعيها العامين العادي والاستثنائي بسلا
  • أحمد مكي يكتب: المدن الجديدة.. حياة وآمال وطموحات لا تنتهي
  • عبدالمنعم إمام يكتب: 30 يونيو.. يوم الجماعة الوطنية
  • وزير الرياضة يشهد تدريبات منتخب المصارعة استعدادا لأولمبياد باريس «صور»
  • وزير الرياضة يشهد تدريبات منتخب المصارعة للاطمئنان على أخر استعدادات لأولمبياد باريس