العمل الصحفي يقتل الإبداع؛ لأن لغته مبسطة ومباشرة والإبداع لغة سماوية

أنا سليل ورثة الجفاف والغزو والقهر والثأر والفقر والمرض ولهذا تحمل أشعاري الحزن والأسى

تراكمت الألفاظ القرآنية في نصوصي ولا أخاف المتعصبين

فقدنا شوامخ الشعر العربي الحديث فأصبح الشعر بلا قيادة وضمر جسد الشعر بفقدهم

حاليًا لم يرتق الشعر بمفهومه ولا بدوره فقد تحوّل من دافع ومحرض إلى مجرد نواح

وأنت مقبل على محاورة قامة من قامات الشعر العربي وصاحب تجربة كبيرة في عدة مجالات، تتزاحم الأسئلة في رأسك وتقف حائرا من أين تبدأ وبماذا، وهل سيحتمل الرجل الثمانيني كل ثقل أسئلتي وفضولي لاقتناص الكثير مما في جعبته من تجارب حياتية وثقافية ومهنية؟، حاولت قدر الإمكان فعل ذلك وربما أتعبته وهو يتهدج الصوت ويفتح قلبه بكل ما يختزن من حزن، ولكنه كان سعيدًا بهذا الاهتمام والمكاشفة، واعتبر أن هذا آخر حوار سيجريه في حياته

الدكتور وليد مشوح، الذي يأسرك بشعره الطافح بجمالية المعنى ووضوح الصورة، زاملَ شعراء وأدباء عربًا كثرا، شاعر منبري، يؤمن بكثير من الثوابت والمعتقدات ولا يجامل في رأيه، ويتحدث بصراحة متناهية، ورحّب مهتمًا بصحيفة (عُمان) التي تذكرته بهذا الحوار.

في البداية أودّ أن أسألك وأنت تعانق الثمانين، أين أنت من المشهد الثقافي، هل أتعبتك الحروف والبحور، أم أحزنك الواقع وسكتَّ؟

نعم لقد بلغت الثمانين من عمري ويستضيف عقلي قول جدنا الشاعر العظيم زهير بن أبي سلمى:

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

لقد عشتها وأنا أمضي في دروب الخيبات والجراح والسقطات والنكبات والويلات وكل نوائب الدهر، وفي كل منعطف أعتلي صهوة الحلم وأقول لروحي المتعبة لعل وعسى، ويكبو الحلم في كل مرة، ثم لم يتعبني الأدب ولا البحور ولا القوافي؛ لأنها لم تكن قدري، إذا بقيت أعمل وأعيش شغلي الشاغل بقدري وقضايا أمة حزينة مفككة، إذا بقيت على أطراف الحياة الثقافية، ولم أكن كنجم، بل أظل الشاهد الحزين والصادق على رداءة الواقع، ركبت قارب الزمن ومضيت في بحر الظلمات، رافقتني الكآبة والحزن والقلق ونشيدي قول الشاعر الفرنسي لامارتين: أهكـذا أبــدًا تمـضـي أمانيـنـا نطوي الحياةَ وليلُ المـوت يطوينـا

تجري بنا سُفُـنُ الأعمـارِ ماخـرةً بحرَ الوجـودِ ولا نُلقـي مراسينـا

ديوانك الأخير «رحلة السندباد المتعب» الذي صدر العام الفائت وهي قصائد كتبت بين عامي 1984 و2014وقلت عنه: «آخر حشرجات الطائر الذبيح، لم يبق في البال سوى ذلك الفضاء اللامتناهي بعد الوجود»، ما الذي دفعك لهذا القول؟

رحلة السندباد المتعب، هو الأغنية النازفة التي ترافق مصرع الطائر الجريح الذي لم يبق في باله سوى ذلك الأفق الدامي في خراب الإنسان والعمار والقيم، إنه السقوط المريع الذي عشته وشهدته، لذا تلاشت مفاهيمي وقيمي منذ إطلالة عام ٢٠١١ وكنت أمتطي الحلم قبل أن يبدأ رماد زمني في الوهن وفي اللاشيء، إنه واقع أسود يجلب الكآبة لمتابعيه، لكنه واقعي بصدق، لقد مرضت الروح واعتل الجسد، وتفتت الجزء المتبقي في ذاتي، هي ذي الحقيقة يا أيها الإنسان، ثمة حاشية على صفحة النار، لقد فقدت ٩٥% من أصدقائي وأحبائي، ماتوا جميعًا، وأختم بقول الشاعر عمرو بن معد يكرب:

ذَهَبَ الذين أُحِبُّهم وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردا

هذه الإجابة الغارقة في الحزن اقتضاها السؤال الذي هيج المواجد في ذاتي.

القارئ والمتابع لأعمالك الشعرية يلمس نبرة الحزن والغضب واستجلاب الشقاء المزروع في العرب منذ قرون، لماذا انتهجت هذا الدرب ولم تسلك دروبًا أخرى في الشعر؟

هذا صحيح وهي الحقيقة عينها، دعنا نستشهد بالتاريخ، العراق على سبيل المثال لا الحصر، بلد الحضارات المختلفة والمُغرقة في الزمن مرت عليه موجات من الحزن مع كل حضارة، منذ السومرية ثم الأكادية ثم البابلية وغيرها، وكل حضارة حاولت محو قيم التي سبقتها بقسوة وعنف، لذا ظلّ الحزن يرافق الإنسان هناك منذ بداية زمنه إلى يومنا هذا، وكذلك أغانيهم تحمل كلماتها وألحانها وأداءها قمة الحزن والشجن؛ لأن الإنسان هو مرارات لمسلسل زمنه، ولأني ابن سوريا ودير الزور بالذات فإنني سليل ورثة الجفاف والقحط والغزو والقهر والثأر وخشونة العيش والفقر والمرض والأمية، وكل ذلك ما يجر إلى ذلك، أشعاري تحمل الحزن والأسى؛ لأنني ابن تلك البيئة، وأعبّر عنها بصدق، اعطني فسحة فرح ورفة أمل لأرقص معك رقصة زوربا، المفروض للمصور المبدع أن يكون أمينًا على الواقع وعلى ماهو، وآمل أن أكون مقنعًا بما ذهبت إليه.

ديوانك «أعيش كما تشتهون أموت كما أشتهي» فيه الكثير من الدلالات والصرخات، هل لاقت الصدى المطلوب مما كنت تريد قوله، وأنت الذي تتمسك بالكثير من الثوابت المجتمعية والعقدية وغيرها؟

لا أدري هل لاقت صرخاتي وتأوهاتي الصدى الذي كنت آمل أن تلاقيه؛ لأن هذا التقدير متروك لمؤرخي الأدب ونقاده والسؤال بحد ذاته هو مستقبلي وليس آني؛ لأن الارتدادات تكون مستقبلية، والأجيال المقبلة هي التي تجيب عن السؤال، خذ مثلا قصيدة موطني تداولها المثقفون والمتعلمون في زمن إبداعها لكنها فيما بعد رددتها ملايين الحناجر من أبناء الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، أما عن الشق الثاني من السؤال فنعم أؤكد على ظنك بأنني متمسك بالثوابت وأراها تتمثل بالعادات والتقاليد الأصيلة وليست الدخيلة الصادرة عن عقل منغلق جاهل، وأنني مؤمن أيمانًا راسخًا بالعقائد والمعتقدات، فالإسلام هو جوهر إيماني المعتقدي، وقيمه هي النور الذي اهتدي به في سيري على دروب الحياة، والعروبة هي إيماني العَقدي بجوهرها وجزئياتها وقيمها السامية الدنيوية والأخوية، فالإسلام والعروبة هما قطبا ذاتي ومدماكًا تشكيلي الوجودي، وهما غذاء روحي وعقلي إلى يوم يبعثون.

كشاعر تؤمن وترفض الترميز والغموض والإيماءة والالتفاف حول الفكرة وترى أن الشعر المنبري هو الأكثر احتفاءً بقضايا الأمة وطرحها للعالم وتوصلها للجماهير؛ لأنك تدرك أن ثمة فرقا بين المثقف والمتعلم، ما الذي دفعك لتبنّي هذه العقيدة الشعرية، وأين الشعر والشعراء من هذا كله؟

أجل، أنا من الناس الذين يستنكرون الإغراق في الرمز والغوص في مستنقع الغموض المستهجن ويتسارعون في الأحكام غير الدقيقة في لجة ما يسمونه في الالتفاف، أضرب مثالًا في نفسي أنا قارئ نهم للتراث ومتابع جيد لنظريات النقد القديم والحديث، ومتأمل متعمق في معطيات الحداثة وما بعدها، أي إنني إن لم أقل عن نفسي مثقف فليكن شبه مثقف، وكنت أقول للصديقين العزيزين المرحومين عبد الوهاب البياتي وسعدي اليوسف على سبيل المثال: ألتقط بصعوبة إيحاءاتكم التراثية وإلباسها شفيف الرمز، ولكني لا أخفيكما لم أنجح على الإطلاق في التقاط هزات الموسيقى ولا حراك المعنى في أشعاركما، أما أدونيس فلم أنجح في اصطياد دارجة المعنى في شعره فأعاف إكمال نصه الشعري؛ لأنه طلاسم أفشل في كشفها أو حلها، لم أقرأ شعره ابدأ كما يجب، وقد قرأت نقده ولا مجال لإبداء الرأي فيه.

أما الشعر المنبري فهو ليس سُبة إنه الصوت المتبادل بين سواد الناس، الفلاح والعامل والمثقف والمتعلم، الكبير والصغير، وبين الشاعر المبدع لهذا الشعر الذي يسمونه بالمنبري، فالشعر العربي في عصوره المتقدمة منبري يلقاه الناس وليس هناك طبقة مثقفة تتلقى الترميز أو القصيدة المرمزة، لذلك أرى أنه إذا أجرينا استفتاء شعبيا على الشعراء المفضلين عند سواد الناس ستكون القائمة طويلة تتمثل على نحو ما، وعلى سبيل المثال مظفر النواب محمد مهدي الجواهري، نزار قباني، عبد الرزاق عبد الواحد، مصطفى جمال الدين، عبد الله البردوني وغيرهم الكثير من نجوم الشعر العربي المعاصر، أذكر أن أحد النقاد في جريدة الثورة منذ سنين كان يُقيّم الشعر المعاصر في سوريا، وعندما توقف عندي قال وليد مشوح شاعر منبري، التقيته وقلت له أنا ابن تاريخ طويل من الشعر العربي منذ الجاهلية والإسلام والأموية والعباسية والدويلات المختلفة، كل هذا الشعر كان منبريًا ولست أخرج عن ذلك، ولم أقرأ شعر «الصرعات» مثل الشعر التفكيكية وشعر البياض وغيرها مما أتت به مدارس الغرب النقدية التي جاءت بعد حربين عالميتين طاحنتين فخرج الإنسان مفككًا يبحث عن شبيه له في الأدب، هذا رأيي.

تداخلت بحور الشعر في قصائدك الطويلة وباتت كأنها مقامات ومواويل للحزن والرثاء وارتعاشات الروح وخلجات قلب، وكأنك تسير مع الحداثة بقوالب الشعر الموزونة، فجاءت قصائدك طويلة فيها الكثير من الموروث الذي اتكأت عليه لتتحدث عن الواقع وكأنك تتنبأ بالمستقبل، لماذا أصررت على هذه الصورة؟

كان همي دائما الحفاظ على ثلاثة أعمدة أعتبرها منهجًا أو مذهبًا فكريًا يخصني شخصيًا، الأول وحدة الفكرة، الثاني موسيقى الكلام والإعلان عنه، أما الثالث فهو وضوح الفكرة مع الحفاظ على الإطار، والإطار يحتوي على الفكرة بمجملها وأقصد الوزن، نعم أؤكد أنها مقامات آلتها الموسيقى، وأوتارها صفاء البادية وهي منشأ مقولتي، وهي قصائد مواويل حزن؛ لأنها ارتعاشات الروح؛ وبالطبع أسير مع الحداثة؛ لأنني ابن العصر ولابد من مجاراة معطياته، فقصائدي آهات أنين هي منعكسات حزني التاريخي، والآه إما أن تكون طويلة أو قصيرة، والقصيرة هي زفرة؛ لأنني أمتحُ من جذوري التاريخية فقد أصبغت قصائدي بالحزن، واعتمدت على الموروث التاريخي لتصوير الواقع الذي أحسه، إنني أدين الكثير من الماضي، وأخاف فعلا من المستقبل؛ لأنني أراه مجلدًا بالسواد، وها نحن اليوم نشهد هذه النظرة النبوئية عن المستقبل بما تمر به أمتنا.

لامست مسألة الموت في كتابك «الموت في الشعر العربي السوري المعاصر» لمَ هذه المسألة بالذات، وماذا استنتجت من خلالها، ولماذا لم تتناولها بشكل أوسع مثلا عربيًا أو في عهود سابقة وقد تجد فيها ماهو أشمل؟

هذا الكتاب هو موضوع أطروحة الدكتوراة التي حملت لقبها من جامعة دمشق بدرجة امتياز، وكان الموضوع لافتا من وجهة نظر نقدية إذ حصلت الدراسة النقدية هذه على جائزة مؤسسة البابطين الثقافية باسم محمد حسن الفقي، وقد سئلت أكثر من مرة حتى من أحد أعضاء لجنة المناقشة وهو أستاذي الدكتور المرحوم عمر الدقاق لماذا هذا الموضوع الأسود الذي ملأني كآبة وحزنًا؛ لأنني أؤمن فعلا بأن الموت يمثّل الكون الديمقراطي الحقيقي الشامل للغني والفقير والكبير والصغير، أنثى وذكر، الجميع تراب وقد تمثل ذلك بقول الشاعر عمر الخيام:

مَرَرْتُ بِمَعْمَلِ الْخَزَّافِ يَوْماً وَكَانَ يَجِدُّ فِي الْعَمَلِ الْخَطِيرِ

وَيَصْنَعُ لِلْجِرَارِ عُرىً ثَرَاهَا يَدُ الشَّحَّاذِ أَوْ رَأْسُ الأَمِيرِ

أما حصرها في سوريا فلأنني فرشتها على زمن يمتد بين خمسينيات العصر وسبعينياته والسبب أن شعراء هذه الفترة تربطني بهم علاقات عميقة وصداقات وثيقة وخبرت خوارجهم ودواخلهم تماما، أما ماذا يرمي إليه الموضوع فأنني أخذت الامتدادات دواخل الشعراء وهم بإيمانهم ومعتقداتهم، إسلاميون، عروبيون، قوميون اجتماعيون، شيوعيون، رماديون، وتوصلت لكشف أحاسيسهم عن الموت كمعنى ومبنى بين الفناء والانبعاث حسب عقائدهم، وأعتقد إنني نجحت في ذلك.

قرأنا في أشعارك كثيرا من الاستعارات القرآنية، وحتى بعض المفردات التي يتناولها العامة، التي تبني عليها القصيدة، ألم تخش المنتقدين هنا والمتعصبين خصوصا في المسألة الدينية؟

قلت من قبل إنني أؤمن بالإسلام عقيدة ومعتقدًا؛ لأنه يحمل الشمولية كلها، ومن مادته بنيت شخصيتي الوجودية، ومنه قامت ناطحات ثقافتي، إذ قرأت القرآن صغيرًا على يد الشيخ الجليل المرحوم طه الحسون، ومنه تفرع الدرس إلى الشعر والعروض، ورأيت في القرآن جامعًا مانعًا ولأنني أبحث عن وحدة المعنى في الصوغ الشعري، لذا تراكمت الألفاظ القرآنية في النص الشعري ولا أخاف المتعصبين؛ لأنني وضعتها وفق المفردة في إرادة المعنى الجليل، أما المفردات الشعبية فأنا بطبيعتي ابن بيئة شعبية أحمل الموروث كما ترويه الجدات بلهجتهن المحببة الدارجة، فسَيّرتها في سيرة شعرية بإخلاصي للزمن والاعتراف بالقادم بتسلسله النبيل والسيئ.

قدمت للمكتبة العربية عدة كتب نقدية ودراسات أخرى، والنقد دروبه شائكة، ولا يرضي أحدا، هل قلت قناعاتك وماذا نالك منه؟

ما قدمته من دراسات وكتب نقدية قليل مقارنة بما قدمه النقاد الأوائل والمحدثون، فكتبي المطبوعة في مجال الدراسات والنقد حسب التسلسل هي الشاعر «المضيع أبو الفضل البليد دراسات في الشعر الحديث الصور الفنية في الشعر عبد الله البردوني، الموت في الشعر السوري المعاصر، أما ما نالني منها فهو إلباسي لبوس الناقد، وأنا غير مقتنع بهذا اللباس، وبقناعتي الراسخة لم تشرق شمسي النقدية بعد، وما زلت أعيش على حواف قرية النقد في ضيعتها القديمة والحديثة، كذلك لم أستوف طموحي النقدي وقد شارفت شمس حياتي على المغيب.

مازال الجدل دائرا ومستمرا بين أنصار الشعر العمودي والنثري بمختلف ألوانه، ما بين الحداثة والتقليدي، ما بين السريالية والواقعية، الغموض والوضوح والأنا الفردية والجمعية، هل يثمر هذا الجدل إبداعًا، أم مجرد غثاء أحوى؟

الجدل بين أنصار الشعر العمودي والنثري، وبين الحداثة ومذاهب الشعر ومدارسه الشعرية منذ خمسينيات القرن الفائت بدأ يخف شيئا فشيئا على مر العقود وأراه تلاشى في قرننا هذا، إنه مجرد مشادات كلامية سخيفة، ومجرد غذاء سيئ، فالجيد هو المرتجى سواء كان شعرا أو نثرا، فصيحا أو دارجا، وكما قيل البقاء للأفضل دائما.

ما بين العامية والفصحى تتحرك القوافي وتلهج الألسنة وتكتب الأقلام جاذبة الجمهور إليها، لمن الغلبة هنا، ومنصات التواصل الاجتماعي ألغت المسافات وأتاحت الفرص لكل من يريد أن يدلي دلوه، هل ربحنا الجمهور وخسرنا الذائقة، أم هذا ميدان رحب والبقاء للأشطر؟

أرى أن الغلبة للأفضل، الغلبة لمن يكسب الذائقة الجماهيرية والعطاء بين الفصحى والعامية بات في أفق مفتوح، ضمن الفضاء الأزرق آخر معطيات التكنولوجيا، ومنصات التواصل الاجتماعي التي قصدتها بالفعل أتاحت الفرص لكل من هب ودب للإدلاء برأيه الصريح أو المريض، لم نربح الجمهور ولم نربح الذائقة، بل أصبح رغيف الخبز هو الإبداع الأهم، ولم يبق الشطار كما نريد في زمن الخراب هذا.

يقال «العمل الصحفي اليومي يقتل الإبداع» وقد عملت في الصحافة طويلا وقدمت الكثير، ماذا أفادتك التجربة الإعلامية كشاعر، وهل استهلك منك العمل الصحفي الكثير من الوقت على حساب الشعر الذي قدمت فيه خمسة دواوين فقط وبضعة كتب؟

نعم العمل الصحفي يقتل الإبداع؛ لأن لغته هي لغة مبسطة ومباشرة ولغة الإبداع لغة سماوية، أفادتني التجربة الصحفية كشاعر إنني كنت أتلقى مئات النصوص باعتباري أدير الشطر الثقافي في الصحافة دائما، لقد عملت منذ بدايات عملي الصحفي رئيسا للقسم الثقافي في جريدة البعث، وأمينا لتحرير الثقافة فيها، ورئيس تحرير الأسبوع الأدبي والموقف الأدبي، وعضوًا في هيئة تحرير مجلة التراث، وقد تأثرت كثيرا بما يرسل القراء، وقد نزلت قطرات من مطر القراء في صياغاتي الأدبية، وكثيرا ما تجمعت كغدير في شعري، وقد استهلك العمل الصحفي لغتي الأدبية، أصدرت سبع مجموعات شعرية، اثنتان منها للأطفال، الأولى «أناشيد المجد» و«فتية الشمس».

وأنت تبحث عن الحلم وفيه؛ ذقت مرارته، كما أفصحت في كتاباتك، في زنازين العراق، وأنت تسبح في بحر الصحافة غيبتك زنزانة عن النور، وفي البدايات تصارعت مع النهر ومع الأهل كي تستمر على قيد الحلم، أي شغف وأي إرادة وأي شقاء عايشته خلال رحلة الحياة، وماذا تقول عنها؟

منذ بدابة التكون ثم الخلق تناولتني زنازين الحياة الواحدة إثر الأخرى، فمن زنزانة الحاضنة إلى زنزانة التربية الخشنة، إلى زنزانة شظف العيش، إلى زنزانة الأمل الموؤود، وهكذا حتى الوصول إلى زنزانة الغيبة القسرية القاهرة، زنزانة النزاع السياسي ولعل أقساها وأمرها في العراق لأنني كنت سوريًّا اعتقلت وأنا أعمل في الصحافة، وهي ليست أولى خيباتي ولا أول قهري، فالصحافة والعمل فيها في وطننا العربي قهر وزيف يفتحان زنزانة الحرية، أما أكبر الزنازن فهي زنزانة الحلم، عشت مرارة الحياة جراء عملي وكذلك بسبب جرثومة الأدب التي دخلت حلمي، فعشت مغيبًا فيها، تصنعت مشاعري فأصبحت شفيفا جدًا، حساس إلى حد المرض، لم ينصفني زمني، وجارت علي فضائلي وشيعت حلمي، أجل هذا هو الواقع الذي أسبح في لججه حتى الثمانين من عمري الآن.

هناك الكثير من الذين امتهنوا الشعر اتجهوا للرواية، وقرأت لك في الكتاب الذي صدر لتكريمك فصلا سرديا جميلا عن مشوار حياتك، لماذا لم تركب سفن الرواة؟

الرواية هي تاج الأدب في عصرنا هذا وقد امتهنها الكثير من المبدعين الشعراء وحتى الفنانين، ولا أخفيك إنني حاولت أن أركب السفينة وأعبر بحر القصة والرواية كتبت قصة قصيرة ولكنني لم أنجح كانت بائسة ساذجة فعفت الفكرة كذلك كتبت مسرحية بعنوان «القُمع» وكانت صارخة حادة شعاراتية مباشرة فأتلفتها وبقيت مع البدايات الشعرية والنقدية.

افتقدنا قامات شعرية كثيرة في الوطن العربي كنت تعاصرها، إلى أي حد تأثر ديوان العرب بفقدان هؤلاء؟

نعم يا صديقي لقد فقدنا شوامخ الشعر العربي الحديث فأصبح الشعر بلا قيادة، ضمر جسد الشعر بفقدهم، وللحقيقة نزل عن مستواه من حيث الكم والكيف، أجل لم يعد للشعر حظوة ولم يعد له المساحة التي يرمح فيها، لقد تغير كل شيء.

*اليوم هل يرتقي الشعر بمفهومه وبدوره إلى ما يجري حولنا ويلامس الواقع ويستنهض الهمم، أم أنه تخلّى عن دوره الفعلي وبات منبرا للهراء؟

لا لم يرتق بمفهومه ولا بدوره، فقد تحول من دافع ومحرض، إلى مجرد نواح، وبات صحنا على مائدة الزمن الفاجر هذا، لقد أضحى مناديا دلّالًا ليس إلا، ثرثرة لا جدوى فيها.

ماذا في جعبتك ولم يخرج للنور بعد من أعمال أدبية...؟

لدي مخطوطتان أتمنى أن تخرج للقارئ قبل موتي، الأولى «أبعاد ظاهرة الأنا في شعر المتنبي» والثانية بعنوان «تنازع الموت والحياة في أدب الخوارج» أما في جوهر أمنياتي فهناك الكثير من الموضوعات الأدبية والفكرية وأتمنى أن يُكملها من يأتي بعدي لأنه لم يبق في العمر فسحة لتحقيقها.

على ماذا ندمت خلال مشوارك الشعري والمهني؟

سؤال رائع، ندمت خلال مشواري الشعري إنني ابتليت بالشعر، وفي مشواري المهني إنني عملت في الصحافة التي تفتقد لمشروطيات الصحافة.

*ماذا تقول عن هؤلاء الذين عاصرتهم؟

مظفر النواب: مظفر النواب شاعر جماهيري يُعبر عن القهر والإحباط.

نزار قباني: نزار قباني شاعر الحب والأمل والوطن، وهو عمر بن أبي ربيعة في العصر الحديث.

أدونيس: لغز الإبداع والثقافة وطلاسمها.

بدوي الجبل: قمة الإبداع.

محمد مهدي الجواهري: الجواهري أمير الشعر المعاصر بلا منازع.

محمود درويش: شاعر الجرح.

محمد الفراتي: شاعر البيئة المحلية.

بدر شاكر السياب: المفتاح الأهم لبوابة الشعر الحديث.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العمل الصحفی الشعر العربی فی الصحافة إلى زنزانة الکثیر من فی الشعر لم یبق

إقرأ أيضاً:

البعريني: سيكون للبلدات العكارية نصيب وافر من الاهتمام السياسي

لبّى عضو تكتّل "الاعتدال الوطنيّ" النّائب وليد البعريني، في فنيدق، دعوة غداء أقيمت على شرفه بدعوة من أبناء المرحوم الشّيخ علي إسماعيل زكريا "أبو طلال"، بحضور لفيف من الأهل والأحبّة. 

ورحب الشيخ عبدالقادر عبد الفتاح في كلمة باسم العائلة بالحاضرين، وعلى رأسهم النّائب وليد البعريني، مؤكدًا أنه "في بيته وداره وأنه حاضر في كل بيت عكّاري من خلال بصماته على امتداد المنطقة التي ما قصّر يومًا في حقّها، بل يعمل جاهدًا من خلال مكانته على تحسين صورتها وتحصيل حقوقها وحقوق أهلها". 

وأكد البعريني أن "فنيدق هي ركن أساسيّ من أركان الوطن، وآل زكريا هم مدماك هذه المنطقة الذين تربّينا وإيّاهم على الفطرة السليمة لا طمعًا بمنصب أو جاه، وأنا أعتبرهم عائلتي وأهلي، كما العائلات الباقية، التي تجمعنا بهم علاقات محبّة واخوة".

وأردف البعريني، "في المرحلة المقبلة سيكون لفنيدق وعموم البلدات العكاريّة نصيب وافر من الاهتمام السياسيّ التي بدورها لم تقصّر يومًا في هذا الشأن، بل كانت أولى البلدات التي ارتدت حلّة الحكمة والمنطق وحافظت على شتى العائلات. فنيدق كانت ولا تزال تتمتّع بحيثيّة مميزة وقيمتها كبيرة". (الوكالة الوطنية)
 

مقالات مشابهة

  • ثلاثة شعراء يتغنون بالحب والطبيعة بـ«بيت الشعر» بالشارقة
  • همس الحروف مجموعة شعرية لراشد الأبروي
  • النطاقات المعرفية والإحالات المرجعية في شعر الأوقيانوس أنس الدغيم
  • 8 طرق لعلاج الشعر الخفيف.. تعرفي عليها
  • حزب المؤتمر: الحكومة الجديدة تضم الكثير من الكفاءات والخبرات
  • وليد المغازي: متوقعناش نجاح مسار إجباري وأشارك مع عصام عمر في فيلمه الجديد
  • مطران خليل مطران .. الأسد الباكي
  • ليلى عبداللطيف عن شيرين عبدالوهاب: "لا أحد يستطيع أن يوقفها"
  • البعريني: سيكون للبلدات العكارية نصيب وافر من الاهتمام السياسي
  • عادل عسوم: إلى الذين أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ