عربي21:
2025-01-07@08:08:59 GMT

الحرب على غزة أو الاستبدال العظيم

تاريخ النشر: 5th, January 2024 GMT

تصدير: "ها أنتم هؤلاء تُدعَون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولَّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (محمد: ٣٨).

مهما اختلفت المقاربات السياسية والأيديولوجية للقضية الفلسطينية، فإن تلك المقاربات ترتبط دائما بـ"أيديولوجية التحرير" المهيمنة في سياق تاريخي معين.

وقد كانت هيمنة الماركسية ومن بعدها القومية (الناصرية والبعثية) على خطابات المقاومة تكريسا لمرجعية العقل الغربي؛ باعتبار قضية فلسطين هي قضية "هامش" عالمثالثي محتل أو قضية "أمّة عربية" وليست قضية دينية. وقد كان هذا التوصيف ذو المرجعية الغربية يؤدي دورين متعامدين: أولا ضرب المرجعية الإسلامية للصراع وبالتالي توظيف "المقاومة" لترسيخ المرجعية "الحديثة" للدولة-الأمة بالمفهوم الوستفالي (رغم تناقض مفهوم الدولة-الأمة مع الدعوتين القومية والأممية)، ثانيا استهداف الحركات الإسلامية وما قد تمثله من تشكيك في شرعية الأنظمة القائمة بحكم قدراتها التعبوية الهائلة في استثمار الوعي و/ أو المخيال الدينيَّين.

وقد كان لظهور "المقاومة الإسلامية" في الفضاءين السّني والشيعي (خاصة حركات حماس والجهاد وحزب الله) دور كبير في تغيير "المعادلات" الأيديولوجية المتحكمة في إدارة الصراع؛ من جهة المفاهيم والرمزيات والتحالفات والغايات القصوى وغيرها. وهي تحولات كانت تعكس فشل المقاربات المهيمنة على السلطة في مستويين: الفشل في مستوى التحديث الداخلي أو التخلص من الاستعمار غير المباشر والتبعية والتخلف، ومن باب أولى الفشل في "تحرير فلسطين". ولكنّ تلك التحولات مسّت أمرا لا يقل أهمية عن المستوى السياسي أو الأيديولوجي المحايث، لقد استطاعت "المقاومة الإسلامية" أن تكسر السياج الطائفي الذي عملت عدة جهات سياسية وفقهية "سلطانية" (بدعم صريح أو خفي من القوى الصهيو-صليبية) على تكريسه.

تلك التحولات مسّت أمرا لا يقل أهمية عن المستوى السياسي أو الأيديولوجي المحايث، لقد استطاعت "المقاومة الإسلامية" أن تكسر السياج الطائفي الذي عملت عدة جهات سياسية وفقهية "سلطانية" (بدعم صريح أو خفي من القوى الصهيو-صليبية) على تكريسه
ربما تغرينا الملحمة الغزاوية وما ارتبط بها من تحولات تتجاوز الفضاء العربي الإسلامي على أن نجعلها نقطةً مرجعية في التأريخ للاستبدال العظيم، ولكننا نذهب إلى أن الاستبدال العظيم بدأ عندما وعت أطراف "المقاومة الإسلامية" بجناحيها السني والشيعي بضرورة الخروج من شرنقة التمذهب وضيق الطائفية؛ إلى سعة "الإسلام" باعتباره مرجعية جامعة لكل أطياف المقاومة، وليس فقط باعتباره مرجعية نضالية من داخل أدبيات الطائفة.

ونحن نذهب إلى أن "فلسطين" ورمزية الأقصى قد أعادت المسلمين إلى قبلتهم "الأولى"، ليس فقط بالمعنى التراثي المعلوم (الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين)، بل بمعنى أعمق. فالأقصى (وليس التراث الطائفي) قد أصبح مرجع المعنى "التحرري" وقِبلته، وهو ما يدفع بالأماكن/ المرجعيات "المقدسة" طائفيا إلى خلفية المشهد دون أن يُفقدها قدسيتها. إن "الأقصى" يُحيّد "الطائفية" ومفاعيلها السياسية ولكنه لا ينسفها أو يتجاوزها جدليا على الأقل في المدى المنظور، ولذلك يمكننا اعتباره "مدخل" الاستبدال العظيم أو رمزه الأعظم.

كي لا نغمط "طوفان الأقصى" حقه في مشروع "الاستبدال العظيم"، فإنّ علينا أن نعترف بأنه نقطة التحول المركزية في مواجهة مشروع "الاستبدال العظيم" بالمعنى الصهيو-صليبي الداعم للكيان. فـ"طوفان الأقصى" هو المقابل الموضوعي لـ"مشروع القرن" المدعوم من لدن "محور التطبيع" (وهو محور الثورات المضادة ذاته)، باعتبار ذلك المشروع هو مجرد لحظة من لحظات تصفية القضية الفلسطينية (في غزة) تمهيدا لاستهداف الضفة الغربية و"تهويد" كل فلسطين، بل كل العالم العربي بمنطق "التطبيع". فإسرائيل "الكبرى" لا تحتاج إلى "احتلال" العالم العربي احتلالا مباشرا، إذ يكفيها أن تهيمن السردية "الصهيونية" على هذا الفضاء بمنطق "التطبيع" أو "الديانة الابراهيمية" أو "التسامح بين الأديان"، بل يكفيها أن تضمن هيمنة "الوهابية السعودية" باعتبارها الخطاب المرجعي لأهل السنة والجماعة حتى تضمن هيمنتها (عبر هيمنة المنطق الطائفي وعبر تأبيد التوتر بين "المسلم" وعالمه، وتكريس منطق "تأليه الحاكم وتكفين المرأة" وما يؤدي إليه من تشويه صورة الإسلام في الغرب وفي ديار المسلمين أنفسهم).

عندما استعملنا تعبير "الاستبدال العظيم" فإننا كنا نقصد كل ما سبق، ولكننا نقصد أمورا أخرى منها ذلك المخزون البشري الداعم للمسلمين ولغزة في الغرب والذي سيتحول تدريجيا إلى "جماعات ضغط" التي ستتشكل من "المسلمين الجدد" ومن أفراد وجماعات من غير المتحولين دينيا، وكنا نقصد أيضا خلخلة السردية الصهيو-صليبية للصراع ضد الكيان الغاصب واستبدالها ولو جزئيا بسردية المقاومة، كما قصدنا سقوط الكثير من "المقدسات العلمانية" مثل "حيادية" المنظمات الدولية وكونية منظومة حقوق الإنسان، و"الصداقة" التي تربط العرب والمسلمين بالغرب، و"وطنية" الأنظمة الحاكمة أو انحيازها "الخطابي" لفلسطين، والدور الحقيقي لـ"جامعة الدول العربية" أو "منظمة المؤتمر الإسلامي" وغير ذلك من "الأوثان" التي لا قيمة لها إلا خدمة المشروع الصهيوني ورعاته في الغرب.

لقد أثبتت حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الكيان والغرب ضد غزة أن "الاستبدال العظيم" (سواء آعتبرناه مشروعا إلهيا متعاليا أم مشروعا "تحرريا" محايثا) يقتضي التخفف من الكثير من الأوهام التي حكمت العقل العربي-الإسلامي بمختلف تجلياته الحداثية والتراثية.

أثبتت حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الكيان والغرب ضد غزة أن "الاستبدال العظيم" (سواء آعتبرناه مشروعا إلهيا متعاليا أم مشروعا "تحرريا" محايثا) يقتضي التخفف من الكثير من الأوهام التي حكمت العقل العربي-الإسلامي بمختلف تجلياته الحداثية والتراثية
رغم أن "طوفان الأقصى" ليس بداية "الاستبدال العظيم"، فإن ملحمته قد تكون بداية لمشروع "التحرير" الحقيقي الذي يتجاوز العرب والمسلمين إلى الانسانية جمعاء. فهذا الطوفان قد أرجع الناس إلى "القرآن" وإلى الإسلام باعتباره منظومة قيمية قبل أن يكون منظومة تشريعية. كما أن "الطوفان" قد يكون أداة لتحرير الغربيين قبل غيرهم، فقد وضعهم أمام حقيقة جماعات الضغط التي تجعل من آراء الناخبين أو عموم المواطنين مجرد مجاز عند تحديد السياسات الخارجية للدول، بل حتى عند التعامل السلطوي مع حق التعبير الناقد للصهيونية ولحلفائها من القوى الصليبية المتعلمنة.

أما العرب والمسلمون، فقد أثبت لهم "طوفان الأقصى" أن بلدانهم مجرد محميات أو ملحقات وظيفية بالغرب، وأن مفاهيم "السيادة الوطنية" و"استقلالية القرار" والانحياز للحق الفلسطيني وغير ذلك من أسس الشرعية؛ ليست إلا تلبيسات لا تتجاوز قيمتُها قيمةَ "حلّ الدولتين" المستحيل واقعيا. كما أثبت لهم "الطوفان" أن "إسلام المقاومة والتحرير" لا يمكن البتة أن يكون إسلاما طائفيا أو سلطويا، وأن "الطائفة المنصورة" هي طائفة غير متمذهبة بالضرورة.

ولا شك عندنا في أن "الاستبدال العظيم" هو مشروع "كوني" لا يمكن الجزم بمساراته، وإن كنا نستطيع الجزم -من منطلق إيماني أو من منطلق الثقة في عدالة القضية أو حتى من منطلق استقراء قوانين التاريخ والجغرافيا- بمآلاته أو نهاياته ولو بعد حين: تحرير الانسانية من "تألّه" الانسان الغربي وصنيعته الصهيونية والمتصهينة.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة تحولات غزة غزة المقاومة تحولات طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة الإسلامیة طوفان الأقصى

إقرأ أيضاً:

الهياكل الإسلامية التعبير الملطف لما كان يسمى بالإرهاب

آخر تحديث: 5 يناير 2025 - 1:07 مبقلم: فاروق يوسف  لا أدري كيف ولماذا خُيل لبعض العراقيين أن الولايات المتحدة التي أنفقت على احتلال العراق التريليونات من الدولارات وضحت بالآلاف من الجنود وضربت قبل ذلك القانون الدولي عرض الحائط ستقول لهم “تفضلوا. خذوا العراق حرا مستقلا ونظيفا من الاستبداد لتبنوه بالطريقة التي كنتم تحلمون بها ولن يبقى جندي واحد من جنودي على أرضكم إلا إذا طلبتم منه ذلك؟” لقد ردد مثقفون عراقيون ذلك الكلام قبل عشرين سنة بطريقة توحي بقدر هائل من الثقة كما لو أنهم كانوا حاضرين حول الطاولة التي مُددت عليها جثة بلادهم. وبالتأكيد كانت تلك نظرية بلهاء لم تكن الولايات المتحدة مسؤولة عنها. فحسب قول كونداليزا رايس وهي وزيرة خارجية أميركية سابقة “لم تعد الولايات المتحدة العراقيين ببلد مستقر.” فإذا كان الأمر كذلك وهي الحدود الدنيا لما يمكن أن تفعله قوة الاحتلال وفق القانون الدولي فإن فكرة تسليم العراق للعراقيين بعد “تحريره” كانت اختراعا زائفا تطوع عراقيون للترويج له خدمة للمحتل الأميركي الذي كان يسعى لتثبيت وجوده على الأرض وقد كان على يقين من أن العراقيين كأيّ شعب حي ونزيه ووطني سيقاومون الاحتلال ويجبرونه على الرحيل. تذكرت ما جرى في العراق وأنا أقرأ السجالات بين السوريين الذين لا يلومهم أحد على فرحتهم بسبب انتهاء عصر عائلة الأسد. ولكن الفرح شيء والتفاؤل شيء آخر. يمكن تفهم أسباب الفرح بعد 45 سنة من الاستبداد. أما التفاؤل فلا وجود لسبب واحد من أسبابه. أيام قليلة مضت على فتح دمشق من قبل مجاهدي هيئة تحرير الشام وصار كل شيء واضحا. سوريا لن يحكمها إلا المجاهدون. لم يكتف أبومحمد الجولاني، الذي صار اسمه أحمد الشرع، بتعيين أفراد حكومته في إدلب وزراء في الحكومة السورية الجديدة، بل قام بمنح المجاهدين الأجانب رتبا عسكرية رفيعة ليكونوا قادة للجيش العربي السوري الجديد قبل أن يتم منحهم الجنسية السورية. هناك مَن صار يصرخ “أعطوهم فرصة ومن ثم احكموا عليهم.” تلك جملة فيها الكثير من السخرية السوداء الجارحة. فهي تعني أن القتلة يمكن أن يكونوا دعاة إصلاح وتنوير ديمقراطي وأن في إمكان السفاحين أن يكونوا بناة حضارة ومدنية وأن أعداء الحرية سيكونون حملة شعلتها ورواد قضيتها. في جمل قصيرة اختصر قادة الشعب السوري الجدد فلسفتهم. قال أحدهم “من الطبيعي ألا تكون المرأة وزيرة للدفاع” وهو في ذلك يؤكد ما ذهبت إليه عائشة الدبس المسؤولة عن شؤون المرأة في حكومة الشرع من أن المرأة لا تصلح سوى للتربية البيتية. وللأسف لم يسألها أحد عن سبب وجودها في منصبها المرموق. في الوقت نفسه كانت وزيرة الخارجية الألمانية تقابل الشرع. لست هنا بصدد تشبيه سوريا بالعراق، فالتجربتان مختلفتان غير أنني أطرح مقاربة قاعدتها الانتظار المضلل وفروعها تتساقط منها الخيبات. فليس من المعقول أن يتم انتظار التحولات في فراغ معرفي. ذلك ما يعد عيبا في عالم السياسة القائم على معادلات الأسباب والنتائج. تلك معادلات لا تخطئ. فالاحتلال الأميركي نتج عنه عراق فاشل غير قابل للحياة على مدى طويل ولم يكن الفساد الشامل فيه إلا واحدة من النتائج. كذلك يمكن النظر إلى غزوة هيئة تحرير الشام على أنها ركلة أميركية لن ترتفع سوريا بعدها إلى الغيوم، بل ستسقط في بئر ليس لها قرار. ما أسمته الوزيرة الألمانية بالهياكل الإسلامية التي لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمدّ لها يد العون هو التعبير الملطف والمخفف لما كان يُسمى بالإرهاب. ولكن ما فات الوزيرة الألمانية أن التغيير المفاجئ الذي عصف بسوريا لم تكن للاتحاد الأوروبي مساهمة فيه لذلك فلا أحد ينتظر منه شيئا. إضفاء الشرعية هو المطلوب وقد تم ذلك الأمر من خلال الزيارة. ومثلما فوجئت بأن لا أحد في دمشق مد يده لمصافحتها، فإنها ستُصدم حين لا يتقدم النظام السوري الجديد بطلب إلى الاتحاد الأوروبي لمساعدته. سيكتفي الطباخون بما أعدوه سلفا. ينبغي أن نتذكر: أولا إن الإمارة التي أدراها الجولاني كانت قد تمتعت بتمويل قطري ورعاية تركية وحماية أميركية. ثانيا هناك سنتان من التدريب والتأهيل المكثفين سبقتا لحظة التغيير. ثالثا إن الصفقة التي كان بشار الأسد آخر العالمين بها لم يتم إطلاق صفارتها إلا بعد أن تأكدت إسرائيل من أنها صارت في مأمن نهائي من حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان. وهكذا فُتحت أبواب دمشق من غير قتال.من حق البعض أن يتفاءل لكن ليس من حقه أن يستعمل التفاؤل وسيلة للتضليل.

مقالات مشابهة

  • “كتائب القسام” و”كتائب شهداء الأقصى” .. السلطة تجاوزت الخطوط الحمراء
  • مستقبل سوريا والدور العربي المطلوب
  • المستقبل العربي بين الواقع والمشهد السطحي
  • السيسي: التلاحم بين أبناء مصر هو الدرع الحامي لهذا الشعب العظيم
  • تداعيات سوريا على العراق: هل ينهار التوازن الطائفي؟
  • الحاج قاسم سليماني وتحرير فلسطين.. وحدة سوح الحرب واستراتيجية مُستمرّة
  • عراقتشي: الضربات التي توجّه إلى محور المقاومة لا تعني نصر الأعداء
  • الهياكل الإسلامية التعبير الملطف لما كان يسمى بالإرهاب
  • 54 عاماً على رحيل الشيخ عبد العظيم زاهر.. أحد مزامير آل داود
  • السوداني:النظام السياسي في العراق لن يتغيير بوجود “المقاومة الإسلامية الشيعية”!