فقط من خلال وحدة مدنية واسعة وصلبة يمكن حماية هذا الاتفاق وتطويره.

*محمد سليمان عبدالرحيم

تناولت العديد من الجهات والأقلام بالنقد والتحليل والتشريح، إعلان أديس أبابا الصادر في الثاني من يناير الجاري عن اتفاق تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) مع قوات الدعم السريع على إعلان مباديء وخارطة طريق لإيقاف الحرب وإحلال السلام في السودان.

من بين جملة تلك البيانات والمقالات اتفق بيان الحركة الإسلامية ومقال الدكتور أحمد عثمان عمر، وحدهما، في رفض الإعلان جملة وتفصيلا، والاتفاق بين الطرفين في الموقف، رغم اختلاف المنطلقات، ليس بمستغرب. من ناحية أخرى، كتب الدكتور صديق الزيلعي مشيداً بالإعلان رغم أن غرض مقاله الأساسي كان هو الإشادة بتصريح الناطق الرسمي للحزب الشيوعي المرحب بلقاء (تقدم) بالدعم السريع والذي صدر قبل اللقاء. أما معظم البيانات والمقالات فقد امتنعت عن إبداء رأي صريح بقبول الإعلان أو رفضه أو استوسعت في نقده وتعداد وتبيان مثالبه من وجهة نظرها.

أبدأ فأقول أنني، ورغم علمي بأن الاتفاق فيه بعض النقائص وشيء من الضعف في بعض الجوانب ورغم اتفاقي مع بعض النقاط التي أثيرت في نقده، إلا أن ذلك لا يمنعني على الإطلاق من الإشادة به إشادة تامة وتأييده بقوة وبلا أي تحفظ، وأفعل هذا لعدة أسباب هي:
أولاً: لإن شعبنا، ومنذ 15 أبريل 2023 لم يتلق إلا أنباء القتل والدمار والقصف والنهب والاغتصابات والجرائم والهروب والنزوح واللجوء والمطاردة والهزائم واليأس والإحباط. هذه أول مرة، منذ تسعة أشهر، يسمع شعبنا نبأً فيه بصيص أمل، ويرى ضوءاً خافتاً في نهاية النفق. أعتقد أن شعبنا يستحق هذه الهدنة ولو لبرهة قليلة.
ثانياً: لقد وطنت نفسي منذ 15 أبريل المنصرم على أننا في السودان قد دخلنا زمن الخيارات السيئة. لقد أعادتنا هذه الحرب الدنيئة، بممارساتها البشعة والمنحطة أخلاقياً والتي تدوس على أبسط قيم الحرب ذاتها، أعادتنا قروناً إلى الوراء بحيث أصبح المستقبل ذاته أطلالاً وذكريات. نحن بين خيارات أفضلها خيار سيء وهذا الاتفاق هو، في تقديري، أفضل تلك الخيارات.
ثالثاً: لأن معظم الناس يكتفون، كما هو الحال في صدد هذا الاتفاق، بالنقد فقط دون تقديم البدائل الممكنة، وأنا عموماً لم أعد أعبأ بأي انتقادات يقدمها أصحابها دون أن ترافقها مقترحات بديلة واقعية وعملية.
رابعاً: لقناعتي التامة بأنه لا يمكن لاتفاق يأتي نتيجة لتفاوض مع الخصوم أن يأتي ملبياً لجميع طلبات أي من الطرفين. هذه هي طبيعة التفاوض وهذه هي سنة الحلول التفاوضية، ولا نملك لها تغييراً.

علينا أن نكون واضحين مع شعبنا، وأن نكف عن خداعه بأن في الإمكان تحقيق المستحيل. لقد اخترنا التفاوض وسيلة لإيقاف الحرب لإنه الوسيلة الأكثر عقلانية والأقل تكلفة والمعمول بها في كل أنحاء العالم لحل النزاعات. الوسيلة الأخرى هي الحل العسكري، وأي عاقل يدرك أن المخاطر المرتبطة بمثل هذا الحل، حتى لوكانت هناك إمكانية عملية لتحقيقه، هي مخاطر باهظة قد تنتهي بتفتت البلاد وضياعها تماماً. طالما اخترنا التفاوض، فعلينا الاستعداد لتقديم التنازلات، أما أي تنازلات وإلى أي مدى تكون تلك التنازلات فهذا يعتمد على أمور كثيرة أهمها موازين القوى بين الأطراف وأدوات الضغط التي يملكها كل منهم، ولكن في كل الأحوال لابد من قبول تقديم التنازلات وإلا فلن تكون هناك مفاوضات. من لا يريد تقديم أي تنازلات يتوجب عليه العمل بالوسيلة الأخرى لهزيمة خصمه هزيمة ساحقة وانتزاع مطالبه منه راغماً، بعد أن يوقع ذلك الخصم على وثيقة استسلامه في "خيمة صفوان".

المزايدات السياسية لا تقدم للشعب شيئاً سوى الأوهام، والشعب هو الذي يدفع ثمن هذه الأوهام في نهاية الأمر. إن كل يوم يمر في هذه الحرب يعني العشرات من الضحايا الأبرياء، يعني العشرات من الأسر التي تفقد معيليها وأحبتها، يعني الآلاف الذين يفقدون آخر ما امتلكوا من متاع ويتحولون إلى التسول، يعني الآلاف الذين يبيتون الطوى على أرصفة الملاجيء وفي متاهات الصحاري، يعني المزيد من الدمار والنهب والإجرام. على سبيل المثال، من ضمن هذه المزايدات مطالبة طرفي الحرب بإيقافها في ذات الوقت الذي نهددهم فيه بالمحاكمات وننصب لهم المشانق عقاباً على الانتهاكات والجرائم التي ارتكبوها. لا أحد يغالط في مشروعية عدم الإفلات من العقاب وضرورة محاكمة المجرمين، ولكن هل من الحكمة أو من الواقعية تهديد من تطالبهم بوقف الحرب بإعدامهم عند وقفها؟ هل سيؤدي ذلك إلى وقف الحرب أم إلى إطالة أمدها؟

بسبب عقود من السياسات الخاطئة وثلاثين سنة من طغيان الإنقاذ وفسادها الأسطوري، فقد تراكمت مظالمنا وتزايدت وتعاظمت مطالبنا في كل جوانب الحياة، فهل من الممكن محو كل تلك المظالم وتحقيق كل تلك المطالب، رغم إلحاحها وصحتها ومشروعيتها، في خطوة واحدة أو في وقت واحد؟ هناك مطالب يسهل نسبياً تنفيذها مقارنة بمطالب أخرى، وهناك مطالب ذات أولوية واضحة وأخرى يمكن تأجيلها لبعض الوقت، وهكذا، ولكن المزايدات السياسية تستفيد من إلحاح الحاجة لتدفع الناس دفعاً في اتجاه تحقيق كل شيء أو لاشيء، مما يؤدي إلى عدم تحقيق أي شيء. اتفاق حمدوك – حميدتي يحقق بعض الأشياء ولا يحقق كل شيء، وإذا حاولنا دفعه دفعاً ودون روية وتبصر في ذلك الاتجاه، فلن يتحقق أي شيء.

وبعد، هل يعني كل ما تقدم أنه يجب علينا تأييد الاتفاق فقط وتجاهل سلبياته تماماً؟ ذلك أيضاً ليس صحيحاً. تأييد الاتفاق بلا تحفظ لا يعني على الإطلاق السكوت التام عن أخطائه، وإنما يعني أنه يمكننا أن نعالجها بطرق أخرى. هذا الاتفاق يمثل بداية الطريق، وليس نهايته، لذلك فإن هناك إمكانية كبيرة لتحسينه وتطويره من خلال الالتفاف الشعبي الواسع حوله. هذا الالتفاف الواسع يحتاج جهوداً مضاعفة من كل الأطراف العاملة بجدية لإيقاف الحرب، بما فيهم (تقدم) ذاتها. إذا أرادت (تقدم) لهذا الاتفاق أن ينجح وأن يتطور في الاتجاه الصحيح فعليها أولاً أن تجعله ملكاً عاماً لكل القوى المدنية الوطنية والديمقراطية الواقفة بقوة في معسكر إيقاف الحرب، ومن ثم يجلس الجميع للتفاكر الهاديء والموضوعي حول معالجة نقاط الضعف فيه والبناء على جوانبه الإيجابية.. ذلك هو الطريق.

abuhisham51@outlook.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذا الاتفاق

إقرأ أيضاً:

محاكمات أونلاين والإعلان عنها برسائل نصية.. ماذا يريد خبراء القانون من الحكومة المرتقبة؟

أشاد الدكتور صلاح فوزي، أستاذ القانون الدستوري، برقمنه المحاكم ونظام التقاضي الذي وصلت إليه المحاكم المصرية، خاصة نظام المحاكمات عن بعد، مشيرًا في نفس الوقت إلى أن هناك بعض الأمور التي تحتاج تطوير من الحكومة المرتقبة على رأسها نظام المحضرين.

«المحضرين» هم الموظفين المكلفين بإعلان الخصم بالدعاوى التي تقام ضده، لافتًا إلى ضرورة ميكنة هذا النظام ليكون الإعلان بالدعاوى عن طريق الرسائل النصية القصيرة.

تسوية النزاعات

وأضاف «فوزي» في تصريح لـ«الوطن»: «وأتمنى تفعيل تسوية النزاعات صلحًا من قبل هيئة المفوضين بمجلس الدولة عند عرض القضايا عليهم لإعداد التقرير بالرأي القانوني»، مؤكدًا أنه في حالة الصلح أمام المفوضين فيكون التقرير الصادر منها له حجية الحكم، مشيرًا إلى ضرورة تفعيل دور لجان فض المنازعات أيضاً في حل النزاعات ودياً قبل عرضها على المحكمة حتى يتم التخفيف الضغط على المحاكم، وهذا ينطبق أيضًا على تفعيل دور المفوضين في عرض الصلح.

وشدد على أنه يجب زيادة من قيمة الكفالة في بعض القضايا والتي تصل فيها إلى 20 جنيهاً فقط، سواء في الدعاوى التي ترفع أمام المحكمة الدستورية العليا أو النيابات أو المحاكم، مشيراً إلى استبدال العقوبات السالبة للحرية في الجرائم المالية إلى عقوبات مالية أو حبس المتهم لحين سداده المبالغ التي اختلسها.

تحقق إنجازات عظيمة في ملف الرقمنة

 من جهته، قال الدكتور عبد الله المغازي، أستاذ القانون الدستوري، أن وزارة العدل حققت إنجازات عظيمة في عهد الرئيس السيسي والمستشار عمر مروان وزير العدل الحالي، خاصة فيما يتعلق بملف الرقمنة وتطوير المحاكم والشهر العقاري، مشيرًا إلى أنه للمرة الأولى يكون لدينا خريطة إلكترونية حقيقية يمكن تطبيقها في كافة المحاكم وجهات التوثيق والشهر العقاري.

وأضاف «المغازي» في تصريحات لـ«الوطن»: «أتمنى أن تكتمل هذه المنظومة الذي بدأها الوزير عمر مروان في عهد الوزير القادم، مؤكدًا ضرورة تفعيل التقاضي عن بعد نظراً لما يوفره من وقت وجهد على المتقاضين والمحامين وأيضاً أموال في خزينة الدولة.

زيادة تطوير المحاكم 

في سياق متصل قال أيمن محفوظ المحامي بالنقض والدستورية العليا: «أتمنى زيادة تطوير المحاكم كما هو متبع من نهج الوزارة، كما نطالب بزيادة عدد الموظفين وسكرتارية الجلسات المتعاملين مع المحامين والجمهور، وزيادة منافذ التحصيل الرسوم وجعلها إلكترونية بشكل كامل».

وأوضح أنه لا شك أن الدولة المصرية لا سيما وزارة العدل تعمل على منظومة العدالة الإلكترونية، والتي تحقق منها مكاسب كثيرة ولكن نحتاج الى مزيد من التقنيات والتوسع في منظومة العدالة الإلكترونية بإضافة جميع الدعاوى يمكن رفعها عن بُعد، بالإضافة إلى تفعيل حضور الجلسات بُعد وتقديم الدفاع أمام القاضي بشكل إلكتروني، فإذا كان المستند المقدم في الدعوى يمكن تقديمه عن طريق الإنترنت أو أن هناك طلبًا للمحكمة بالتأجيل فيمكن إرسالة عن طريق منظومة العدالة والتقاضي عن بعد ما يسهم في العدالة الناجزة».

التوسع في حضور الجلسات عن بعد

 واستكمل: «يجب التوسع في عدم حضور المتهمين لجلسات المحاكمة ولنا في تجديد الحبس عن بعد أسوة حسنة وفرت الكثير من الجهد والمال، ومن يدعي أن المحاكمات أون لاين تضر بمبادئ العدالة فهو واهم، فلن يضر العدالة حضور متهم للمبني للمحكمة مكلفا الدولة حراسة ونقل لمجرد طلب التاجيل أو لسماع طلبات الدفاع ولتفويت الفرصة عن منتقدين هذا المنهج تكون الجلسة الأخيرة واجب فيها حضور المتهم».

مقالات مشابهة

  • محاكمات أونلاين والإعلان عنها برسائل نصية.. ماذا يريد خبراء القانون من الحكومة المرتقبة؟
  • تطوير الصناعة وتسهيل حياة الناس.. ماذا يريد أهالي الإسكندرية من الحكومة المرتقبة؟
  • طيران اليمن بين الإمامة والجمهورية.. ماذا يريد الحوثي من احتجاز الطائرات!
  • مع اقتراب تشكيلها.. ماذا يريد المواطن من الحكومة الجديدة؟
  • أفريكا إنتليجنس: الحرس القديم لعمر البشير في صفوف حميدتي
  • ماذا يريد إسرائيليون بشأن حزب الله؟ هذا آخر تقرير!
  • فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”
  • واشنطن تقدم صيغة جديدة لمقترح الهدنة في غزة.. ما الذي غيّرته في البند الثامن؟
  • أمريكا تقدم صياغة جديدة لإقرار هدنة في غزة
  • السودانيون.. بيننا