سودانايل:
2025-02-22@04:42:05 GMT

معايير النقد الأدبي عند قدماء العرب

تاريخ النشر: 5th, January 2024 GMT

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الشعر العذب الذي يبعث المسرة في النفوس، ويحدث النشوة في المشاعر، لا يبرأ من النقد رغم متانته وإحكام صنعته لأن النقد يبتغي النضج وينشد الكمال، فالناقد الذي يدفع عن الشاعر معرّة الابتذال وعن شعره نقيصة الإسفاف أو التكلف يجلو الأفهام ويزكي القلوب ويبصر الناس بالمحاسن والعيوب التي حفل بها القريض.

والنقد الذي يدمغ باطل الشعر بالحق ويدحض مراءه بالمنطق مرّ بعدة مراحل قبل أن يهذبه العلم ويصقله التمدن. ولعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أنّ الأدباء والكُتّاب على مرّ العصور قد استقرّ رأيهم على أن النقد كان في بدايته قوامه الذوق الفطري فالجاهلي المتمكن من ناصية اللغة والذي ينداح في كل ضرب ويستفيض في كل حديث يستطيع أن يمحص بقريحته الجياشة مواطن الضعف والقوة ثم يصدر حكمه من غير حزازة أو اعتساف، ومن أهم المظاهر التي تبرهن أن الجاهليين أصلحوا ما فسد من خطل الشعراء وسددوا ما إعوج من نظام الأدباء القصص المترعة بالجمال التي نقلتها إلينا أمهات الكتب والتي تدل على قوة الطبع، وجلاء الذهن، وحدة البادرة.
لقد أخبرتنا تلك الكتب التي لا تخلق ديباجتها أو يخبو بريقها عن تلك المجالس النقدية التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، والتي كان يعقدها الشعراء في الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، وفي غير الأسواق الأدبية مثل تلاقي جهابذة الشعر بأفنية الملول في الحيرة وغسان، والباعث على ذلك هو الاستماع والتحاور وإصدار الأحكام، من ذلك ما نجده عند النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ فقد كانت «تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.

ولدنا بني العنقاء وابني محرّق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما.

فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: «لنا الجفنات الغر» والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن».

ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد والتي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة حائلة اللون، كاسفة البال، ترثي أخاها صخراً الذي أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها: «قذى بعنيك أم بالعين عوار«، حتى وصلت إلى قولها:

وإن ضخراً لتأتم الهداةُ به *** كأنه علم فى رأسه نار.

وإن صخراً لكافينا وسيدنا *** وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.

فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يرق ذلك لحسان رضي الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.. فقال النابغة: حيث تقول؟ قال: حيث أقول: «لنا الجفنات يلمعن بالضحى....« فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.

ونجد أن الناقد الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يطعن في صحة هذه الرواية من عدة وجوه:

1- فالجاهلي «لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين الأشياء كما فرّق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق.

2- لو أن هذه الروح كانت سائدة في الجاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحهم إفحامًا، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين. ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً. هذا إلى أن تلك الروح فى النقد لا أثر لها في العصر الإسلامي لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحويين واللغويين.

3- كما أن هناك من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق؛ فأبو الفتح عثمان بن جني يحكي عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. فهذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيدة كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق الذي يحلل، ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.

ويرى الأستاذ طه أن هذا النقد وجد في أواخر القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعرف شيء من رسوم البلاغة، وتعرض البلاغيون للكلام على الغلو في المعاني والاقتصاد فيها. ولذلك نجد قدامة بن جعفر أسبق المؤلفين لذكر شيء من القصة السابقة فى كتابه نقد الشعر».

وأحسب أن ما ذهب إليه الأستاذ طه أحمد إبراهيم افتئات على الحقائق وتعدياً على سيرة الجاهليين فكلامه معتسف عن جادة الصواب، وبعيد عن مرمى السداد، لأن الجاهليين نشأوا في مهد الفصاحة، ودرجوا في فنائها الرحب، وعاشوا في مرعاها الخصب، فالبدوي الذي تنزه كلامه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشبهات، كان يدرك بسليقته الخطأ الذي تمجه الأسماع، واللحن الذي تستك منه الآذان، نعم لقد كان يدرك بفطرته التي لم تكن ضعيفة المغمز، ولا هشة الحشاشة جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، دون الحاجة لذهن علمي يفرق بين الأشياء، ودون الحاجة لتسميتها ونعتها بتلك النعوت التي دعا إليها تفشي الدخيل في اللسان العربي وظهور آصار العجمة التي استشرت في شبه جزيرة العرب نسبة لأقوام خلعوا عِذَار الكفر، واستشعروا الخوف من الله ودخلوا فى دينه الخاتم أفواجا، وما لا يندّ عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الخليل وسيبويه وغيرهما من فطاحلة اللغة والأدب عاشوا كلاً على القدماء الذين ذللوا سُبُل البلاغة، ومهدوا مذاهب الخطابة وكانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وابتكار المعاني ونظم اللآلى والعقود، الأمر الذي دعا أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، كالخليل وسيبويه يتكاكأون حول تركة القدماء بالدراسة والتحصيل ليستخرجوا تلك الفروق الدقيقة بين الألفاظ ليسدوا بها عوز أجيال تفتقر إلى الفصاحة وتعاني من ضعف الإدراك وضمور المعرفة باللغة، فالنحوي الثبت سيبويه الذي يُرْجع إليه في المُشكلات، و يُسْتْصبح بضوئه في المعضلات، هو في حقيقة الأمر من المولدين الذين «كان بهم قصور فى الطبع واللغة اضطروا بسببه إلى التعلم، والوقوف على الوسائل التي تؤدي بهم إلى صنعة الكلام الجيد الذي يوازي كلام السابقين، ولقد سعت تلك الطائفة لتتبع نماذج الخطابة والشعر والأمثال القديمة ليستخرجوا منها القواعد والمقاييس ثم يضعوها بعد ذلك أمام ناشئة الكتاب ليحتذوا حذوها».

والعرب الأقحاح الذين اشتهروا بدقة الفهم، وشدة الحجاج، وبُعد النظر، وقفوا مبهوتين أمام معجزة الله الخالدة بل وأقروا في خنوع واستسلام بأنه: «كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه». فإذا عجز أساطين البلاغة وملوك البيان الذين انبروا في حملات محمومة تشكك في صحة القرآن فإن سواهم أعجز، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأن المتأخرين الذين لا ينطقون إلا عن علم، ولا يقولون إلا عن دراية، والذين ثقفوا علوم الكلام، وحذقوا أصول المنطق، استشعروا اليأس من النيل من ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل
العبارة، المتناسق الأجزاء، والذى يأخذ بعضه برقاب بعض، وأدركوا أنهم يرومون أمراً دونه خرط
القتاد.
د.الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com
/////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

"الحارثي": معايير جائزة المنتدى السعودي للإعلام مهنية ودقيقة

افتتح الرئيس التنفيذي لهيئة الإذاعة والتلفزيون، رئيس المنتدى السعودي للإعلام، محمد فهد الحارثي، الحفل الختامي لجائزة المنتدى السعودي للإعلام بكلمة ملهمة تسلط الضوء على دور الإعلام في صناعة التأثير وتعزيز المشهد الإعلامي.
وقال الحارثي، إن الجائزة محوكمة من قبل مجلس الأمناء وتتضمن 14 مسارا، كل مسار له لجنة تحكيم مقننة بمعايير مهنية دقيقة، بحيث لا يشوبها المجاملة والمحاباة.

الأستاذ «محمد فهد الحارثي» الرئيس التنفيذي لـ #هيئة_الإذاعة_والتلفزيون، رئيس #المنتدى_السعودي_للإعلام ⁩، يوضح حرص الجائزة على الالتزام بمعايير مهنية دقيقة لضمان نزاهتها، مشيرًا إلى أنها تشمل 14 مسارًا، يُشرف على كل منها لجنة تحكيمية متخصصة.pic.twitter.com/21vsDmg3kR— المنتدى السعودي للإعلام (@saudi_mf) February 21, 2025
أخبار متعلقة ينطلق غدًا.. تفاصيل جلسات المنتدى السعودي للإعلام 2025بالتفاصيل.. أبرز فعاليات اليوم الثاني من المنتدى السعودي للإعلام35 جلسة و11 ورشة عمل.. تفاصيل اليوم الأول بالمنتدى السعودي للإعلامواستعرض الحارثي، في كلمته المبادرات المدشنة في المنتدى السعودي للإعلام، منها ملهم، العصف الذهني، وسفراء الإعلام، واصفا الأخيرة بـ"الأقرب إلى قلبي".

الأستاذ «محمد فهد الحارثي» الرئيس التنفيذي لـ #هيئة_الإذاعة_والتلفزيون، رئيس المنتدى السعودي للإعلام⁩، يؤكد خلال الحفل الختامي لجائزة ⁧#المنتدى_السعودي_للإعلام⁩ على أهمية المبادرات كركيزة أساسية لدعم وتطوير صناعة الإعلام.pic.twitter.com/8cD93eJjFj— المنتدى السعودي للإعلام (@saudi_mf) February 21, 2025المنتدى السعودي للإعلاموأوضح أن المبادرات تأتي إيمانا أنها جزء من التفكير التطويري في الإعلام، وركيزة أساسية لدعم وتطوير صناعة الإعلام، لافتا إلى الاحتفال بالمشروعات الفائزة في توظيف الذكاء الاصطناعي في الإعلام.

الرئيس التنفيذي لـ #هيئة_الإذاعة_والتلفزيون، رئيس #المنتدى_السعودي_للإعلام، الأستاذ «محمد فهد الحارثي» يفتتح الحفل الختامي لـ جائزة #المنتدى_السعودي_للإعلام بكلمة ملهمة تسلط الضوء على دور الإعلام في صناعة التأثير وتعزيز المشهد الإعلامي. pic.twitter.com/ltaoKVP1je— المنتدى السعودي للإعلام (@saudi_mf) February 21, 2025
يُذكر أن فعاليات وجلسات المنتدى السعودي للإعلام في نسخته الرابعة لهذا العام 2025م، تشهد مشاركات واسعة لشخصيات إعلامية محلية ودولية بارزة ومؤثرة، إضافة إلى إقامة معرض مستقبل الإعلام "فومكس"، الذي يعد أكبر معرض إعلامي متخصص في الشرق الأوسط، بمشاركة أكثر من 250 شركة عالمية، وكذلك توزيع جوائز جائزة المنتدى لتكريم المبدعين في مختلف المجالات الإعلامية.

مقالات مشابهة

  • "الحارثي": معايير جائزة المنتدى السعودي للإعلام مهنية ودقيقة
  • ازدواجية معايير (كاريكاتير)
  • الفاخوري: معايير المرحلة الثانية في التبادل مختلفة عن الأولى
  • شاهد | الصليب الأحمر في غزة .. ازدواجية معايير
  • بالصور.. الاحتفاء بإطلاق جائزة رابطة الأدباء للشعر والسرد الأدبي بالكويت
  • نادي جازان الأدبي يحتفي بيوم التأسيس بفعاليات ثقافية وطنية
  • «صحة دبي» تعتمد معايير جديدة للتبرع بالأعضاء والأنسجة
  • الناقد الأدبي في ظل التحولات الراهنة ندوة أدبية في النادي الثقافي
  • ما الذي يدور في عقل ترامب؟
  • أسس كتابة الإبداع الأدبي فى ندوة بمكتبة المستقبل غدا الخميس