ليس عزَّتبيغوڤيتش بحاجة إلى تعريف، فهو علَمٌ من أعلام الأمَّة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عرفه القارئ العربي عن كثبٍ، منذ ما يربو على ربع قرن؛ أولا من خلال جهاده ضد العدوان الصربي على بلاده، ثم من خلال بعض كُتُبه التي تُرجمت إلى العربية تباعا، منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين فصاعدا.
وفي إطار مشروع تنوير للنشر والإعلام، لنشر النصوص التأسيسيَّة للفكر الإسلامي إبَّان الأعوام المئة والخمسين الفائتين -منذ السيد جمال الدين الأفغاني وحتى سيد حُسين نصر- يأتي مشروع نشر الآثار الكاملة لعلي عزَّتبيغوڤيتش؛ رحمهم الله أجمعين.
وقد بدأ هذا المشروع الأكبر بمشروعٍ شخصي حمله كاتب هذه السطور؛ للتأريخ لمسيرة الفكر الإسلامي في هذه الحقبة المركزيَّة، رغبة في الوقوف على مكامن الخلل التي أبْقَت على الأمة تُراوحُ في المكان مُدَّة قرن ونصف، رغم تكرار الأسئلة نفسها في كلِّ جيل، بل وما بدا لنا أنه تكرارٌ لـ"الإجابة" عليها! بيد أن هذا التأريخ واجهَتهُ عقبة كأداء، وهي عدم توفُّر النصوص التأسيسيَّة للفكر الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى اليوم.
صحيح أن الناشر -كاتب هذه السطور، والباحث المعني بهذه النصوص- كان بوسعه الاطلاع عليها في مظانها، المخطوط منها أو المدوَّن بلُغات أخرى؛ بيد أنه وجد في هذا لا أنانيَّة فحسب، وإنما مُصادَرَة على تأويل هذه النصوص، والإفادة منها في إعادة بناء الفكر الإسلامي الحديث، والحفاظ على استمراريته. ومن ثم، هُدي بحول الله إلى إعادة نشر ما يَسَّر الله له -وهو كثير!- رغبة في توفير النصوص الأصلية للباحث الجاد كما سيوفرها لنفسه.
لم تكن الأزمة قاصرة فعلا على النصوص المترجمة إلى العربية من لُغات أخرى، شرقيَّة أو غربيَّة؛ إنما بدأت أصلا بالنصوص العربيَّة الأصيلة التي سبق نشرها نشرات مشوَّهة، تلاعَبَت بتُراث الأفغاني والكواكبي والنديم -وغيرهم!- ونشرته مُشوَّها منقوصا، قد غُيِّر ترتيبه وعبثت به أيدي العابثين؛ فاستحال شيئا آخر غير ما أراده أصحابه، وشوَّه صورتهم بدل أن ينقل لنا مُرادهم نقلا أمينا؛ فيُعيننا من ثم على مواصلة المسير. ولا مجال هاهُنا للتفصيل في هذا الأمر، وإنما يُستَزَادُ منه في مظانه من مُقدمات نشراتنا لكتب السيد جمال الدين، التي صدر بعضها بالفعل عن هذه الدار نفسها، علاوة على مقالاتنا العديدة التي تناوَلَت الأمر.
ثم إننا حين وفِّقنا بفضل الله إلى بدء مشروع إعادة نشر الآثار الكاملة لعلي عزَّتبيغوڤيتش، كانت تحدونا رغبة في إخراج نصوصها على أدق صورة ممكنة، تقترِبُ بها لا من الأصل البوسنوي فحسب؛ بل تتجاوزه دقَّة، إذ تُعبِّرُ -متى لَزِم ذلك- عن الأفكار الإسلاميَّة تعبيرا لا تستطيعه إلا اللغة العربية، لغة القرآن الكريم التي كان المؤلف يعتزُّ بها أيما اعتزاز، ويُدافع عنها، وأسهمت بعض نصوصها المحورية في تشكيل فكره؛ بوصفه مُفكرا مُسلما مُتدينا.
وعليه، درسنا أول الأمر خيار استعمال بعض الترجمات القديمة، التي كُنَّا نَعُدُّها -لطول صُحبتنا إياها- أدق من غيرها، وأعني ترجمات الأستاذ يوسف عدس رحمه الله. لكنَّ المقارنة بينها وبين النسخ الإنكليزية التي ترجم الجميع عنها، ثم بينها وبين الأصول البوسنويَّة؛ قد كشفت لنا عدَّة اختلالات يستعصي قبولها، تبدأ من التصرُّف البسيط في المعنى، وتصلُ أحيانا إلى قَلْب المعنى؛ تثبيتا لصورة مُسبَقَة، مُترسخة في ذهن المترجم. وإذا كانت هذه هي الحال في ترجمات المترجم القدير الأستاذ عدس، فحدِّث ولا حرج عن عورات الترجمات الأخرى، التي اضطلع بها من لا يصلُح أصلا لمثل هذا العمل المركَّب؛ فإذا النتاج لا يرقى أبدا ولا حتى لمستوى التعبير الجزئي عن تركيبيَّة فكر هذا الرجل الفذ وخلفيته الثقافيَّة، والمؤثرات التي تضافَرَت جوانيّا في أنساقه الثريَّة. أضِف إلى ذلك كله حجم السقط والتصرُّف في النصوص الإنكليزية، التي تُرجمت عنها الكتب الخمسة التي اشتهرت بين القراء العرب، وهو فاقدٌ يبدأ بنسبٍ محدودة في نصٍّ مثل: "الإسلام بين الشرق والغرب"، ويكاد يبلُغُ رُبع الكتاب في نصٍّ ثري مثل: "هروبٌ إلى الحريَّة".
فكان القرار الشاق الذي هُدينا إليه؛ هو: إعادة ترجمة الآثار الكاملة ترجمة جديدة دقيقة كاملة، تبتعدُ قدر الإمكان عن تحيُّزات المترجمين وجهلهم، حتى يستطيع القارئ التعرُّف إلى الرجل تعرُّفا سليما، ومن ثم؛ يتمكَّن من الإفادة منه إفادة عمليَّة.
إن علي عزَّتبيغوڤيتش وفكره حلقة محورية في تاريخنا، حلقة مُلهمة وجديرة بالدرس والتأمُّل؛ خصوصا وهو المفكر المسلم الوحيد، الذي تمخَّض عنه الإطار التحديثي إبَّان القرن العشرين؛ الذي حمل فكره معه إلى أريكة السلطة، وسعى لتنزيله في الواقع، والاطراد معه. ففي مدرسته؛ سنتعلَّم الصدق مع الله، والصدق مع النفس، وحُسن الاستقامة على القيم، والاطراد معها. سنتعلَّم من الأخطاء والمزالق، كما سنتعلَّم من الفتوحات والانتصارات؛ الفكريَّة والحركيَّة. وإن أعظم حكمة يمكن أن نفيدها من دراسة أي مفكر مسلم، أفضى إلى ما قدَّم ونحن نحسب فيه الإخلاص؛ هو أنه لولا خطؤه لما عُلِّمنا نحنُ الصواب بحول الله تعالى. وإن الكمال البشري لا يكمن في الفرد المفكر ونسقه الفذ، وإنما فيما يفيدُ به أمته، إما باحتذاء خطواته أو تفادي سقطاته؛ لتتكامل مسيرتها بجهود أبنائها ومساعيهم مجتمعة.
فاللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر اللهم لنا وله.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفكر الكتب ترجمة كتب المسلمين الفكر شخصيات ترجمة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التی ت
إقرأ أيضاً:
اليمن: الصخرة التي كسرَت قرون الشيطان وتستعد لتحطيم طغاة العصر
عدنان ناصر الشامي
على مدى عشر سنوات من التحدي الأُسطوري، وقف الشعب اليمني شامخًا كالجبل الذي لا تهزه الأعاصير، خلال هذه السنوات، خاضت اليمن معركةً لا تشبه غيرها، معركةً بين الحق والباطل، بين العزة والذل، بين إرادَة الله وبين غطرسة الشياطين، في هذه المعركة، أظهر اليمن للعالم أن الأمم الحقيقية لا تخضع لهيمنة الطغاة، ولا تنكسر أمام ضغوط الاستكبار العالمي.
كان اليمنيون صخرة الله التي حطمت قرون الشيطان، تلك الدول الوظيفية التي نشأت في نجد، السعوديّة والإمارات، التي لم تكن يومًا سوى أدوات بأيدي الطغاة، تُساق وفق أهواء قوى الاستكبار، تدور في أفلاكهم، وتنفذ مخطّطاتهم، لكن هذه المخطّطات تحطمت أمام إرادَة الشعب اليمني الذي جعل الله من صموده كابوسًا يطارد الأعداء.
الشيطان الأكبر… إلى مصيره المحتوم..
واليوم، ومع سقوط أقنعة الدول الوظيفية، يواجه اليمن تحديًا جديدًا، الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعد تكتفي بإرسال أدواتها، بل تقدمت بنفسها إلى الساحة، وكأن الله يسوقها إلى قدرها المحتوم، لتلقى مصير كُـلّ من سبقها ممن تحدى إرادَة الله، جاءت أمريكا معتقدةً أنها ستُحني اليمن، وأنها ستخضع هذا الشعب الذي وقف أمامها على مدى تسع سنوات، لكنها لم تدرك أن الله جعل من اليمن صخرةً تتحطم عليها أحلام المستكبرين وتتكسر عندها مخطّطاتهم.
قدر اليمن في مواجهة الطغاة ودعم الأحرار..
الله جعل من اليمن أُمَّـة تحمل قدرًا عظيمًا، قدرها أن تطهر العالم من فساد الطغاة، وتكسر غرورهم وجبروتهم، وأن تكون سوط العذاب الذي يستأصل الكفر ويضع حدًا لجبروت الطغاة، وكما قال أحد رؤساء أمريكا في مقولته الشهيرة: “قدرنا أمركة العالم”، نقول لهم بكل ثقة: “قدرنا أن نطهر هذا العالم من فسادكم، وأن نحطم أوهامكم، وأن ندفن غروركم في مزبلة التاريخ. ”
اليمن ليس مُجَـرّد دولة صغيرة في خريطة العالم، بل هو رمزٌ لروح الأُمَّــة وقوة الإرادَة، من أرضه تنطلق سهام الحق التي تهز عروش الطغاة، ومن شعبه تصعد إرادَة صلبة تقف في وجه كُـلّ متجبر، وَإذَا كان التاريخ قد شهد فراعنةً تحطموا أمام إرادَة الله، فَــإنَّ اليمن اليوم هو السوط الذي يلاحق فراعنة العصر، ليكون قدر الله في الأرض، الذي يستأصل الظلم وينشر العدل.
وفي نفس اللحظة التي يقاوم فيها الشعب اليمني الغزو والطغيان، يقف جنبًا إلى جنب مع الأحرار في غزة ولبنان.
إن صمود غزة الأُسطوري ومقاومة لبنان الشجاعة ليسا بمعزلٍ عن الروح اليمنية التي تحمل في طياتها إرادَة التحرّر ونصرة المظلوم، كلّ صاروخٍ يمني، وكلّ طائرةٍ مسيّرة، هي سهمٌ من سهام الله، يوجهها اليمنيون نحو قلوب أعداء الإنسانية، يحطمون بها غرور الطغاة، ويعلنون بها أن المعركة لم تنتهِ، وأن الظالمين إلى زوال.
هذه ليست معركةً عابرةً بين قوى ضعيفة وأُخرى متغطرسة، بل هي معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس، الذي يُطهِر الأرض من دنس الظالمين، إنها معركةٌ بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، بين إرادَة الله وإرادَة الشياطين، وكلما ازدادت التحديات، زاد اليمنيون قوةً وعزيمة، وكلما حاولت قوى الظلم كسر شوكة هذا الشعب، ازداد صلابةً وثباتًا؛ لأَنَّ إرادَة الله هي الإرادَة العليا، ولأن الله جعل اليمنيين جنوده في الأرض، وسوط عذابه الذي يطارد كُـلّ متكبر عنيد.
من صنعاء إلى غزة، ومن اليمن إلى لبنان، يمتد جسر المقاومة والتحدي، ليشكل ثلاثيةً من الصمود لا تعرف الخضوع ولا الانكسار، كُـلّ صاروخٍ يمني، وكلّ طلقةٍ يطلقها المقاومون في غزة، وكلّ شجاعةٍ يبديها الأبطال في لبنان، هي جزء من معركة التحرّر الكبرى، نحن أُمَّـة توحدها القضية، وتجمعها المقاومة، وتُحييها الإرادَة الإلهية.
اليمن اليوم ليس مُجَـرّد دولة تصمد أمام طغيان الإمبراطوريات، بل هو رمزٌ لتحرير البشرية من قبضة الشيطان الأكبر، وما كان لليمن أن يكون في هذا الموقف إلا بإرادَة الله، الذي جعله سدًا منيعًا يحمي الأُمَّــة، وصخرةً تتحطم عليها قرون الشياطين، واحدًا تلو الآخر.
نحن اليوم نقف في معركةٍ مقدسة، معركة لن تتوقف حتى يتحقّق وعد الله بالنصر والتمكين، ومع كُـلّ يومٍ يمر، يُسطر الشعب اليمني بدمائه ملحمةً جديدة، ليعلن أن طغاة هذا العصر، مهما تعاظمت قوتهم، فَــإنَّ مصيرهم إلى زوال، وأن إرادَة الله هي التي ستسود في نهاية المطاف.
اليمن هو القدر الذي كتبته يد الله في صفحات التاريخ، ليدفن الطغاة، وليُعلي رايات الحق، إنه الصخرة التي تكسر قرون الشيطان، والشعلة التي تضيء دروب الأحرار في كُـلّ زمان ومكان، وها هو اليوم يقف كتفًا إلى كتف مع غزة في نضالها ومع لبنان في صموده، ليقول للعالم: نحن أُمَّـة واحدة، وقضيتنا واحدة، وإرادتنا لا تنكسر.