كيف يمكن دعمهم؟.. إليك أشهر خمس خرافات عن اللاجئين
تاريخ النشر: 5th, January 2024 GMT
مقدمة الترجمة:
مَن هم اللاجئون؟ إنه سؤال بسيط يظن البعض أنه يمتلك إجابة وافية عنه، فيعتقد البعض أنهم هؤلاء الذين تمكنوا من الهروب من ويلات الحرب بسلام، ولذا يجب أن يكونوا فرحين بذلك، ويرى البعض الآخر أن مَن وصل إلى أوروبا أو أميركا منهم قد نال فرصة ذهبية، ويظن فريق آخر في تلك الدول أنهم مجموعة من "اللصوص" الذين جاءوا إلى بلادهم لسرقة الوظائف والتسبب برفع معدلات الجريمة، لكن بحسب كينيث ميلر من منصة "سايكولوجي توداي"، فإن ذلك كله خاطئ، وهو يجمع -بأسلوب مبسط- في هذه المادة خمسا من أشهر الخرافات عن اللاجئين في الغرب، ويفنّدها عبر الدراسات العلمية وقناعات الخبراء.
نص الترجمة:
ساهمت الحروب الطويلة والمستمرة في سوريا وجنوب السودان وأفغانستان بدرجة كبيرة في تفاقم الأزمة العالمية للاجئين، إذ وصل عددهم في عام 2017 إلى نحو 65 مليون لاجئ (في حين بلغ عددهم الآن وفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى ما يُقدَّر بـ114 مليون شخص)، وهو الرقم الأعلى منذ 20 عاما. كما لعب الخطاب الشعبوي دورا في تأجيج موجة عالمية من التحامل ضد اللاجئين، وهو ما أدى بدوره إلى تزايد الدعوات لوقف تدفق اللاجئين إلى الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وغيرها من البلدان.
على الجانب الآخر، تبذل المنظمات المحلية والدولية جهودا لتلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين، ومعالجة المستويات المرتفعة من الضغوطات النفسية التي تعصف بهم. وللتعامل بفعالية وبصورة صحيحة مع احتياجات الصحة النفسية للاجئين، سيكون من المفيد أولا تبديد العديد من الخرافات المتعلِّقة بأحوال اللاجئين، ومن ثم الاستناد إلى الدراسات الحديثة في مجال الصحة النفسية لتوجيه جهودنا على نحو فعال.
الخرافة الأولى: الضغط النفسي بين اللاجئين سببه فقط العنف والحرب ما يحدث للأشخاص بعد نزوحهم إلى بلدان أخرى يؤثر على صحتهم النفسية بنفس قوة تأثير أي تجارب عاشوها خلال فترة الحرب. (الفرنسية)
في الحقيقة، إن حياة المنفى كفيلة بإصابة اللاجئين بالضغط النفسي بمقدار لا يقل عما يسببه العنف والدمار الناجمان عن الحروب. من الطبيعي أن نفترض أن المستويات المرتفعة من الصدمة والقلق والاكتئاب التي تستشري بين اللاجئين في مناطق الحرب مثل سوريا وأفغانستان والعراق (وغزة حاليا)* هي نتيجة للعنف والخسارة التي تعرضوا لها قبل أن يصبحوا نازحين. وهذا ما افترضه الكثير من الباحثين والأطباء في الغرب عندما واجهوا آلاف اللاجئين من جنوب شرق آسيا وأميركا الوسطى في أواخر السبعينيات والثمانينيات بعدما تبادلوا قصصا مروِّعة عن المجازر والاعتقال والتعذيب، والفوضى التي ضربت حياتهم إثر تدمير منازلهم وممتلكاتهم واختفاء أحبائهم، ناهيك بشعور الخوف الدائم الذي يخيّم على حياتهم. لهذا كان من الطبيعي أن نفترض أن من رحم تلك التجارب المروعة وُلدت معاناتهم، وهذا الافتراض هو ما أدى إلى التركيز أكثر على معالجة آثار الصدمات المرتبطة بالحروب.
ما نتحدث عنه لا يعني أبدا أن التركيز على علاج صدمات الحرب هو أمر مبالغ فيه بأي حال من الأحوال، فالعيش تحت وطأة الحروب يمكن أن يكون مدمرا بالفعل، وقد يضرب بجذوره بعمق وبقوة ليهدد الصحة النفسية للضحايا على نحو دائم. ومع ذلك، أظهرت الأبحاث التي أُجريت في الـ15 عاما الماضية شيئا مدهشا تماما. تبين في دراسة تلو الأخرى أن الضغط النفسي بين اللاجئين يرتبط بقوة بما يُسمى بـ"ضغوطات ما بعد الهجرة" (post-migration stressors) بقدر ارتباطه بتجارب العنف والخسارة المرتبطة بالحروب. بمعنى آخر، إن ما يحدث للأشخاص بعد نزوحهم إلى بلدان أخرى يؤثر على صحتهم النفسية بنفس قوة تأثير أي تجارب عاشوها خلال فترة الحرب. ورغم أن نتيجة كهذه قد تكون مخالفة للتوقعات بعض الشيء، فإنها مع ذلك تظل حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي نتيجة تكررت باستمرار في العديد من الدراسات التي أُجريت على اللاجئين من مناطق حرب متعددة وبيئات متنوعة.
أشد المشكلات التي قد يرزح اللاجئون تحت وطأتها هي احتجازهم لأجل غير مسمى أثناء انتظار طلبات اللجوء. (شترستوك)في عالم تسبغه الحروب في كل مكان، نرى حياة اللاجئين في المخيمات تنطوي على التعرض المستمر لظروف صعبة مثل الأماكن المكتظة وغير الملائمة للسكن فيها، فضلا عن النقص الحاد في الأغذية والرعاية الطبية، والتعثر بأذيال البطالة، والفقر المدقع، وزيادة العنف الأسري، والانفصال عن الأقارب والأحباب، كل ذلك بجانب الشعور المزمن بأن الغد محجوب بغمامة قاتمة لأن حياتهم مُعلَّقة إلى أجل غير مسمى. ترتبط هذه الظروف العصيبة والمرهِقة ارتباطا وثيقا بالاكتئاب والقلق والصدمات النفسية. كما أنها تستنزف قدراتهم النفسية للتعامل مع التجارب المؤلمة التي تمخضت عن الحروب. وفي ظل مواجهة مستويات عالية من الضغوطات النفسية المزمنة والشعور بالضياع وعدم اليقين، يغدو شفاء المرء من عواقب العنف والفقدان الناتج عن الحروب أكثر صعوبة.
لكن حتى لو تساءلنا عن وضع اللاجئين في الدول الغربية الأكثر تطورا، فسنكتشف أن وضعهم لا يختلف كثيرا عمن يقطنون في المخيمات، وهو ما توضحه الورقة البحثية التي قدمتُها مع زميلي أندرو راسموسن عام 2017، التي تشرح مجموعة من المشكلات التي يواجهها اللاجئون بعد الهجرة وتهدد صحتهم النفسية، وتعرقل قدرتهم على الصمود والتعافي من أهوال الصدمة والخسارة التي لحقت بهم. ومن ضمن هذه المشكلات هي العزلة الاجتماعية، والتمييز الذي يواجهه اللاجئون في البلاد المستضيفة، فضلا عن العنف الأسري المتزايد، والفقر الذي يثقل كاهلهم، والغرق في مستنقع الشعور بالغربة لفقدان الشبكات الاجتماعية.
غير أن أشد المشكلات التي قد يرزحون تحت وطأتها هي احتجازهم لأجل غير مسمى أثناء انتظار طلبات اللجوء، وبالتالي فإن تلك العوامل تؤثر بشدة على صحتهم النفسية. ورغم أن العنف المرتبط بالحروب يساهم بوضوح في إطلاق شرارة الضغوطات النفسية للاجئين، فإن التركيز المحدود أو المحصور في صدمات الحرب فقط قد يجعلنا نغفل عن الضغوطات الحالية التي قد تكون مسؤولة عن الجزء الأكبر من الضغوطات النفسية التي تنغّص صفو حياة اللاجئين.
الخرافة الثانية: يمكن تحسين الصحة النفسية للاجئين عبر العلاج النفسي والأدوية مساعدة اللاجئين في تطوير شبكات اجتماعية جديدة يمكن أن يحسِّن من صحتهم النفسية ويقلل من معاناتهم واضطراباتهم. (شترستوك)
صحيح أن الخدمات السريرية أو العلاجات النفسية قد تلعب دورا مفيدا في مساعدة المكروبين من اللاجئين، لكن معظم اللاجئين يتعذر عليهم الوصول إلى هذه العلاجات، وحتى أولئك الذين يحظون بفرصة الوصول إليها يواجهون عقبات أخرى كالحواجز الثقافية واللغوية. علاوة على ذلك، فإن الخدمات السريرية ليست الحل الأمثل للتعامل مع ضغوطات ما بعد الهجرة التي ثبت أن لها تأثيرا قويا على الصحة النفسية للاجئين. ولحُسن الحظ، ثمة العديد من السبل التي يمكن من خلالها تعزيز الصحة النفسية بينهم، فمثلا قد يكون لتحسين الظروف الاجتماعية والمادية في الحياة اليومية تأثير قوي ودائم للحد من الضغوطات السامة وتعزيز القدرة على الصمود والتعافي من العنف والخسارة المرتبطين بالحرب.
إحدى الطرق التي قد تساعد اللاجئين هي برامج التحويلات النقدية التي تتيح لهم تلبية احتياجاتهم الأساسية، بجانب ضرورة تعزيز الاقتصاد المحلي ودعم الأعمال الصغيرة في المنطقة التي يعيش فيها اللاجئون لتوفير فرص عمل لهم. ومن المهم أيضا تدريب معلمي اللغات للتعامل مع قضايا الصحة النفسية ودمجها في الفصول الدراسية للاجئين. كما أن مساعدة اللاجئين على إنشاء شبكات اجتماعية جديدة من خلال المساحات والأنشطة المجتمعية سيساعدهم كثيرا في التقليل من شعورهم بالعزلة، مع أهمية الحد من استخدام مراكز الاحتجاز لطالبي اللجوء، الذين لم يرتكبوا أي جريمة، ومع ذلك يُعاملونهم بوصفهم جناة ويُحتَجزون لفترات طويلة إلى أن يحصلوا على اللجوء (لا عجب أن معدلات الاكتئاب والسلوك الانتحاري تتزايد في مثل هذه المراكز).
أظهرتْ دراسة أجراها الطبيب النفسي آلان كيلر وزملاؤه أن منح اللجوء للنازحين وإطلاق سراحهم من مراكز الاحتجاز يقلل من الاكتئاب بينهم بدرجة كبيرة، في حين توصلتْ عالمة النفس جيسيكا جودكايند وزملاؤها إلى أن مساعدة اللاجئين في تطوير شبكات اجتماعية جديدة يمكن أن يحسِّن من صحتهم النفسية ويقلل من معاناتهم واضطراباتهم. فيما أظهر باحثون في لجنة الإنقاذ الدولية من خلال تجربة عشوائية أن التدخل المجتمعي كان قادرا على الحد -بدرجة كبيرة- من مستويات التربية القاسية والعنيفة في عائلات اللاجئين، وهي أحد المصادر الأساسية للإجهاد السام الذي يؤثر على الأطفال (وهو نوع من الإجهاد النفسي الشديد والمزمن الذي يؤثر على الجسم والعقل، ويحدث عندما يتعرض الشخص لتجارب مؤذية لفترة طويلة دون توفر الدعم اللازم)، وغالبا ما يرتفع بين اللاجئين نتيجة للضغوطات التي يواجهها الوالدان باستمرار في حياة المنفى.
قبل بضع سنوات، عندما كنت أعمل في عيادة للاجئين البوسنيين في شيكاغو، عمل أحد المتدربين مع امرأة مسنة تعاني من اكتئاب حاد ولم تستجب للعلاج أو الأدوية المضادة للاكتئاب. كانت السيدة أرملة وتعيش في شقة صغيرة مع ابنها وزوجته اللذين يعملان خلال النهار، وبسبب عدم قدرتها على التحدث بالإنجليزية وخوفها من نظام المواصلات العامة، أمضتْ أيامها وحيدة، تفكِّر في الحرب والحياة الرائعة التي سُرقت منها. وبمرور الأيام، أدت عزلتها العميقة إلى تفاقم أعراض الصدمة التي تسببت بدورها في زيادة حِدة ذكرياتها المؤلمة. وفي أحد الأيام، قرر معالجها اتباع نهج جديد وهو مرافقتها في المترو والحافلة، وكانا يسافران معا كل أسبوع إلى أجزاء مختلفة من المدينة. وبمساعدته، تعلمتْ قراءة خريطة المواصلات، وفي غضون شهر كانت تحضر المناسبات الاجتماعية وتزور أصدقاء جددا في منازلهم. اختفى اكتئابها، وتلاشت تدريجيا أعراض الصدمة لديها، ولم تعد مسجونة في شقة صغيرة وموحشة.
الخرافة الثالثة: يعاني معظم اللاجئين من صدمة نفسية شديدة بسبب تجاربهم في الحرب
في حقيقة الأمر، إن مَن يعاني من صدمة نفسية مستمرة لفترات طويلة هم أقلية من اللاجئين، ورغم أن نسبتهم قليلة، فإن هؤلاء الأشخاص يواجهون تجربة حقيقية ومؤلمة، فضلا عن أن العلاج أو الرعاية المقدمة لهم ليست كافية لتلبية احتياجاتهم. صحيح أن معدلات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) تختلف اختلافا كبيرا من دراسة إلى أخرى، لكن الدراسات المنهجية أظهرت أن أقلية فقط من اللاجئين تبدو عليهم علامات مستمرة للصدمة، وهي الفئات الأكثر عرضة للخطر كالناجين من التعذيب والاعتداء الجنسي، إذ تميل معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بينهم إلى الارتفاع. وكما أشرت سابقا، فإن اللاجئين لا يستفيدون في الغالب من خدمات الصحة النفسية حتى عندما تكون متاحة.
لهذا، من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الصدمات التي يعاني منها اللاجئون قد تكون نتيجة لضغوطات مستمرة مثل العنف الأسري، وفي هذه الحالة يُعَدُّ ضمان سلامة الضحايا وتوفير بيئة آمنة لهم أمرا بالغ الأهمية قبل الشروع في أي نوع من أنواع علاج الصدمة. في الواقع، غالبا ما يتزايد العنف الأسري، بما في ذلك العنف بين الزوجين وسوء معاملة الأطفال، في مجتمعات اللاجئين نتيجة للضغوطات المزمنة التي ينسحق الوالدان تحت وطأتها. وأخيرا، توجد خرافتان حول اللاجئين لا علاقة لهما بالصحة النفسية، ولكنهما تعوقان تقديم الدعم الذي يمكن أن يساعد الأفراد على التكيف بنجاح والاندماج في بيئتهم الجديدة.
الخرافة الرابعة: يتدفق اللاجئون إلى الغرب للاستفادة من فرص العمل والمزايا الاقتصادية عدد اللاجئين الذين يصلون إلى الدول الغربية كبيرا، لكنه يتلاشى فورا عند مقارنته بعدد الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين والأحياء العشوائية في البلدان المجاورة لوطنهم المحاصر بالصراعات والحروب. (شترستوك)
نادرا ما يرغب اللاجئون في ترك عالمهم وراءهم، لأن فقدان منازلهم وممتلكاتهم ومجتمعاتهم وسبل عيشهم لم يكن بالأمر اليسير على الإطلاق، فقرار النزوح مؤلم للغاية، ويُعَدُّ محاولة أخيرة يائسة منهم للنجاة في ظل الحروب أو النزاعات المسلحة التي تُشكِّل تهديدا كبيرا على حياتهم.
قد يبدو عدد اللاجئين الذين يصلون إلى الدول الغربية كبيرا، لكنه يتلاشى فورا عند مقارنته بعدد الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين والأحياء العشوائية في البلدان المجاورة لوطنهم المحاصر بالصراعات والحروب. فعلى سبيل المثال، تستضيف تركيا أكثر من 2.7 مليون سوري، فيما تستضيف لبنان أكثر من مليون، وتضم الأردن نحو 655 ألف لاجئ. في حين إذا قارنا هذه الأعداد باللاجئين في الولايات المتحدة، فسنكتشف أنها استقبلت في عام 2015 نحو 1682 سوريا فقط. وبحلول نهاية عام 2016، وصل العدد إلى نحو 12600 لاجئ.
الخرافة الخامسة: يتسبب اللاجئون في ارتفاع معدلات الجريمة في البلدان المضيفة
رغم ترويج السياسيين لفكرة الخوف من اللاجئين، فإن الدراسات تشير إلى أن اللاجئين -على الصعيد الإحصائي- أقل احتمالا للانخراط في سلوك إجرامي مقارنة بأفراد المجتمع المضيف لهم. عندما قررت ألمانيا -التي استقبلت عددا من اللاجئين أكبر من أي دولة أوروبية أخرى- دراسة هذه القضية على نطاق أوسع، توصلت إلى أن السكان الأصليين للبلاد أكثر ميلا للتورط في الجرائم مقارنة باللاجئين، وبالأخص القادمين من سوريا والعراق وأفغانستان.
وعلى عكس ما يعتقد المسؤولون، فإن الأرقام تشير إلى أن النازحين قد يواجهون مزيدا من التهديدات والهجمات من مضيفيهم في ألمانيا، فقد تضاعفت الهجمات ضد مراكز الإيواء المخصصة لطالبي اللجوء في ألمانيا بنسبة ثلاثة أضعاف بحلول نهاية عام 2014 على سبيل المثال. وفي النهاية، تشير الدراسات التي أُجريت حول الجريمة بين اللاجئين في الولايات المتحدة إلى أن هناك نمطا مشابها للذي وُجد في ألمانيا، وأن سكان البلد الأصليين هم مَن يميلون إلى الانخراط في الجريمة بنسبة أكبر من اللاجئين.
———————————————————
هذا التقرير مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الصحة النفسیة بین اللاجئین العنف الأسری من الضغوطات اللاجئین فی من اللاجئین یؤثر على التی قد یمکن أن إلى أن ما بعد
إقرأ أيضاً:
قبيل الانتخابات الأمريكية.. هل يمكن أن تغير النتيجةُ طبيعةَ الحرب على غزة؟
تزداد المراهنات بين المؤيدين لترشيح كامالا هاريس وترامب على أيّ منهما يمكن أن يغير من طبيعة الصراع في المنطقة وخاصة الحرب على غزة، لكن ما يغيب عن وعي البعض أن العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني مرّت بتمظهرات شتّى في الفكر والعقل الغربي منذ عدة قرون، وهو ما ظهر في مجالات استراتيجية عدة، شكَّلت في مجملها العروة الوثقى للعلاقة بينهما. ويمكننا في هذا المقال أن نتحدث في إطلالة موجزة عن البعد الديني العقدي كواحدة من أهم النقاط التي شكّلت الوضع الحالي للعلاقة بينهما، وقد سبق أن تحدثت في دراسة سابقة تحت عنوان "مستقبل العلاقات بين إسرائيل والغرب بعد طوفان الأقصى" بشكل موّسع عن طبيعة ومآلات هذه العلاقة بين الطرفين.
الأيديولوجيا الصهيونية في المسيحية الغربية:
يُشكل البُعد الديني منطلقا هامّا لفهم العلاقة بين الطرفين، وهو ضارب في التاريخ لما بعد سقوط الأندلس على يد الصليبيّين حيث عانى المسلمون واليهود للقمع واضطهاد، فقد جرت محاولات عديدة من قبل ملوك أوروبا وقتها لتنصير المسلمين واليهود في إسبانيا (وريثة الأندلس) والبرتغال، فاعتنق عدد كبير منهم يقدر بالآلاف المسيحية ظاهرا، وحاول البعض منهم المزاوجة بين المسيحية واليهودية خلال الفترة بين 1497 و1491م في محاولة لحماية أنفسهم، وهو ما أدى إلى نشوء ما يعرف بالمسيحيين الجدد.
وهذه الظاهرة انتقلت إلى باقي دول أوروبا، وأيضا من إسبانيا إلى القارة الجديدة (أمريكا)، لتتطور هناك مع الوقت إلى الحركات البروتستانتية البيورتانية. ولاحقا، لعبت الولايات المتحدة دورا محوريا في تهيئة الأرضية لنشأة الحركة الصهيونية اليهودية، حيث تؤمن هذه الحركات -التي يُطلِق عليها البعض "الصهيونية المسيحية"، أو "الصهيونية غير اليهودية"- بضرورة إعادة توطين اليهود في فلسطين، وبناء وطن قومي لهم في هذه الأرض.
ستظل الهيمنة الأمريكية ودعمها المطلق للكيان قائمين خلال الفترة القادمة نظرا للعلاقة الدينية العقدية بينهما. ومن المهم هنا التذكير بأن بايدن وترامب من المؤمنين بالمسيحية الصهيونية ولديهما العديد من التصريحات والمواقف في هذا الجانب
وتستند هذه الأفكار إلى نبوءة دينية تُفسر وجود "إسرائيل" في العهد القديم على أنه إشارة إلى دولة يجب إنشاؤها في فلسطين. وقد اعتبرت هذه الحركات نفسها "العبرانيّين الحقيقيّين"، وسَمّوا أنفسهم "أطفال إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة".
ولكي يتم حشد الرأي العام الأمريكي وراء هذه المعتقدات الصهيونية، تمَّ تسييس هذه الرؤية الدينية، فقاموا بتغيير أسماء أبنائهم ومستوطناتهم الأولى في الولايات المتحدة إلى أسماء عبرية، وبدأوا بإرسال بعثات استكشاف إلى فلسطين، ثم أقاموا المستوطنات اليهودية الأولى فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر.
دعم واشنطن للكيان سابق عن دور لندن
كذلك لعب القس وليام بلاكستون دورا هاما في دعم الحركة الصهيونية، فأسس في عام 1887م في مدينة شيكاغو الأمريكية منظمة "البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل"، حيث اعتبرت هذه المنظمة أول "لوبي" يعمل لمصلحة الصهيونية السياسية.
ظهرت نتائج هذه الجهود بعد ذلك، في 12 كانون الثاني/ يناير 1919م، حيث جاء في تقرير لجنة الخبراء الأمريكية إلى الرئيس ويلسون ما يلي: "توصي اللجنة بإنشاء دولة منفصلة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ويتم توجيه الدعوة إلى اليهود للعودة إلى فلسطين والاستيطان فيها وتقديم جميع المساعدات اللازمة والتي لا تتعارض مع الحفاظ على حقوق السكان من غير اليهود"، وفق مصادر.
وبناء عليه، فإن فرضية أن واشنطن ورثت دور لندن في دعم الكيان الصهيوني هي فرضية خاطئة تماما، حيث كان دعم الولايات المتحدة السياسي متزامنا ومتوازيا مع بريطانيا، وإن اتخذ أشكالا مختلفة.
فرغم استراتيجية العزلة التي فرضتها واشنطن على نفسها منذ تأسيسها وحتى ما يقارب منتصف القرن الماضي، إلا أن دعمها لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين كان سابقا عن الموقف البريطاني ذاته.
لذلك أعربت واشنطن عن عدم معارضتها للانتداب البريطاني، وقامت بتقديم اقتراحات لحل قضية اليهود. وعلى الرغم من شكوك بعض المؤرخين حول علاقة روزفلت باليهود، إلا أن انتخاب 90 في المئة من يهود الولايات المتحدة له يؤكد تبني الولايات المتحدة للقضية اليهودية حتى قبل قيام "إسرائيل".
بعد تأسيس دولة الاحتلال، ورغم اعتراف واشنطن الفوري بها، إلا أن علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل اتسمت حتى حرب 1967 بالتحفظ والترقب، فتراوحت بين الفتور والبرود حينا، والدعم حينا آخر، خشية فقدان الحليف العربي الذي يملك منابع الطاقة.
فلم تكن قد نضجت علاقة استراتيجية واضحة بين البلدين خلال هذه الفترة، لكنها اعتمدت على عاملين رئيسين، هما تنامي قوة إسرائيل في المنطقة العربية، وضغوط اللوبي الصهيوني في الداخل. وعلى قدر تفاعل هذين العاملين كانت تجاذبات العلاقة بينهما، حتى جاء انتصار تل أبيب على الدول العربية في نكسة ١٩٦٧م، لتلفت الانتباه لها جيدا، كحصان رابح يمكن الاعتماد عليه في الحفاظ على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
مستقبل العلاقة بين الطرفين
وعليه ستظل الهيمنة الأمريكية ودعمها المطلق للكيان قائمين خلال الفترة القادمة نظرا للعلاقة الدينية العقدية بينهما. ومن المهم هنا التذكير بأن بايدن وترامب من المؤمنين بالمسيحية الصهيونية ولديهما العديد من التصريحات والمواقف في هذا الجانب. أيضا يتوقع أن تزيد مزاحمة روسيا والصين لواشنطن في نفوذها على المنطقة، وهو ما يظهر بشكل واضح في دعمهما لإيران ضد إسرائيل بما لا يخفى على أحد. بالطبع هذا الدعم ليس حبا في إيران وليس ضد الكيان الصهيوني، ولكنه محاولة لجرّ واشنطن الى مستنقع الشرق الأوسط واستنزافها فيه، في محاولة حثيثة لوضع نظام عالمي جديد تنتهي فيه هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
قد يحدث تغير نسبي في موازين العلاقة بينهما، ولكنه سيظل تأثير ثانوي في المنظور القريب، دون تغيير كبير أو نوعي في أوزان الفعل والتأثير.
قد يجادل البعض باحتمال حدوث متغيرات جذرية في بيئة الصراع، وهو ما لا ننفي احتمالية حدوثه في المنظور القريب، ولكن قلنا إنها الأقل توقعا. فمثلا، اشتعال حرب أهلية في الولايات المتحدة على خلفية خسارة ترامب على سبيل المثال، أو توسع الحرب بين روسيا وحلف الناتو خارج نطاق أوكرانيا، هذه السيناريوهات جميعها تدخل في نطاق سيناريوهات (الانقطاع) في الدراسات المستقبلية، والتي تفترض حدوث تغير جذري مفاجئ في بيئة الصراع. ولكن الاعتماد على هذا النموذج التحليلي يجعلنا ندخل في دائرة لا تنتهي من الاحتمالاتأو دخول إيران في حرب مباشرة مع الكيان وواشنطن، أو انفجار الجبهة اللبنانية مع حزب الله أكثر مما هو حاصل حاليا، أو انهيار مفاجئ للدولة المصرية بشكل تترتب عليه فوضى كاملة في المنطقة، أو.. إلخ.
هذه السيناريوهات جميعها تدخل في نطاق سيناريوهات (الانقطاع) في الدراسات المستقبلية، والتي تفترض حدوث تغير جذري مفاجئ في بيئة الصراع. ولكن الاعتماد على هذا النموذج التحليلي يجعلنا ندخل في دائرة لا تنتهي من الاحتمالات.
وعليه فقد رأينا الاكتفاء بالسيناريو الأكثر أهمية، بناء على حقيقة واضحة للعيان، وهي أن جميع الأطراف المنخرطة في الصراع إقليميّا أو حتى دوليّا لا تريد تصعيده إلى ساحة الحرب الشاملة، إمّا لأنها غير قادرة على خوضها، أو لأنها لا تتحمل عواقبها. وبالتالي فسوف تظل أوزان القوى بين اللاعبين الإقليميين أو الدوليين كما هي، مع تغيرات طفيفة، صعودا أو هبوطا، في نطاقات التأثير بينهم في المنظور القريب.