حرب الشرق الأوسط القادمة.. حرب مياه أم حرب ممرات؟
تاريخ النشر: 4th, January 2024 GMT
هل تحول الحرب على غزة المنطقة لصراع دولى على المضايق والممرات الملاحية؟
عديد التنبؤات والدراسات المستقبلية توقعت أن منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا مرشحة بقوة لأن تكون محل أول حرب مياه منذ 4500 سنة، ذلك فى ضوء تداعيات التغير المناخى وما ينتج عنها من ظواهر التصحر والجفاف، وكذلك الخلل الواقع فى الميزان المائى لعديد دول المنطقة التى هى دون «حد الأمن المائى Water Stress Index»، الذى توافق الخبراء على المستوى العالمى على اعتبار معدل « 1000 مكعب» من المياه المتجددة للفرد هو الحد الذى دونه يمكن أن تتعرض دولة ما لمشكلة ندرة مائية، ربما تهدد صحة المواطنين، وتعرقل العملية التنموية فيها.
لكن على ما يبدو أن الحرب على غزة تقدم لنا نبوءة جديدة وتقدير موقف مختلف؛ اعادت الحرب على غزة إشكالية أمن الممرات المائية العربية إلى الواجهة مرة أخرى، بعدما أعلنت جماعة الحوثيون فى اليمن استهداف ومنع السفن الإسرائيلية من المرور فى البحر الأحمر، التى بحسب وزارة الدفاع الأمريكية نجحت فى استهداف أكثر من 10 سفن تجارية، تابعة لأكثر من 35 دولة. وهو ما نتج عنه إعلان كبرى شركات الملاحة العالمية تجميد مرور سفنها عبر البحر الأحمر، ومن ثم قناة السويس، واختيار المسار البديل رأس الرجاء الصالح رغم أنه الأعلى فى التكلفة الاقتصادية والوقت فهو أطول بنحو ثلاثة آلاف ميل بحرى عن قناة السويس. وبالتوازى مع ذلك أعلنت عديد القوى الكبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن استعدادها لاتخاذ إجراءات عسكرية مباشرة ضد جماعة الحوثيون فى اليمن حمايةٍ لأمن المرور البحرى فى باب المندب والبحر الأحمر بما ينذر بتصاعد توتر عسكرى كبير ليس فقط مع الحوثيين فى اليمن لكن من خلفهم إيران أيضاً.
الممرات المائية العربية غنى عن البيان أهميتها الاستراتيجية للتجارة والأمن العالمى خاصة بعد غلق مضيق باب المندب فى حرب أكتوبر 1973 وتداعيات ذلك الإغلاق على أسعار السلع والنفط العالمية، والممرات المائية العربية هى وحدة متكاملة مع بعضها البعض ومع منطقة القرن الإفريقى، التى رغم أنها ليست ممراً مائياً، إلا أنها تمثل نقطة حساسة للغاية فى مسألة أمن الممرات المائية العربية والذى يتحكم فى ثلاثة أكثر الممرات حيوية هى البحر الأحمر، خليج عدن، والمحيط الهندى؛ لكن الأهمية الأبرز تلك المتعلقة بالبحر الأحمر والذى يمثل المنفذ البحرى الوحيد لدول: الأردن، السودان، وإريتريا، اليمن، والسعودية، وكذلك إسرائيل عبر ميناء إيلات. ثم مضيق باب المندب الذى يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندى عبر بحر العرب والقرن الإفريقى، كما يربط الخليج العربى بالبحر الأحمر. وكذلك مضيق هرمز الذى يمر من خلاله أكثر من نصف انتاج العالم من النفط، وثلث انتاج العالم من الغاز الطبيعى المسال.
والأهم بالنسبة لنا قناة السويس، الشريان المائى الأهم والأبرز، وهى حلقة اقتصادية مهمة فى سلسلة الممرات المائية العالمية، وحجر ارتكاز رئيسى ونقطة التقاء للتجارة والطاقة العالمية ما بين جنوب شرق آسيا، ودول الخليج العربى مع دول حوض المتوسط، وقناة السويس، ويكفى أنها تختصر طريق التجارة العالمية ما بين 40 إلى 60% مقارنة بالمسار البديل فى رأس الرجاء الصالح.
لذلك؛ وفى ضوء هذه الأهمية الاستراتيجية للمرات المائية العربية، ترى العديد من الاستراتيجيات أن السيطرة على باب المندب هو الطريق للسيطرة على البحر الأحمر، والقرن الإفريقى هو البداية للسيطرة على باب المندب، ومن ثم البحر الأحمر وقناة السويس، والقرن الإفريقى هو الطريق الأقصر والأسرع بالنسبة لحاملات الطائرات الأمريكية للوصول إلى الخليج العربى 8 وإقليم الشرق الأوسط بشكل عام. إذن أمن الممرات المائية والملاحية العربية يمثل أهمية استراتيجية كبرى لمصر والعالم.
هذه الأهمية تتضاعف فى سياق نظام عالمى جديد يتشكل؛ وعالم يتحول من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب تتزايد فيه حدة ووتيرة التنافس الدولى، يكفى للتدليل على هذا التنافس المحموم، ملمحان على قدر كبير من الدلالة الاستراتيجية، الأول هو عدد القواعد العسكرية والبحرية فى منطقة القرن الإفريقى، والتى تزيد على الـ20 قاعدة عسكرية وبحرية لنحو 16 دولة غربية وعربية، وكذلك إسرائيل.
والملمح الثانى يتجسد فى شكل مشروعات ومبادرات عابرة للقارات بين الأقطاب الكلاسيكية ممثلة فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى أعلنت فى فبراير 2022 عن استراتيجية الولايات المتحدة لمنطقة المحيط الهندى والمحيط الهادئ، وأفصحت فيها عن رغبة الولايات المتحدة الأمريكية استعادة الريادة الأمريكية فى منطقة المحيط الهندى والمحيط الهادئ، وكذلك منطقة القرن الإفريقى والبحر الأحمر خاصة بعد التقارب السعودى الإيرانى برعاية صينية.
ومن جانب آخر يبرز القطب الكلاسيكى الثانى ممثلا فى الدب الروسى (باعتباره الوريث الفعلى للاتحاد السوفيتى السابق)، وتسعى لنقل ساحة هذا التنافس من الملعب الأوكرانى إلى القارة الإفريقية؛ تسعى روسيا لتعزيز نفوذها فى إفريقيا عبر التركيز على تقديم نفسها كبديل استراتيجى مناسب للنفوذ الغربى، تسعى روسيا إلى إنشاء قاعدة بحرية لوجستية للبحرية الروسية فى السودان والتى تتيح إمكانية الوصول المباشر إلى جمهورية إفريقيا الوسطى غير الساحلية ومنطقة الصحراء والساحل حيث تعمل شركات التعدين الروسية.
وهو الأمر الذى تسبب بإزعاج كبير لواشنطن؛ التى ترى فى الوجود الروسى تهديد مباشر لأمن البحر الأحمر.
فى المقابل؛ هناك الأقطاب الصاعدة ممثلة فى التنين الصينى ومشروعها الاستراتيجى مبادرة الحزام والطريق أو «طريق الحرير الجديد» وطريق الحرير البحرى والتى تعتمد المبادرة فى مسار كبير منها على الممرات المائية العربية. ثم الهند التى أعلنت عن مشروع الممر الهندى الأوروبى مروراً بالخليج العربى الذى تم الإعلان عنه خلال قمة العشرين الأخيرة بالعاصمة الهندية نيودلهى فى سبتمبر 2023، الذى يراه البعض على أنه رد أمريكى أوروبى على مبادرة الحزام والطريق الصينية. إن كانت مبادرة «الحزام والطريق» الصينية تعد أكبر من حيث الحجم مقارنة بالممر الجديد. لكن الولايات المتحدة تهدف من خلال مشروع الممر الهندى الأوروبى لجعل الهند قوة آسيوية مقاربة للصين، منعا لهيمنة صينية كاملة فى آسيا.
ليبقى السؤال؛ هل حرب الشرق الأوسط القادمة هى حرب ممرات مائية تتنافس فيها القوى الدولية التى عملت على تشكيل عديد التحالفات اللوجستية والعسكرية للحفاظ على أمن الممرات فى منطقة القرن الإفريقى والبحر الأحمر.
قبل الشروع للإجابة؛ قد يكون الجانب الإيجابى الوحيد فى تهديد أمن العبور البحرى فى البحر الأحمر، هو لفت انتباه العالم لما يحدث فى غزة من عدوان غاشم تجاوز كل حدود الإنسانية، وكسر كل قواعد القانون الدولى والمواثيق الحقوقية، وهو ما قد يدفع العالم الغربى على المستوى الرسمى لأن إسرائيل خسرت المعركة على مستوى الشعوب الغربية- لممارسة مزيد من الضغوط على الدولة العبرية لوقف إطلاق النار.
لكن هذه هى الإجابة على السؤال السابق، لن يتحمل العالم ونحن معه تهديد واسع ومؤثر لأمن الممرات المائية البحرية، خاصة بما يستتبعه هذا التهديد عمن تأثيرات سلبية على حركة العبور فى قناة السويس.
غير أن السيناريو الأرجح فى هذا السياق هو عدم الانزلاق من القوى الكبرى نحو المواجهة المباشرة والمفتوحة، لكن هى مواجهة سوف تعتمد على سلاح الردع المتبادل حماية لمصالح ونفوذ تلك القوى. وإن كان لجوء إسرائيل لاغتيال صالح العارورى نائب رئيس المكتب السياسى لحركة المقاومة حماس فى لبنان، وما تبعه من انفجارين قرب مقبرة قاسم سليمانى أحد أبرز القادة العسكريين للجمهورية الإيرانية، تزامناً مع إحياء الذكرى الرابعة لمقتل سليمانى فى العراق، كلها مؤشرات مترابطة على احتمالية توسع رقعة الحرب فى غزة وامتدادها للملعب اللبنانى، وكذلك البحر الأحمر من خلال الذراع الحوثية لإيران، وهو ما يؤشر لارتفاع حدة الردع المتبادل بين القوى الكبرى بدعوى حماية أمن الممرات المائية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: حرب الشرق الأوسط القادمة حرب مياه حرب ممرات الحرب على غزة غزة ال الولایات المتحدة الشرق الأوسط البحر الأحمر قناة السویس باب المندب
إقرأ أيضاً:
الصراع بين الكنيسة المصرية ومخطط الشرق الأوسط الجديد
منذ العصور القديمة، كان الشرق الأوسط مركزًا دينيًا وثقافيًا شكّل هويته الفريدة.
ومع بداية الألفية الجديدة، بدأت القوى الغربية، التي تحركها الصهيونية العالمية، في تبني سياسات تهدف إلى إعادة رسم حدود المنطقة من خلال مخطط يسعى إلى طمس الهويات التاريخية العميقة التي تشكل نسيجها الثقافي والديني.
ومن بين هذه الهويات، تبرز الهوية المسيحية الشرقية، وفي قلب هذا الصراع، تقف الكنيسة المصرية كحجر عثرة أمام محاولات إعادة تشكيل مكونات الهوية الدينية والثقافية للمنطقة.
تبنت القوى الغربية المتحالفة مع الصهيونية سياسة "الفوضى الخلاقة" كوسيلة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بهدف تفكيك الأنظمة السياسية وزرع الفوضى، مما أدى إلى تصاعد الجماعات الإرهابية، وانتشار النزاعات الطائفية، وتهجير المسيحيين من العديد من دول المنطقة. وكان لهذا التدمير الممنهج أثر بعيد المدى على هوية المنطقة، حيث سعت تلك القوى إلى فرض مشروع "مسار إبراهيم" كرمز ديني ثقافي يربط بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وتجسد ذلك في "بيت العائلة الإبراهيمي"، الذي رفضت الكنيسة المصرية الانضمام إليه، باعتباره محاولة لتكريس واقع جديد يخدم أهدافهم.
محاولة الترويج لمسار إبراهيم كمرجعية دينية وثقافية تجمع الديانات الثلاث ليست سوى وسيلة لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى"، الممتد - وفقًا لتصورهم - من النيل إلى الفرات، مستندين إلى رحلة النبي إبراهيم التي شملت عدة دول في المنطقة وصولًا إلى مصر.
يهدف هذا المشروع إلى تحقيق حلم إقامة "مملكة داوود"، استنادًا إلى الإيمان اليهودي بقدوم "المسيح الملك الأرضي"، الذي سيقيم ملكوته على الأرض ويقود "مملكة داوود".
ويتماشى هذا التصور مع الفكر المسيحي المتصهين للكنيسة البروتستانتية، التي تؤمن بمفهوم "حكم الألفية"، أي نزول المسيح في آخر الزمان لحكم العالم لمدة ألف عام. وكليهما يتفقان على أن كرسي حكم هذا الملك هو هيكل سليمان، وهو ما يتناقض تمامًا مع العقيدة المسيحية الشرقية، خاصة الكنيسة القبطية المصرية، التي ترفض هذا الفكر.
المواجهة الحقيقية بين الكنيسة المصرية والمشروع المتفق عليه بين المسيحية المتصهينة والمعتقد اليهودي تتجلى في صراع المسارات، بين "مسار إبراهيم" و"مسار العائلة المقدسة".
فوفقًا للتاريخ المسيحي، هرب السيد المسيح وأمه العذراء إلى مصر هربًا من بطش هيرودس، وتوقفت العائلة المقدسة في عدة مناطق مصرية، مما يجعل مصر نقطة محورية في تاريخ المسيحية.
هذا الأمر يتناقض مع الفكر المسيحي المتصهين والمعتقد اليهودي، اللذين يسعيان إلى ترسيخ الاعتقاد بأن القدس وحدها هي المركز الديني الأوحد وكرسي حكم "مملكة داوود" من داخل هيكل سليمان، وتهيئة الأجواء لقدوم "المسيح الملك" عبر مسار إبراهيم.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم يتم حتى الآن تفعيل "مسار العائلة المقدسة" كحج مسيحي عالمي رغم أهميته في تاريخ المسيحية وذكره في الإنجيل المقدس؟ الإجابة تكمن في أن أصحاب مشروع "مملكة داوود" يسيطرون على شركات السياحة العالمية ويوجهونها بما يخدم مخططاتهم، كما أنهم نجحوا في اختراق عدد من المؤسسات الدينية في الغرب، مما جعل بعض الكنائس الغربية أداةً في خدمة هذا المشروع، متجاهلين الدور التاريخي لمصر في المسيحية.
الكنيسة القبطية لا تعترف بمفهوم "الملك الألفي" الذي تروج له المسيحية الصهيونية، حيث يتناقض مع الإيمان الأرثوذكسي بالمجيء الثاني للمسيح، وهو ما تم تأكيده في مجمع نيقية عام 325م ومجمع القسطنطينية عام 381م. حيث جاء في العقيدة المسيحية أن المسيح سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، وليس كملك أرضي يحكم العالم. كما أن الكنيسة القبطية تدحض المعتقد اليهودي الذي لا يعترف بالمسيح الذي جاء بالفعل، إذ لا يزال اليهود في انتظار "المسيح الملك الأرضي" القادم لإقامة مملكتهم.
كان للبابا شنودة الثالث بُعد نظر استراتيجي ورؤية واضحة حول المخطط الصهيوني، فاتخذ موقفًا حازمًا ضد أي تطبيع مع إسرائيل، وأصدر قرارًا تاريخيًا بمنع الأقباط من زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أن "القدس لن يدخلها الأقباط إلا مع إخوانهم المسلمين". وقد جعل هذا الموقف الكنيسة القبطية في مواجهة مباشرة مع المشروع الصهيوني الذي يسعى إلى تحقيق "مملكة داوود".
ومع تولي البابا تواضروس الثاني قيادة الكنيسة المصرية، استمرت هذه السياسة الوطنية، وبرز ذلك في مقولته الشهيرة: "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، وهي رسالة قوية تؤكد أن الكنيسة المصرية لا يمكن أن تكون جزءًا من مشروع يهدف إلى طمس الهوية الوطنية المصرية.
كما لعب البابا تواضروس دورًا مهمًا في تعزيز علاقات الكنيسة بالأقباط في الخارج، ودعم دورهم كصوت وطني مدافع عن مصر في مواجهة محاولات التشويه والتأثير الخارجي. لم تقتصر مواقف البابا تواضروس على الجاليات القبطية في الخارج فقط، بل عمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة حول أوضاع الأقباط في مصر، مؤكدًا أن ما يتم الترويج له بشأن "اضطهاد الأقباط" هو مجرد افتراءات تهدف إلى زعزعة استقرار الوطن.
وقد أظهر الرئيس عبد الفتاح السيسي تقديره الكبير للكنيسة المصرية وللبابا تواضروس في عدة مناسبات، أبرزها حضوره احتفالات عيد الميلاد المجيد في الكاتدرائية، مما يعكس العلاقة القوية بين الكنيسة والدولة في مواجهة المخططات الخارجية التي تستهدف مصر وهويتها الوطنية.