رام الله- للوصول الى منزل عائلة الشيخ صالح العاروري، في بلدة عارورة شمال غرب مدينة رام الله بالضفة الغربية، كان علينا سلك طرق بديلة داخل سلسلة من القرى المجاورة، عوضا عن الطريق الأصلية التي أغلقها الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية عملية طوفان الأقصى.

وبعد الإعلان عن استشهاد العاروري في قصف في العاصمة اللبنانية بيروت، تجمّع الشبان وسط بلدته طوال الليل وفي ساعات الصباح، لاستقبال الصحافيين والمعزين في المسجد المجاور لمنزل عائلته، والذي قضى فيه الشهيد سنوات خلال طفولته وفتوته، وحيث رُفعت رايات حركة المقاومة الإسلامية "حماس".

بدت عارورة وكأنها لم تنم، ولا سيما عائلته وأحفادها، فالمئات كانوا يطرقون باب "عائشة" والدة العاروري، فترد عليهم بـ"الحمد لله" على المصير الذي لقاه ابنها شهيدا كما تمنى، حيث كان يطلب منها أن تدعو له بذلك.

‎⁨المنزل لم يتسع لاستقبال المعزين من قرية عارورة ومن كل الضفة الغربية (الجزيرة) قضى شبابه في السجن

يفوق منزل عائلة العاروري القديم عمر الاحتلال بسنوات، وهنا ولد وعاش صالح إلى أن بلغ 18 عاما، ثم انتقل لدراسة الشريعة الإسلامية في مدينة الخليل جنوب الضفة، وعند تخرجه كان قد سبق واعتقل من قِبل الاحتلال الإسرائيلي مدة عامين كاملين، وأُفرج عنه لأشهر قبل اعتقاله الثاني الذي امتد 15 عاما.

تتحدث شقيقته الكبرى دلال للجزيرة نت عن تجربته الصعبة وخاصة في الاعتقال الثاني الذي امتد 15 عاما، وكيف أنه غاب في السجون لشهور بدون أن تعرف العائلة عنه شيئا، ولم يُسمح لوالدته برؤيته إلا في قاعة المحكمة بعد عام ونصف من التحقيق العسكري (تحقيق يصاحبه تعذيب عنيف).

تقول دلال: "عندما رأته كان عبارة عن هيكل عظمي، وقد خسر أكثر من 40 كيلوغراما من وزنه بسبب التعذيب والعزل، فلم تتحمل ذلك وغابت عن الوعي".

وتضيف الوالدة على ذلك بقولها إنها تنقلت بين كل السجون الإسرائيلية لزيارته، وإنها في بعض الأوقات كانت تصل إلى أبواب السجن وتُمنع من رؤيته، كما أنه قضى سنوات متواصلة في العزل.

لكن الزيارة التي حُفرت في ذاكرتها كانت في سجن النقب الصحراوي، حيث عادت في ساعة متأخرة من الليل، ووجدت زوجها (والده) قد توفي ودُفن بدون أن تودّعه، وهو الذي أوصاها عند خروجها من البيت فجرا أن توصل له رسالة: "أبوك بخير ما بدو من الدنيا إلا رؤيتك".

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول قُطعت أخبار العاروري بالكامل عن عائلته التي كانت تتوقع استشهاده في كل لحظة (الجزيرة)

كان العاروري قد أتم خطبته على فتاة من البلدة قبل اعتقاله الطويل، وبعد الإفراج عنه في 2007 تزوج وسكن في نفس المنزل مع والدته، لكن الاحتلال لم يمهله الكثير، فبعد 3 أشهر أُعيد اعتقاله 3 سنوات أخرى، خرج بعدها مبعدا إلى سوريا.

تتذكر الوالدة خلال حديثها للجزيرة نت، ذلك اليوم الذي خرج فيه ابنها من السجن، وأخبرها بأمر إبعاده، وسألها أن ترافقه، وتقول بحسرة كبيرة كيف أنها فضلت ألّا تراه على أن يبقى في السجن، وأشارت عليه أن يقبل الإبعاد ليبدأ حياته مع زوجته بعيدا عنها.

ومنذ إبعاده عام 2010 لم تجتمع عائشة مع ابنها، ولم تحظَ بالتعرف على أحفادها، والتي حملت إحداهن اسمها، وتواصلت معه طوال سنوات إبعاده عبر الهاتف فقط، ففي كل مرة كانت تحاول السفر تلقت قرارا إسرائيليا بمنعها.

‎⁨قضى العاروري بعد زواجه عدة أشهر في منزل والدته ثم أعاد الاحتلال اعتقاله ومن ثم إبعاده (الجزيرة) كان مستعدا لمصيره

توالت أحاديث الشقيقات، وكل منهن تذكر ما يكمل سيرة حياة الشيخ العاروري، تتذكر صفية مثلا تفاصيل آخر مكالمة بينهما صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول مع بدء عملية طوفان الأقصى، عندما انتشرت شائعة اغتياله "قمت بالاتصال به مباشرة، فرد علي ضاحكا أنه بخير، وأضاف "ها هم مقاتلونا قد دخلوا غلاف غزة".

منذ ذلك اليوم قُطعت أخباره بالكامل عن العائلة التي كانت تتوقع سماع نبأ استشهاده في كل لحظة، كما تقول صفية للجزيرة نت، وتضيف "من اختار هذا الطريق مصيره معروف له ولنا".

ومما عزز شعور والدته بقرب استشهاده، إرساله لها مبلغا ماليا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بقليل، وعندما سألته عن سبب ذلك قال لها إنه "لا يريد أن يترك وراءه دينا"، وطلب منها الدعاء له بالتوفيق بما هو قادم عليه.

‎⁨لم يُسمح لوالدة العاروري برؤيته أثناء اعتقاله الثاني إلا في محاكمته بعد عام ونصف من تغيبه (الجزيرة)

قضينا أكثر من 6 ساعات في منزل العائلة الذي لم يفرغ من "المهنئين" بشهادته، ليس فقط من عارورة وإنما من كل الضفة الغربية، ومن مختلف أطياف الشارع الفلسطيني، فلم يعد المنزل يتسع لهم، فانتقلت العائلة إلى قاعة في البلدة لتلقي التهاني باستشهاده، مدة 3 أيام متتالية.

وبالطبع، لم يرق للاحتلال توافد الفلسطينيين إلى بلدة العاروري ومنزله، فأغلق بعض الطرق المؤدية للقرية بسواتر حديدية، وهو ما اعتبرته العائلة انتقاما منها ومن الشهيد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

صحفيون وأطباء للجزيرة نت: نفسنا أطول من نفس الحرب على غزة

غزة- رغم ضمور عضلاته، يقبض بكفيه على الفأس، يرفعه عاليا ويستجمعُ قواه الخائرة، ويستنشق نفسا طويلا ثم يهوي به على جذع الشجرة، والعرق يتصبب من جسده. على هذا النحو، منذ عام، يجمع الحطاب عمر أبو خليل من غزة الحطب مضطرا كي يطعم أطفاله.

عامٌ مرّ والغزيون تحت وطأة الحرب والقتل والخوف والجوع، تغيرت ملامحهم، وهزلت أجسادهم، وتجاوز الإنهاك الأبدان واخترق قدراتهم العقلية وحالتهم النفسية، ورغم ذلك يكابرون ويتجاهلون أنين أجسادهم ويواجهون ضعفهم بالإصرار والمحاولة.

في غرفة العمليات، يلتف ثلة من الأطباء حول جسد طفلٍ مصاب لاستخراج شظية من قلبه، يُنهون مهمّتهم ليباشروا أخرى بلا راحة ولا وقت مستقطع. عام كامل وصرخات النازفين تجبرهم على ألا يبرحوا غرف العمليات رغم انتفاخ أقدامهم.

في البيت للرعاية وخارجه للبحث عن طعام، ووقت مستقطع لعمل إن وُجدَ لتوفير قوت أطفالهن، أمهات غاب عنهن أزواجهن من شهور الحرب الأولى يحملن أثقل مما يحتمله الرجال. وكذلك طلابٌ يعكفون على كتبهم نازحين، يتنقلون بين نقاط الإنترنت والخيام، يدخلون عاما دراسيا ثانيا دون مدارس ولا جامعات.

وأمام الكاميرا يقف المراسلون الحربيّون ومن خلفها يضبط المصورون الكادر، يمسك الصحفيون أقلامهم ليكتبوا فيبعثرهم التشتت ويخذلهم التركيز. منذ عام كاملٍ لم يتركوا أقلامهم وكاميراتهم، رغم رحيل بعضهم واستنزافهم ذهنيا وإنهاكهم بدنيا.

صمود رغم الألم

كان الصحفيون من أهم الأعمدة التي تعكزّت عليها غزة حين كادت تنهار، فكانوا صوتها وصورتها وأفشلوا مخططات الاحتلال بحجبها عن العالم لتموت بصمت، دفعوا ضريبة من أرواحهم في حرب إبادة بلا حصانة.

"لا يمكن أن نتنازل عن التغطية في أي حالٍ من الأحوال" يقول الصحفي إسلام بدر الذي لم يبرح الميدان منذ اليوم الأول للحرب، "فالتوقف عنها هو قتلٌ آخر لأكثر من 170 صحفيا استهدفتهم إسرائيل لإخماد صوت الحقيقة".

يقوم بدر ومثله صحفيو غزة بتغطيتهم للحرب في صمت، فهم يؤدون واجبهم المهني ويؤمنون بعدالة قضيتهم، وقد أخذوا على عاتقهم أن يصمدوا مع الذين بقوا في شمال قطاع غزة، لتوثيق المجازر رغم الصعوبة والضغط النفسي.

"أتخيل أن الطفلة المصابة هي ابنتي وأن السيدة المكلومة أمي، وأشعر بمسؤولية مضاعفة بالتحدث عنهم كي لا يموتوا بالعتمة" يقول بدر، ويتابع "بعد الانتهاء من توثيق المجازر تنتابني حالة من الصدمة وأبدأ باستعادة المشاهد التي أراها وأتعجّب من قدرتي حينها على الوقوف على برك الدماء وفوق الأشلاء".

هي معركة واحدة من معارك كثيرة يعيشها بدر الذي لم يتعاف بعد من إصابته في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، دون أن يتلقى الراحة والعلاج المناسب. ويقول "طاقتنا اليوم في أدنى مستوياتها والإرهاق صار متراكما فسوء التغذية والابتعاد عن الأسرة وطول أمد الحرب دون أفق لنهايتها أسباب في التشتت والتوتر وفقد التركيز".

ورغم الواقع الصعب الذي يعيشه بدر ومعه صحفيو شمال غزة، فإنه لا يستسلم لليأس، ويحاول صرفه بإشغال نفسه وإطفاء التفكير بالواقع. يقول بدر شارحا "الشعور بالتقصير ما زال قائما، فمآسي حرب الإبادة أكبر من أن يغطيها المراسلون القلائل في غزة"، ويضيف مختتما حديثه للجزيرة نت "لا أعرف حدود طاقتي، لكن أرجو أن أصمد للنهاية، وأن تكون أنفاسنا أطول من نفس الحرب".

الجراح الشيخ: حالات إغماء في صفوف الجراحين بسبب ضغط العمل والتأثر بإصابات الضحايا (الجزيرة) أطباء يقاومون الإرهاق

أما الأطباء، فقد انقطعت أنفاسهم مرارا خلال وقوفهم ساعات طويلة في غرف العمليات، لا يغمض لهم جفن بينما تنشغل أكفّهم بوقف النزف وإخاطة الجرح.

الجزيرة نت التقت طبيب الجراحة العامة هلال الشيخ وهو من الجراحين القلائل في شمال القطاع الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. يقول الشيخ إن حالات الإغماء ضمن صفوف الجراحين آخذة بالتزايد بسبب ضغط العمل المتواصل والتأثر الكبير بإصابات الضحايا التي تصل إليهم.

ورغم أن جسد الجراح الشيخ داخل غرفة العمليات فإن تفكيره مشتت بين توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لأسرته التي أصيب أفرادها خلال الحرب وتأمين المياه والمعلبات وحليب الأطفال والأخشاب لإيقاد النار في ظل الدخل المحدود وعدم قدرته على البحث عن فرصة عمل أخرى لضغط العمل.

يبوح الشيخ للجزيرة نت قائلا "ما يؤرقني أن الحرب جردتني من الحياة التي أفنيتُ عمري في التأسيس لها بما يليق بي طبيبا له عائلة ومنزل وسيارة وحياة اجتماعية، كل هذا أضحى اليوم صفرا وأحتاج البدء من جديد".

يضيف الشيخ "نزحتُ مضطرا من غرف العمليات ودماء الجريح لا تزال على يدي وملابسي تحت تهديد القذائف الإسرائيلية وطلقات النيران"، وحين يستبد به اليأس يواسي الشيخ نفسه بأن الله قد كتب له النجاة من الموت المحقق مرارا ليواصل تأدية واجبه حتى "النفس الأخير" كما يقول.

المرأة الفلسطينية تعيش واقعا مأساويا غير مسبوق في غزة (وكالة الأناضول) أمهات بلا معيلين

أما الأمهات في غزة فقد اختطفت الحرب كثيرا من أزواجهن ما بين شهيد وأسير ومطارد ومفقود، ما ضاعف مسؤولياتهن. مع اليوم الأول للحرب وغياب زوجها، تحمّلت إيمان الشنطي بمفردها عبء رعاية أبنائها الأربعة، ورغم عملها صحفية لسنوات قبل الحرب فإنها رفضت عروض عمل قُدمت إليها تخوفا من ترك أبنائها وحدهم وللتفرغ لرعايتهم وتأمين احتياجاتهم.

تقول الشنطي للجزيرة نت إن الطاقة التي كانت تقف بها قديما في طوابير انتظار تعبئة المياه وشراء الخبز وغيرها نفدت اليوم. وتحتاج الشنطي علاجا لداء في عضلات جسدها لا يتوفر في صيدليات غزة، مما يجعلها تعاني إنهاكا وأرقا يعززه التفكير المتواصل في كيفية تأمين المستلزمات في صبيحة اليوم التالي.

ترى الشنطي أن تعافيها النفسي سيبدأ باجتماعها بأهلها الذين فرقتهم الحرب، أمّا جسديا فتقول إنها "تحتاج سنوات حتى ترمم جسدها وأبناءها وتعوضهم عن حرمان عام قد يمتد"، تُظهر أمام أطفالها خلاف ما تبطن وتخفي خوفها وحزنها على حرمانهم من الحياة الطبيعية.

لكنها تواسي نفسها بالقول "لقد صار أبنائي أكثر وعيا، وتحملوا المسؤولية وتعززت لديهم مفاهيم العقيدة والشهادة والوطن والتضحية"، وتضيف "بعد مرور عام من الحرب أصبحت أكثر ميلا للانعزال والوحدة والانطواء وأجد ملاذي في الرياضة والقراءة للهرب من الواقع".

ربى مسلم تواجه تحديات كثيرة من بينها انعدام البيئة المناسبة للدراسة (الجزيرة) دراسة بلا أفق

"أجر قدميّ جرا بلا أي شغف للدوام الذي كنت أمتلئ حماسة في طريقي إليه"، تصف طالبة الطب ربى مسلم للجزيرة نت حالها بعد عام من الحرب، كانت تحضر للسفر لحضور دورة تدريبية طبية حتى بدأت الحرب ونسفت كل مخططاتها. تعيش ربى في صراع بين عدم جدوى دراستها لأنها لا تضمن حياتها يوما واحدا، وبين اندفاعها في حين آخر للدراسة لأنها الثغر الذي عليها التزامه.

تعاني ربى من قلة تركيزها، فهي تنزح في مكان غير مهيأ للدراسة ويكتظ بالنازحين ويمتلئ بصراخ الأطفال، "إن التركيز غاية لا تدرك، أجاهد للحصول على ساعة واحدة ألملم فيها عقلي"، وتتابع "لا خيارات ولا طرقا أتجاوز فيها ظرف البيئة السيئة سوى ارتداء سماعتي الأذن لأخلق لنفسي جوا منعزلا".

يبدو انعدام البيئة المناسبة واحدا من عدة تحديات تواجهها الفتاة التي تقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى نقطة إنترنت لتحميل الفيديوهات والمواد الدراسية، وتعاني كذلك في إيجاد مكتبة لطباعة الورق أو مكان لشحن بطارية حاسوبها الشخصي.

تختم ربى بالقول "هذا السعي والتعب غير معروف متى سينتهي، نحاول التأقلم مع الواقع المفروض علينا، رغم يقيني بأن انتهاء الحرب سيكشف أوجاعا كثيرة لم ندركها لانشغالنا بمآسيها وفظاعاتها".

مقالات مشابهة

  • الهيموني.. تسلل من قلب أمه إلى صدور قاتليه
  • مسؤول بغزة للجزيرة نت: القطاع الصحي آيل للسقوط في غضون أيام
  • صحفيون وأطباء للجزيرة نت: نفسنا أطول من نفس الحرب على غزة
  • من اغتيال هنية إلى نصر الله.. هل كانت ضربات إيران حتمية ضد الاحتلال؟
  • الاحتلال يقتحم عدة مناطق في بيت لحم
  • شهيدان برصاص الاحتلال في نابلس.. أحدهما مطارد بعد ساعات من اعتقاله
  • الاحتلال يداهم منزلًا في مخيم عين السلطان بمدينة أريحا
  • القومي دان اغتيال قائد حماس في لبنان مع عائلته
  • بعد اعتقاله بساعات.. إخلاء سبيل صهر نائب حزب أردوغان
  • جيش الاحتلال: اعترضنا مسيرة كانت في طريقها لاستهداف حقل «كاريش» للغاز