إسكات غزة.. تأملات في المقاومة.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 4th, January 2024 GMT
نشرت دار بلوتو في لندن هذا الكتاب عام 2021. وكاتبته هي سارة روي، الأستاذة بجامعة هارفارد، وهي شاهدة عيان على ما عاشته غزة تحت احتلال وحشي منذ عام 1985، ودونت شهاداتها في مقالات وكتب عن القطاع الصامد المنكوب في شهادة مهمة ليهودية نجت عائلتها من جحيم الهولوكست لترى بعينيها جحيما لا يقل بشاعة عنه ترتكبه إسرائيل في غزة تحت سمع وبصر العالم وصمت وموافقة المجتمع الدولي على قيام إسرائيل بإعادة تعريف الصراع، وإعادة تعريف علاقة القطاع المحتل مع إسرائيل السلطةالقائمة بالاحتلال.
نقاط مهمة في الكتاب
نجحت "سارة روي" في فضح ما تقوم به إسرائيل، وسعيها لإسكات غزة. وذلك، من خلال كشف الفظائع التي طال أمدها، وجهود إسرائيل الطويلة لإخضاع هذا الشريط المحاصر من الأرض. وقالت في كتابها الرائع: "لن يتم ضمان أمننا وإنسانيتنا من خلال إنكار نفس الشئ على الآخرين".
وتلخص روي قضية غزة في عدة نقاط أساسية تبين مدى جرم الاحتلال والتواطؤ الأمريكي والأوروبي وبعض الدول العربية والسلطة الفلسطينية.
وتفضح دور هذا الخماسي في أزمات القطاع والحصار الجائر المفروض عليه، ولماذا ترتكب إسرائيل من فظائع في غزة دون خوف من حساب أو عقاب؟
ـ ظل الاحتلال دون معارضة من قبل نظام دولي، بل يبدو هذا النظام مستعدا لإضفاء الشرعية عليه طالما لا يوجد اتفاق مقبول لإنهاء الاحتلال.
ـ عملت سياسات إسرائيل الوحشية على فصل غزة عن القضية الفلسطينية من خلال ضرب القطاع ودفعه إلى عزلة مفروضة.
ـ عملت إسرائيل على تشويه سمعة الفلسطينيين وشيطنتهم، وعلى وجه الخصوص: فلسطينيو غزة وأولئك المرتبطين بالحركة الإسلامية.
ـ منذ عملية الرصاص المصبوب في 2009، استخدمت إسرائيل العقاب الجماعي والحرب العشوائية ليس فقط لقتل وتشويه الفلسطينيين؛ ولكن أيضا "لمنع أي نوع من البيئة الطبيعية من الظهور". وهكذا تحولت غزة، بفعل العدوان الإسرائيلي العنيف، من عنصر سياسي رئيسي في القضية الفلسطينية الأوسع إلى كابوس إنساني معزول لا ينتهي.
ـ أدى الحصار الإسرائيلي والهجمات العسكرية إلى تحطيم اقتصاد غزة، والقضاء فعليا على الطبقة الوسطى، وإجبار آلاف الشباب على التطلع إلى المغادرة. كانت هذه السياسات مدروسة ومحسوبة.
ـ من خلال إبقاء غزة في أزمة دائمة، والتوقف عن تعريضها لمجاعة جماعية، أعاقت إسرائيل التعبئة السياسية وعزلت غزة عن القضية الفلسطينية الأوسع.
ـ في غزة، يحدث أمامنا انهيار مجتمع بأكمله أمامنا، ومع ذلك فهناك القليل من الاستجابة الدولية ضد هذا الإغلاق الإسرائيلي الوحشي والهجمات العسكرية الدورية الضخمة التي وضعت القطاع في حالة صدمة إنسانية".
ـ ما تقوم به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعيداننا إلى عام 1948، عندما كان الفلسطينيون يعتمدون كليا على المساعدات.
ـ الحصار الإسرائيلي، الذي استمر بمساعدة مصر وموافقة الولايات المتحدة، مكنها من اقتطاع قطاع غزة من بقية الأراضي الفلسطينية، وإجراء نقلة نوعية تقلل الفلسطينيين من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتحويل علاقتها مع غزة من علاقة احتلال إلى علاقة جهتين فاعلتين في الحرب. وللأسف، قبل المجتمع الدولي إعادة الصياغة هذه.
منذ عام 2005، عمقت إسرائيل عزلة القطاع، وفصلت غزة فصلا شبه كامل عن روابطها الحيوية بالضفة الغربية وإسرائيل وما وراءهما، وحطمت اقتصادها عمدا، وحولت الفلسطينيين من شعب له حقوق سياسية إلى مشكلة إنسانية.ـ مع انهيار اقتصاد غزة، فإن المشكلة الإنسانية لها الأسبقية بالنسبة للمجتمع الدولي. وتستفيد إسرائيل بدورها من تصوير الفلسطينيين على أنهم "متسولون ليس لديهم هوية سياسية، وبالتالي لا يمكن أن تكون لهم مطالبات سياسية".
ـ يستحق الفلسطينيون الفرصة ليعيشوا حياتهم في سلام، ويعملون، ويعتنون بأطفالهم، ويتحركون بحرية، ويبدعوا؛ لكنهم بدلا من ذلك يعاملون على أنهم أشخاص يمكن التخلص منهم دون عقاب أو عواقب.
ـ مفتاح حل أزمة الشرق الأوسط هو الاعتراف بالإنسانية الأساسية للفلسطينيين. ولن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط حتى يتم الاعتراف بهذه الإنسانية الأساسية، وتكريمها، وإنهاء الاستثنائية القسرية التي تفصل غزة عن فلسطين الكبرى.
لماذا غزة؟!
غزة تلك الأرض التي تقع على مساحة 140 ميلاً مربعاً، وبلا موارد مثل الأرض والمياة والكهرباء، وعبارة عن اِقتصاد مدمر غير فعال، ودون قاعدة صناعيّة تُذكرُ، ويعيشُ فيها أكثر من مليوني شخص، أكثر من نصفهم أطفال، و70% منهم لاجئون يعانون من معدلات عالية من البطالة والفقر. وهم كذلك سجناء تقريباً كلياً خلف جدار عسكري، وتحت مراقبة دائمة من الجو.
ومع ذلك فإن مساحة غزة الصغيرة وبؤسها وهشاشتها المستمرة تتخطى حدود أهميتها العميقة، التي لم يتم فهمها، بل وتمّ تجاهلها، الاّ من اسرائيل. لماذا جعلت إسرائيل من غزة استثناءً وكيفَ فعلت ذلك؟
منذ بداية الاحتلال، وإسرائيل لم تعرف ماذا تفعل بغزة. تاريخياً، تعرفُ غزة بأنّها مركز الوطنية الفلسطينية والمقاومة للاحتلال الإسرائيلي. وبقيت بالرغم من أوقات من الهدوء بؤرة تحدّ، ورفضت الحكم الإسرائيلي. وقد ظهرت نقطة التحول في تعامل إسرائيل مع غزة خلال الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، حيثُ غيّرت نظرة إسرائيل إلى الفلسطينيين، ونظرة الفلسطينيين إلى أنفسهم أيضاً. وفي السنوات الأولى للانتفاضة ظهرت طرق جديدة إسرائيلية غير مسبوقة للتعامل مع الفلسطينيين. وفي المقابل، أظهر الفلسطينيون أنّهم قادرون على التنظيم والعمل كجماعة، وأنهم على قدر من الانضباط والترابط على المستوى المحلي وأكثر. عمل الفلسطينيون كمجموعة وطنية واحدة، أجبرت إسرائيل على التعامل الدبلوماسي، وعلى قواعد وأرضيّة ليست تماماً إسرائيلية. وأظهر الفلسطينيون أنّ بإمكانهم التعبير عن تاريخهم الذي لا تستطيع إسرائيل أن تتحرّر وتفلتَ منه.
هناك في غزة، إعادة تعريف وطنية للهوية وتعبئة حيوية للمجتمع المدني بأكمله من أجل أهداف سياسية محددة بوضوح حطمت مفهوم الاحتلال الحميد، وأغضبت إسرائيل. وهناك حدث تكويني وفاصل في التاريخ الفلسطيني.
إذن، فأهمية غزة أكبر بكثير من مساحتها، ولها وضعية مركزية في الصراع. وهي مركز القومية الفلسطينية، ومركز المقاومة، ومحور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومفتاح حله. هذا كان حالها دائما، وسيبقى كذلك.
العزل الكامل للقطاع
منذ عام 2005، عمقت إسرائيل عزلة القطاع، وفصلت غزة فصلا شبه كامل عن روابطها الحيوية بالضفة الغربية وإسرائيل وما وراءهما، وحطمت اقتصادها عمدا، وحولت الفلسطينيين من شعب له حقوق سياسية إلى مشكلة إنسانية. كما عملت إسرائيل على تهميشها سياسيا واقتصاديا في محاولة لإزالتها من أي شكل من أشكال الدراسة الجادة خاصة فيما يتعلق بحل الصراع، ناهيك عن إقامة دولة فلسطينية مستقبلية بغض النظر عن الشكل الذي ستكون عليه هذه الدولة. لهذا، كان الاعتداء على غزة سياسة ثابتة لا هوادة فيها. وأحدث نسخة من هذه السياسة، والتي تستهدف بالطبع فلسطين كلها، هي اتفاقية السلام الموقعة في 2020 بين إسرائيل ودولتين خليجيتين: الإمارات والبحرين. مصطلح السلام تسمية خاطئة، فإسرائيل لم تكن في حالة حرب مع أي من البلدين. وقد مثلت الاتفاقيات انقلابا سياسيا ودبلوماسيا ، إذ دلت على أنه يمكن صنع السلام مع العرب وتطبيع العلاقات دون الحاجة إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، مما يعكس تقليصا إقليميا للقضية الفلسطينية بكل مفرداتها. لقد كسر نتنياهو نموذج "الأرض مقابل السلام"، وجلب "السلام مقابل السلام". ومع ذلك، فإن غزة وحدها هي التي تثبت خطأ ذلك.
سياسة العقاب الجماعي
هناك تدهور سريع مفروض على قطاع غزة، فغالبية سكانه يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. أدت هذه السياسة الإسرائيلية إلى خطورة متزايدة للحياة المقيدة والمحددة والمدمرة في غزة بشكل خاص، وتأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية. لذلك، فإنه في سياق علاقة إسرائيل بغزة، يجب فهم سياسة العقاب الجماعي والغرض منه، فهو لا يهدف إلى إلحاق الضرر فحسب، وإنما يسعى إلى منع أي نوع من البيئة الطبيعية من الظهور في غزة.
لقد ترك الوهن في غزة، الذي تم التخطيط له بعناية وتنفيذه بنجاح، ما يقرب من نصف القوى العاملة دون أي وسيلة لكسب لقمة العيش، فالبطالة ـ وخاصة بين الشباب ـ هي السمة المميزة للحياة.إن إضفاء الطابع المؤسسي على سياسة العقاب الجماعي من الناحيتين العملية والنفسية هو نوع من أنواع الشذوذ الذي يقاوم التغيير. وفي غزة اتخذ هذا الشذوذ أشكالا عديدة. أحدها واضح وموثق توثيقا جيدا، وهو اعتماد غزة شبه الكامل على المساعدات الإنسانية وغيرها من مصادر التمويل الخارجي. وذلك نتيجة للسياسات الإسرائيلية طويلة الأمد، وخاصة الإغلاق الذي بدأ عام 1991، ثم الحصار المضروب على القطاع منذ 2007.
تهدف هذه السياسات عمدا إلى تحطيم اقتصاد غزة، وبالتالي مجتمعها. لذا، لا ينبغي أن يكون مفاجئا لنا أن بعض الناس في غزة اليوم يبحثون عن الطعام في أكوام القمامة. وبدلا من قيام إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، بتطبيق القوانين الدولية التي تلزمها بحماية أهل غزة؛ فإن القوانين الوحيدة التي تطبق في غزة هي قوانين القوة، حيث يمكن لإسرائيل ممارسة العنف دون مسائلة أو أي مرجعية للقانون أو العدالة.
لم يستلزم الوضع في عزة التدخل الإنساني فحسب؛ بل استلزم أيضا وضع غزة في بين فكي الصراع الدوري والكارثة المحتملة، حيث لا يستخدم العنف لإحداث الموت بقدر ما يستخدم لإحداث الوهن، مع تجنب حدوث أي كارثة واسعة النطاق مثل المجاعة.
إضعاف وإسكات مخطط لهما بعناية
غزة في حالة صدمة إنسانية، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الحصار الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومصر. تاريخيا، كانت غزة مكانا للتجارة والتبادل التجاري، ولم يتبق سوى القليل نسبيا من الإنتاج، ويعتمد الاقتصاد الآن إلى حد كبير على الاستهلاك. هناك زيادة طفيفة في الصادرات الزراعية إلى الضفة الغربية وإسرائيل، وهما السوقان الرئيسيان لغزة؛ إلا أنها ليست كافية لتعزيز قطاعاتها الإنتاجية الضعيفة.
لقد ترك الوهن في غزة، الذي تم التخطيط له بعناية وتنفيذه بنجاح، ما يقرب من نصف القوى العاملة دون أي وسيلة لكسب لقمة العيش، فالبطالة ـ وخاصة بين الشباب ـ هي السمة المميزة للحياة. وتصل نسبتها حوالي 42%، لكنها بالنسبة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 عاما، فهي تبلغ 60%. يقضي الجميع وقتهم في محاولة العثور على وظيفة أو طريقة ما لكسب المال. قال أحد السكان: "الرواتب تسيطر على عقول الناس".
عباس ومعاناة غزة
إن أكبر مصدر للتوتر السياسي بين حكومة حماس في غزة والسلطة الفلسطينية هو استمرار رفض الرئيس عباس، الذي يسيطر على الخزانة، دفع رواتب موظفي حكومة حماس، فهو يدعي أن الأموال سيتم توجيهها إلى الجناح العسكري لحماس. ولذلك، فإنه يتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية عن معاناة غزة. إن رفض عباس هو أكثر إثارة للغضب، لأنه كان يدفع رواتب كاملة لما لا يقل عن 55000 موظف حكومي في غزة كانوا يعملون لصالح السلطة الفلسطينية قبل سيطرة حماس على القطاع. ومازال هؤلاء الناس يتقاضون رواتبهم مقابل عدم العمل لصالح حكومة حماس. ويكلف دفع رواتبهم السلطة الفلسطينية 45 مليون دولار شهريا، وهي أموال توفرها إلى حد كبير المملكة العربية السعودية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد أدى دفع المال للناس مقابل عدم العمل إلى إضفاء الطابع المؤسسي على تشوه آخر في اقتصاد غزة الذي يعاني من ضعف شديد. ومع ذلك، خفض عباس مؤخرا هذه الرواتب بما يتراوح بين 30 و 70% للضغط على حماس. الحاجة في كل مكان. لكن الجديد هو الشعور باليأس.
بيئة غير طبيعية
بيئة غزة غير طبيعية بمعظم المقاييس. يتلقى ما لا يقل عن 70% من السكان مساعدات إنسانية دولية، معظمها غذائية، وبدونها لا يمكن للغالبية تلبية احتياجاتهم الأساسية. من المهم أن نتذكر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان غزة تقل أعمارهم عن ثلاثين عاما، ولا يزالون محصورين في غزة، ممنوعين من مغادرة القطاع. يتمتع سكان غزة بروح المبادرة والحيلة، لكنهم قد أصابهم اليأس من الحصول على عمل وإعالة أطفالهم مرة أخرى. وبدلا من ذلك، يضطرون إلى الاعتماد المهين على المساعدات الإنسانية، التي تقدمها نفس البلدان التي تسهم في عجزهم. السياسة ليست فاحشة أخلاقيا فحسب: بل غبية أيضا بشكل شنيع.
ليس الجميع في غزة فقراء. وهناك مجموعة صغيرة ـ العدد الذي ظللت أسمعه هو 50,000 ـ ميسورة الحال نسبيا. ولكن مثل الغالبية العظمى من سكان غزة، فإن الأغنياء مقيدون ومحصورون وغاضبون ويشعرون بالإهانة بسبب عدم قدرتهم على العيش بحرية وعدم القدرة على التنبؤ بما سيكون في المستقبل. يصف أحد أغنى وأنجح رجال الأعمال بتفصيل دقيق القيود التي تفرضها إسرائيل على أعماله، والتي كانت سوقا أساسية. الإسرائيليون يدمرون أعمالهم، ولماذا؟ إنهم يضغطون، ويضغطون، ويضغطون ولكن نحو أي غاية؟ يعيش هؤلاء الميسورون بشكل جيد؛ لكنهم لا يستطيعون شراء حريتهم. وهذا ما يربطهم ببقية غزة. الفرق بين الغنى والفقر في غزة واضح جدا، ولكنه أيضا قريب جدا: يمكن أحيانا قياس المسافة بين الاثنين بالياردات.
الأشخاص الذين يعتبرون حقا متميزين في غزة ليسوا بالضرورة أولئك الذين لديهم قدر كبير من المال. إنهم أشخاص لديهم مصدر دخل منتظم: حتى وقت قريب، كان الموظفون الذين يتقاضون رواتب مقابل عدم العمل من قبل السلطة الفلسطينية، والأشخاص الذين يعملون في الأونروا، والمنظمات غير الحكومية الدولية، ومؤسسات القطاعين العام والخاص المحلية، وأولئك وهم ليسوا كثيرين الذين يعملون لحسابهم الخاص بنجاح، وعادة ما يكونون تجارا. يحاول الناس مساعدة بعضهم البعض؛ لكن الصدقة ليست عملا بسيطا وغير مقيد كما كان من قبل. وصف فلسطيني من عائلة بارزة في غزة معضلته، فقال: "أنا أفضل حالا بكثير من معظم الناس هنا، وأفعل ما بوسعي لمساعدة الآخرين. مأساة هذا الموقف هي أن الأصدقاء ينظرون إليك كمصدر للمال. وتنتهي الصداقات عندما لا يمكنك توفير هذا المال. هذا ما تم اختزالنا إليه. لم تكن هذه غزة أبدا".
غزة تغلي على نار هادئة
ليس هناك الكثير الذي يمكن لحماس القيام به لتعزيز سيطرتها على غزة. هناك شائعات بأن بناء الأنفاق قد بدأ مرة أخرى بشكل جدي تحت شوارع مدينة غزة. ويقال إن عمق الأنفاق الجديدة يبلغ 150 مترا، وهي جزء من بنية تحتية أكبر وغامضة. وإذا افترضنا أنها صحيحة، فمن الطبيعي أن يتبع ذلك استنتاج: من أجل تدمير الأنفاق، سيتعين على إسرائيل تدمير أحياء بأكملها. إن هناك شيئا واحدا واضحا عبر عنه أحد المحللين بقوله: "غزة تغلي على نار هادئة".
حماس لديها منتقدوها. ومع ذلك، يبدو أن العمل التطوعي آخذ في النمو، وقد ظهرت مجموعة من المبادرات التي تحاول معالجة مأزق غزة بطريقتها الخاصة. وبدون سلطة مركزية عاملة، فإن هذه الجهود محدودة حتما ولكنها مستمرة. وهي تشمل تجديد الزراعة على نطاق صغير، ورصد حقوق الإنسان، وإعادة تأهيل الصحة العقلية، وإصلاح البيئة، والابتكار التكنولوجي. تم التركيز دائما على الأخير.
الحصار وصناعة اليأس
السمة اللافتة للنظر حقا للحياة في غزة هي تخفيف الطموح. ونظرا للصعوبات الهائلة في الحياة اليومية، فإن الاحتياجات الدنيوية ـ الحصول على ما يكفي من الطعام والملبس والكهرباء ـ موجودة للكثيرين فقط على مستوى الطموح. أصبح الناس أكثر انغلاقا وتركيزا، بشكل مفهوم، على الذات والأسرة. يشعر الشباب بالانفصال عن المستقبل المحتمل. يقول خبير اقتصادي: "إن انفتاحنا على العالم يضيق، ويخشى المزيد والمزيد من الناس مغادرة غزة لأنهم لا يعرفون كيفية التعامل مع العالم الخارجي. يجب تعليم الناس التفكير على نطاق أوسع. وإلا فإننا نضيع".
ماذا تريد إسرائيل؟
لماذا تعاقب إسرائيل غزة بهذه الطريقة القاسية؟ وما الذي تأمله حقا في كسبه من ذلك؟ لقد استنفدت كل الطرق التي تتبعها للضغط على غزة. عندما سُمح لسكان غزة بالعمل في إسرائيل، كان لها نفوذ: ستغلق الحدود، وتنتزع أي تنازلات تسعى إليها. والآن اختفى هذا النفوذ، وكل ما تبقى هو سياسة التهديد تجاه غزة. وهي سياسة لا تنبع من أي معنى أو منطق، ولكن مما أسماه إيهود باراك ذات مرة "الجمود".
ووفقا لمقال في صحيفة "هآرتس"، فإن "مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي لم يعقد اجتماعا واحدا حول السياسة الإسرائيلية بشأن غزة على مدى السنوات الأربع الماضية". عند أي نقطة يتوقف التهديد كشكل من أشكال الإكراه؟ ما الذي تأمله إسرائيل في كسبه من هجومها القادم على غزة، عندما يتحدث الناس هناك بالفعل عن إبادة عائلات بأكملها كموضوع عادي للحديث؟
على الرغم من حقيقة أن الضفة الغربية عرضة لمصير مماثل لقطاع غزة؛ إلا أن الخطاب الإسرائيلي والدولي اختار استراتيجيا الفصل بين غزة والضفة.في الأشهر الستة الأولى من عام 2016، أفادت وزارة الداخلية بغزة، أن 24,138 طفلا قد ولدوا في غزة، بمعدل 132 طفلا في اليوم. في آب أغسطس 2016 وحده، وُلد 4961 طفلا، أو 160 طفلا في اليوم: أكثر من ستة أطفال كل ساعة، وطفل واحد كل تسع دقائق. المسافة بين مدينة غزة وتل أبيب هي 44 ميلا. إذن، ماذا ستفعل إسرائيل عندما يعيش خمسة ملايين فلسطيني في غزة؟
ما يحدث في غزة اليوم سيحدث في الضفة غدا
ما يحدث في غزة هو انعكاس أيضا للحالة في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى الرغم من حقيقة أن الضفة الغربية عرضة لمصير مماثل لقطاع غزة؛ إلا أن الخطاب الإسرائيلي والدولي اختار استراتيجيا الفصل بين غزة والضفة. وبما أن السياسة الفلسطينية لا تزال تهيمن عليها المصالح الإسرائيلية، مثل ذلك رفض التعامل مع حماس كممثلين سياسيين شرعيين، فإن أي جهود للوحدة والمصالحة ستظل محبطة. وتلعب هذه السياسات المثيرة للانقسام دورا لصالح إسرائيل، حيث تسعى إلى فصل غزة عن الضفة سياسيا.
وتعمل اتفاقات أوسلو على تطبيع هذه المهزلة من خلال تعزيزها "للسلام الاقتصادي تحت الاحتلال" في الضفة؛ بينما غزة لا تزال مقيدة بالنموذج الإنساني. وبذلك، وجهت إسرائيل ضربة للنضال الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، أفقدت اتفاقات أوسلو مصداقية الحقوق الفلسطينية من خلال إخضاع الناس لما يسميه روي "الاحتلال الدائم". لقد أصبحت غزة نموذجا لتجزئة الضفة الغربية. قد يكون للضفة قشرة من التقدم، لكنها مبنية على نفس النموذج، ومن المرجح أيضا أن تنشأ فيها تحولات مماثلة إلى غزة .
ماذا لو رفع الحصار عن غزة؟
غزة لديها سكان موهوبون وبارعون في التكنولوجيا. وقال مستثمر أمريكي إنه إذا كان هناك سلام في أي وقت مضى، فإن "قطاع الإنترنت في غزة سيصبح هندا أخرى". وتفيد التقارير بأن عدد مستخدمي الإنترنت في غزة مساو لعدد مستخدمي الإنترنت في تل أبيب، وهناك عدد صغير يتعاقد بالفعل من الباطن مع شركات في الهند وبنغلاديش وإسرائيل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب غزة احتلال الفلسطينية عرضة احتلال فلسطين غزة كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العقاب الجماعی على المساعدات الضفة الغربیة إسرائیل على اقتصاد غزة سکان غزة من خلال ومع ذلک على غزة غزة فی فی غزة غزة عن
إقرأ أيضاً:
حسن خريشة لـعربي21: هذا سر تمسك السلطة الفلسطينية بالاتفاقيات مع إسرائيل
قال نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، الدكتور حسن خريشة، إن "تمسك السلطة الفلسطينية بالاتفاقيات مع إسرائيل، وعلى رأسها اتفاق أوسلو، لا يعود إلى قناعة وطنية أو سياسية، بل إلى مصالح فئوية مرتبطة ببقاء السلطة نفسها، وهذه الاتفاقيات أصبحت الإطار الوحيد الذي يبرر وجود السلطة، ويوفر لها الغطاء السياسي والدعم المالي، حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية".
وأوضح خريشة، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، أن "السلطة لا تستطيع الانفكاك من هذه الاتفاقيات لأنها ببساطة لم تُبنَ على مشروع تحرري حقيقي، بل على دور وظيفي مُحدد"، مضيفا: "السلطة تلتزم أمنيا بالاتفاقيات لأنها تضمن بقاءها، وتُرضي المانحين، وتُحافظ على امتيازات الطبقة السياسية، فيما يُترك الشعب يواجه الاحتلال وحده".
وشدّد على أن "كل مَن راهن أو روّج لموضوع حل الدولتين قد باع الوهم للشعب الفلسطيني؛ فاتفاقية أوسلو لم يذكر فيها بند بشكل واضح لإقامة دولة فلسطينية، وإنما نحن الفلسطينيون من اخترعنا هذا الموضوع لنقول إن هناك حل الدولتين، وهو ما تبناه الأوروبيون، وتبناه أصدقاء لنا في العالم، لكن الأمر لم يعد ممكنا في الظروف الحالية، وبالتالي أصبح حل الدولتين جزءا من الماضي".
وذكر خريشة أن "التاريخ الفلسطيني الحديث بدأ في 7 أكتوبر 2023، وحركة حماس صنعت معجزة بكل المقاييس لم يكن يتوقعها أحد، والشعب الفلسطيني موحد خلف مقاومة أنجزت انجازا كبيرا، وقدّمت تضحيات كبيرة، وأعتقد أن أي انتخابات قادمة ستفوز بها المقاومة"، متابعا: "ليس لدينا خيار سوى أن نصمد ونقاوم".
وإلى نص المقابلة المصورة مع "عربي21":
كيف ترى العملية العسكرية الواسعة التي بدأتها إسرائيل في الضفة الغربية في يناير/ كانون الثاني الماضي ومساعيها الرامية لمحو المخيمات؟
هذه العملية هي تكرار لعمليات سابقة كان الهدف منها -كما أعلن الإسرائيليون- اجتثاث المقاومة، لكن هذه العملية الجديدة التي بدأت منذ أكثر من 88 يوما في جنين، و82 يوما في مخيم طولكرم، وكذلك في نور شمس لها أهداف مختلفة كثيرة، وتختلف عن كل المرات السابقة التي كانت تشتمل على اجتياحات، وتدمير بنى تحتية.
هذه المرة هناك تدمير بنى تحتية، وحرق عدد من البيوت، هدم عدد آخر، واتخاذ المتبقي منها في المخيمات كثكنات عسكرية، والأهم من ذلك هو طرد الناس بالقوة من بيوتهم، وتشكيل فرق هندسية تعمل من أجل هدم البيوت وتحويل الزقاق الذي كان عرضه مترين إلى شارع عرضه 20 مترا، وتقسيم المخيم إلى مربعات الهدف منه في النهاية إنهاء فكرة المخيم باعتبار القضية الفلسطينية كلها هي قضية لجوء وحق عودة.
كل هذا بالتزامن مع منع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين من القيام بواجباتها وعملها المنوطة به، وهو ما يُعتبر احتلال مباشر لشمال الضفة الغربية، وتحديدا لهذه المخيمات، ومن ثم تتسع هذه الدائرة لتشمل معظم شمال الضفة الغربية، فالبداية كانت من جنين ثم نور شمس، ثم طولكرم وطوباس والفارعة، ومخيم بلاطة، والعديد من المناطق الأخرى.
وهذا يترافق مع إطلاق يد المستوطنين لتكثيف وتعزيز الاستيطان من خلال استخدامهم كأداة من أدوات جيش الاحتلال، فهم يحرقون المنازل، ويغلقون الطرق.
وهناك قضية جديدة تطفو على السطح بشكل مكثف وهي "الاستيطان الرعوي"، بمعنى: مستوطن واحد يجلب عددا من الأبقار والأغنام، ثم يحوّط المنطقة التي يرعى بها، وبالتالي تصبح هذه الأرض جزءا من الاستيطان، والأغوار أكبر مثال على ذلك.
أيضا هناك محاولات لشق طرق كبيرة في القدس، وهو ما يجري بالتوازي مع العملية العسكرية التي يقوم بها الاحتلال في شمال الضفة الغربية، التي تهدف إلى إلغاء المخيم، ثم تهجير السكان، ومنع عودتهم إلى المخيمات أو المناطق التي هجروا منها، وهو ما يتوافق مع رؤية ترامب حين يتحدث عن المستوطنات، فقد كانت الإدارة الأمريكية قديما تقول إن الاستيطان عقّد طريق التسويات، أما الآن فقد ظهرت مصطلحات جديدة تُعمّم وتُستخدم بشكل مكثف مثل مصطلح (يهودا والسامرة) الذي يُطلق على الضفة الغربية، وهو المصطلح الذي تبنته الإدارة الأمريكية الجديدة من خلال اعتماد هذه التسمية عبر سفيرها الموجود لدى إسرائيل.
والهدف من ذلك كله هو الاستيلاء على الضفة الغربية، وضمها للاحتلال، وقد أتضح ذلك خلال تصريحات قادة الاحتلال، أو قرارات الكنيست.
أضف إلى ذلك: البوابات الحديدية التي تنشر على كل الطرق الداخلية، والخارجية الرابطة بين المدن، وحتى بين القرى، من أجل إنشاء "معازل" تمنع في المستبقل قيام أي كيان تواصلي بين هذه المدن ومحيطها، بمعنى هناك محاولات لضم الضفة الغربية بشكل كامل، ومنع إقامة أي دولة فلسطينية في المستقبل.
لماذا لم نلحظ انتفاضة واسعة داخل الضفة منذ اندلاع "طوفان الأقصى" وإلى الآن؟
المواجهات العسكرية أو المظاهر المسلحة أو أنشطة الكتائب الفلسطينية موجودة قبل "طوفان الأقصى"، ومع انطلاق "طوفان الأقصى" ازدادت نشاطا وتجذرا، لكن البيئة في الضفة الغربية ليست موائمة للمقاومة بشكل كبير؛ لأن السلطة لديها قرار واضح بعدم تصعيد الأمور مع الإسرائيليين لأسباب كثيرة، منها عدم قدرتها أو عدم رغبتها في مواجهتها، والالتزام بالاتفاقات، وغيرها من الأسباب.
كما أن الاحتلال كان يقوم كل فترة باجتياح مخيم ما، ويستخدم كل ما يمتلك من أدوات سواء كانت تكنولوجية، أو التحرك على الأرض من أجل اجتثاث المقاومة، وقد فشل في المرات السابقة، لكن هذه المرة الأمور تغيرت، ففي البداية كانت هناك انتفاضة مسلحة، واليوم الانتفاضة لم تعد موجودة نتيجة الإجراءات التي يتخذها الإسرائيليون، أو تتخذها السلطة الفلسطينية مع الأسف.
هل فشلت كل محاولات استنساخ تجربة "مقاومة غزة" في الضفة الغربية؟
في البداية كنا نسميهم هؤلاء "الفدائيين الجدد"، وكانت بداياتهم في عام 2021 مشجعة، وكان الجانب الإسرائيلي يخشى أن يكون هناك نموذج مشابه لنموذج غزة، لذلك بذلوا جهدا كبيرا جدا من أجل اجتثاث هذه الظاهرة، على اعتبار أن المدن الفلسطينية الموجودة في المخيمات سواء في طولكرم أو قلقيلية أو جنين هي مدن بالخاصرة الإسرائيلية، بمعنى أن المسافة بين طولكرم -على سبيل المثال– للبحر لا تزيد عن 12 كيلو مترا، وبالتالي هي خاصرة رخوة للإسرائيليين.
لذا، حاول الاحتلال بكل السبل عدم استنساخ ما جرى في غزة، أو على الأقل ألا تكون هناك إمكانيات لهذه المقاومة قادرة على إيقاع الأذى الكبير بالإسرائيليين.
والآن نرى أن هناك احتلالا مباشرا، ولا توجد مقاومة حقيقية كما كانت في عام 2021 وحتى بعد "طوفان الأقصى"؛ لاعتبارات كثيرة أهمها، وأخطرها هي الإجراءات التي تعزل المناطق بعضها عن بعض، ليسهل الاحتلال المباشر لتلك الأراضي.
ما الذي أضعف المقاومة في الضفة بشكل أكبر.. الضربات الإسرائيلية أم قمع السلطة؟
الذي أضعف المقاومة، أو كان له التأثير الكبير عليها هو أمرين: الأول، الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، بالإضافة إلى موقف السلطة التي لم تكن ترغب بالأساس بأن تكون هناك انتفاضة أو مقاومة مسلحة للإسرائيليين، لذا كانت هناك عمليات اعتقال، ورأينا كيف أطلقوا عليها في جنين "حماية وطن"، لكن مع الأسف "عملية حماية وطن" لا تحمي مَن يريد حماية الوطن.
كان من المفترض أن القائم على "حماية وطن" أن يحميه من مستوطني الاحتلال، لكن مع الأسف هذا الأمر ساهم في إضعاف المقاومة، من خلال حملات الاعتقالات، والملاحقات المستمرة لهؤلاء الشباب.
بالإضافة إلى أن الاحتلال استخدم كل ما لديه من قوة، فنحن نعيش الآن حرب إبادة حقيقية هنا في الضفة الغربية على غرار ما جرى في غزة، ولدينا على سبيل المثال العديد من القرى المهجّرة، وهناك على الأقل 15 ألف نازح أو مُهجّر من المخيمات، والنصيب الأكبر من هذا العدد من مخيم جنين، لذا الأمور باتت مختلطة، ولهذا كان الإضعاف مُتعمد جدا للمقاومة في الضفة الغربية.
وأقول إن السلطة الفلسطينية اليوم لم تعد مشروعا وطنيا، ولا حتى حالة انتقالية نحو الاستقلال كما روّجوا لنا. ما يجري على الأرض يشي بأنها باتت ذراعا وظيفيا للاحتلال، تؤدي دورا أمنيا وسياسيا واقتصاديا لتثبيت وجوده، وقمع كل ما يهدد هذا "الاستقرار" المزعوم.
باتت المقاومة تُلاحَق في الضفة على يد الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تأسست إثر توقيع اتفاق أوسلو، تحت لافتة التنسيق الأمني، وهو تنسيق لا يصبّ إلا في مصلحة الاحتلال.
والسلطة تُعيد إنتاج نفسها ككيان بيروقراطي، يتغذى على المساعدات، ويعيش على رواتب الموظفين، ويسهر أحيانا على راحة المستوطنين أكثر من سهره على حماية أبناء شعبه.
الانتخابات مغيبة، والمجلس التشريعي مشلول، والرئاسة مُحتكرة منذ أكثر من عقد ونصف، بينما تُمارس السلطة القمع والتضييق على الحريات، وتدير الضفة بعقلية أمنية لا تختلف عن عقلية المحتل.
إن ما يجري لم يعد قابلا للتجميل أو التبرير، ولم تعد هناك مساحة للحديث عن "تصويب المسار". فالمسار من أساسه مختل، والسلطة انحرفت عن كل ما كان يؤمل منها.
الواقع يقول: لدينا سلطة تُشغّل بعض الناس عند الاحتلال، وتلاحق المقاومين، وتمنع أي عمل وطني حقيقي، وتُدير ملفاتها بإشراف مباشر من المانحين ومنسق الاحتلال.
كيف تقيم تجربة أوسلو، وكيف ترى الموقف من حل الدولتين والموقف من الدولة الواحدة؟
هذا الأمر تبناه الرئيس الأمريكي «بوش الابن» في الفترة السابقة قبل 23 عاما تقريبا، وكل مَن راهن أو روّج لهذا الموضوع قد "باع الوهم" للشعب الفلسطيني؛ فاتفاقية أوسلو لم يذكر فيها بند بشكل واضح لإقامة دولة فلسطينية، وإنما نحن الفلسطينيون من اخترعنا هذا الموضوع لنقول إن هناك حل الدولتين، وهو ما تبناه الأوروبيون، وتبناه أصدقاء لنا في العالم.
لكن الأمر لم يعد ممكنا في الظروف الحالية، بدليل الحرب التي تجري في غزة، ونتائج الاستيطان المكثف والعدوان المستمر على الضفة الغربية، لذا "وهم" حل الدولتين يتلاشى يوما بعد يوم، ويجب علينا ألا نصنع للإسرائيليين مبررات أو أوهام.
وقد رأينا كيف تعامل الاحتلال مع المبادرة العربية التي طرحت عام 2002، والآن هناك مشروع عربي الذي هو نتاج القمة العربية الأخيرة، ومع الأسف ما زال حبرا على ورق، ولم يطبق أي منه؛ وأعتقد أن السبب في ذلك هو الإدارة الامريكية، بجانب الإسرائيليين، بالإضافة للضعف الرسمي الفلسطيني الذي لا يعتبر نفسه جزءا من هذه الحرب التي تُشنّ على قطاع غزة، ولا هنا في الضفة الغربية، وإنما أصبح جزءا من النظام العربي الرسمي، وهو ما ينعكس على الحالة الفلسطينية.
لذا، أعتقد أن "حل الدولتين" بات جزءا من الماضي، وليس على الفلسطينيين إلا الصمود والمواجهة في حرب الإبادة التي يتعرضون لها، فهي حرب وجود بالنسبة لنا، وقد عايشنا حروبا كثيرة، وكان الشعب الفلسطيني دائما ما يصمد فيها، ويخرج منها يلملم جراحه، وفي النهاية هو صامد وباق في أرضه.
لكن البعض يؤمن بأن «أوسلو» لا تزال سارية المفعول؟
ما بقي من «أوسلو» هو "بقايا سلطة"، قبل أوسلو كانت فلسطين قريبة للفلسطينيين، وكان لدينا طموحات عريضة وآمال كبيرة، لكن بعد أوسلو رأينا أنها لم تجلب للشعب الفلسطيني سوى المزيد من الاستيطان، بالإضافة إلى الانقسام الداخلي الفلسطيني، وفي عام 2002 اجتاح الإسرائيليون مخيم جنين، وقالوا: "إن أوسلو قد انتهت" ثم طُرحت المبادرة العربية ورفضوها، فكانت الدبابات الإسرائيلية دائما تلغي الاتفاقات.
وعندما نتحدث عن أوسلو نتحدث عن «مناطق أ، ب، ج» وما تم احتلاله في الضفة الغربية هي مناطق (أ) وهي تحت السيادة الفلسطينية بالأساس.
هناك إجماع وطني فلسطيني من خلال المجلس الوطني، والمجلس المركزي، والمجالس الوطنية الأخرى منذ 2015 بضرورة إنهاء أوسلو، وما ترتب عليها، وأهمها إلغاء التنسيق الأمني، لكن مع الأسف الشديد لم تنفذ هذه القرارات حتى اللحظة بالرغم من إدراكنا التام أن الكل الفلسطيني مُستهدف، وليس المقاومة في غزة فقط، بل كل الشعب الفلسطيني سواء في غزة أو في الضفة الغربية.
المُستهدف هو المقاوم والمفاوض الذي يأمل تحقيق إنجاز حل الدولتين، لذا مطلوب منا اليوم أن نوحد جميع صفوفنا، وأن نلم شملنا من أجل أن نجيب على السؤال الكبير: كيف تُستثمر القضية الفلسطينية بوضعها الحالي؟، علما بأن «طوفان الأقصى» زلزل المنطقة بشكل كامل، فكل التغييرات التي تجري في العالم الآن كان وراءها "طوفان الأقصى".
ما سر تمسك السلطة بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل؟
يقولون إنهم غير قادرين على مواجهة الإسرائيليين، ويقولون إن هناك "كيانية فلسطينية" قد أُنشئت، وهو ما لم نراه على الحقيقة، فالسلطة الفلسطينية تتآكل يوما بعد يوم، وحتى الإسرائيليون يستهدفون هذه السلطة، بمعنى أنهم يريدون سلطة ضعيفة تخدم الأجندة الإسرائيلية، وليست قوية تخدم الفلسطينيين، وإنما دور وظيفي لهذه السلطة.
وحتى اللحظة لا توجد "أجسام شرعية" في هذه السلطة، بمعنى لا توجد مؤسسة مُنتخبة في السلطة الفلسطينية، وقسم من هؤلاء ما زال -بكل أسف- يعتقد بإمكانية تحقيق تسويات مع الاحتلال، وقسم آخر يعتقد أن السلطة أو الحكم الذاتي هو "كيانية" فلسطينية ستؤدي بنا في المستقبل إلى الدولة.
لكن بعد أكثر من 25 عاما ما زالت الأرض الفلسطينية تتقلص يوما بعد يوم، والاستيطان يزداد، ومع ذلك ما زال البعض يتمسك ببقايا أوسلو، رغم أن تلك الاتفاقية هي ما جلبت هذا الدمار الكبير الذي نراه اليوم؛ فعندما قسّموا المناطق لـ أ، ب، ج لم يتطرقوا للاستيطان والمستوطنات، أو القدس.
وتمسك السلطة الفلسطينية بالاتفاقيات مع إسرائيل، وعلى رأسها اتفاق أوسلو، لا يعود إلى قناعة وطنية أو سياسية، بل إلى مصالح فئوية مرتبطة ببقاء السلطة نفسها، وهذه الاتفاقيات أصبحت الإطار الوحيد الذي يبرر وجود السلطة، ويوفر لها الغطاء السياسي والدعم المالي، حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، والسلطة لا تستطيع الانفكاك من هذه الاتفاقيات لأنها ببساطة لم تُبنَ على مشروع تحرري حقيقي، بل على دور وظيفي محدد، وهي تلتزم أمنيا بالاتفاقيات لأنها تضمن بقاءها، وتُرضي المانحين، وتُحافظ على امتيازات الطبقة السياسية، فيما يُترك الشعب يواجه الاحتلال وحده، وهذه الاتفاقيات منحت السلطة شكل الدولة دون أن تمتلك مقوماتها، ولذلك لا تزال تتمسك بها رغم فشلها عمليا.
أعتقد أن مَن صنع أوسلو يندم على فعله اليوم أشد الندم، وأحمد قريع –رحمه الله- كان يقول ذلك بشكل واضح، والرئيس عرفات قال: "وقعنا في فخ الإسرائيليين" من خلال هذا الاتفاق "المسخ" الذي قسّم الشعب الفلسطيني، وكثّف الاستيطان، وأطاح بطموحات الفلسطيني التي كانت تتلخص دائما في العودة والتحرير.
كان المشروع الوطني الفلسطيني هو العودة والتحرير، ويبدو أن العودة اليوم أصبحت صعبة جدا، والتحرير أصبح جزءا من الأدبيات التاريخية للشعب الفلسطيني.
نأمل في ظل الوضع الحالي أن نتماسك نحن الفلسطينيون من أجل أن نصنع مشروعنا الوطني الثابت والواضح الذي يتمثل في العودة والتحرير.
هل يمكن القول بأن السلطة الفلسطينية اليوم باتت بلا شرعية؟
ليس هناك جسم شرعي واحد في السلطة الفلسطينية؛ فقد كان لدينا مجلس تشريعي منتخب، وتم حل هذا المجلس على وعد بأن تكون هناك انتخابات بعد 6 شهور، وهو ما لم يحدث.
تستخدم منظمة التحرير، والمجلس الوطني، والمجلس المركزي بديلا عن الأجسام الشرعية المنتخبة في فلسطين، لذا نحن بحاجة لتجديد الشرعيات، وهذه الشرعيات يجب أن تجدد عبر صندوق الاقتراع؛ ففي السابق كان الحصول على الشرعية عبر الكفاح المسلح والمقاومة، وهذه المقاومة في الضفة الغربية لم تعد قائمة ولا السلطة تتبناها، وبالتالي صندوق الاقتراع هو الخيار الوحيد لنا، ونأمل في الفترة القادمة عندما تهدأ الأجواء أن يكون هناك توجه حقيقي لانتخابات، علما بأن الانتخابات التي كانت مقررة في فترة سابقة قد ألغيت بحجج لا تصمد أمام الواقع.
وبالتالي شرعية صندوق الاقتراع غير متوفرة، والمؤسسات الفلسطينية غائبة، وعندما تكون هناك حكومة فلسطينية لا تُعرض على المجلس التشريعي، ولا تأخذ الثقة من جسم شرعي منتخب، لذا لا تستطيع أن تمارس عملها، وبالتالي هناك تجاوزات كثيرة للقانون الأساسي الفلسطيني في هذا الشأن.
في حال إجراء انتخابات خلال الفترة الراهنة.. كيف ترى فرص أو حظوظ فوز حركة حماس بالمقارنة بحركة فتح؟
هذا «الطوفان» بالنسبة للفلسطينيين كان حلم، وهذا الحلم أصبح حقيقة ناصعة على الأرض، ورأينا كيف يقاوم ويقاتل الشباب الفلسطيني، ورأينا كيف يقدم شعبنا الفلسطيني كل التضحيات الجسام ليصنع تاريخ جديد للشعب الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني شعب موحد خلف مقاومة أنجزت انجازا كبيرا، وقدّم تضحيات كبيرة، وأعتقد أن أي انتخابات ستفوز بها حركة حماس، وسيفوز "برنامج المقاومة" على "برنامج التسويات"، علما بأن "برنامج المقاومة" هو مَن فاز في 2006 في الانتخابات التشريعية، والنتائج ذاتها ربما تكرر مرة أخرى.
ما طبيعة الاتصالات التي لا تزال قائمة بين السلطة وإسرائيل؟
حتى اللحظة هناك تنسيق أمني واضح، لكن الإسرائيليين لا يعيرون السلطة أي اهتمام، ولا تحظى بتقدير يُذكر من الإسرائيليين، ومع ذلك هناك استمرار في ملف التنسيق، وهو تنسيق من جانب واحد؛ لأن الإسرائيليين يريدون استخدامنا، ولا يعتبرونا شركاء في تسوية، أو سلام، أو حتى في اتفاقية أوسلو.
هل تملك إسرائيل أوراق ضغط على السلطة ورموزها؟
بكل تأكيد فهذا احتلال، والاحتلال يعمل على مدى سنوات طويلة من أجل تدجين الفلسطينيين، اليوم عندما نرى في شمال الضفة الغربية سيارات الجيش الإسرائيلي تجوب الشوارع، حتى يشعروا الناس أن هذا شيء طبيعي ويعتاد الناس هذه الصورة المشينة.
وعلى الجانب الآخر هناك عملية تدجين من خلال فرض عملية التعايش، عندما يقول الإسرائيليون إنهم لن يخرجوا قبل نهاية العام من المخيمات أو من شمال الضفة الغربية، نجد بعض الناس تتعامل مع الأمر بمنتهى الرضا.
مع الأسف الشديد بعض المناطق تخوض صراع ومواجهات مع الاحتلال بشكل مباشر، في حين بعض المناطق الأخرى تعيش حياتها بالطريقة العادية، بمعنى أصبحت كل مدينة وكل محافظة تدافع عن نفسها بنفسها بعيدا عن ترابطها مع الآخرين، سواء كان ذلك على امتداد ساحة الوطن في الضفة الغربية بأكلمها.
ما طبيعة أوراق الضغط التي تملكها إسرائيل على السلطة؟
أولا تملك قضية المعابر، ثانيا تملك قضية المقاصة واحتجاز الأموال وهي إحدى نتائج أوسلو، وتمتلك قضية السجون والاعتقالات، وتمتلك منع السفر لهؤلاء للناس، وتمتلك أيضا تلميع البعض في هذا الشأن، وتمتلك قوات على الأرض، وعندما تسأل الفلسطيني مَن يوجد في المخيمات الآن يقول البعض: "إنه الجيش"، وهو وسيلة ضغط كبيرة على الفلسطينيين.
هناك محاولة إفقار للفلسطيني، هذا الإفقار يأتي عن طريقين: منع العمال من التوجه إلى أعمالهم، والموظفون لا يستطيعون أخذ رواتبهم كاملة، نتيجة تجميد أموال المقاصة.
نرى أيضا حملات منظمة ضد البنوك الفلسطينية، أو القطاع المصرفي الفلسطيني بشكل عام، وكلها عمليات إضعاف متعمدة وممنهجة من قِبل الإسرائيليين حتى تبقى السلطة ضعيفة، وتستمر في الالتزامات التي لا تلتزم بها إسرائيل بأي صورة من الصور.
هل السلطة الفلسطينية مُخترقة من إسرائيل، وهل يمكن القول إن الاحتلال يملك أوراق فساد أو ابتزاز ما بحق بعض رموز السلطة؟
بالطبع فالاحتلال في عمل دائم، وهذه الأمور كانت موجودة سابقا، وستبقى موجودة، لأن كل الدول المحتلة تعمل على إسقاط الآخرين ليعيشوا تحت الاحتلال.
وأعتقد أن الأمر يتم عبر تخويف، وتهديد، وابتزاز للكثيرين سواء كان عبر بطاقات (v.i.p) أو عبر التصاريح والمنافع الاقتصادية، وما شابه، ويتم استخدام الابتزاز بصورة أو بأخرى في التعامل مع بعض رموز هذه السلطة.
كيف ترى شعبية ودور الرئيس محمود عباس في الوقت الراهن؟
قلت إن السلطة منذ البداية اتخذت قرارا بعدم المشاركة في الحرب، وكأن الحرب تجري في عالم آخر، وبالتالي هي لم تكن شريكة لأسباب كثيرة، هذا الأمر جعل السلطة تعزل نفسها بنفسها، بالإضافة إلى صعود المقاومة، ووقوف الحاضنة الشعبية وراء المقاومة أضعف السلطة بشكل كبير.
السلطة اليوم تعيش أزمة كبيرة وكأنها مغيبة عن الواقع، وأيضا الفصائل نفسها تعيش أزمة؛ لأن الدور الإغاثي يفترض أن تقوم به السلطة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين، والفصائل الفلسطينية، لكن يبدو أن هؤلاء تخلوا عن دورهم، وكأنهم في عالم، والناس في عالم آخر.
عندما كان هناك إضراب مؤخرا، الذي تبنى الموضوع بالأساس هم المحامون، وبالتالي النقابات المهنية أصبحت تأخذ دور الفصائل نتيجة تنازل الأخيرة، وبمعنى آخر تخلي الفصائل عن دورها الحقيقي في المواجهة التي تجري بين الشعب الفلسطيني وبين الإسرائيليين على كل الصعد.
لماذا فشلت كل محاولات المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية خلال المراحل السابقة؟ ومَن المسؤول عن ذلك؟
النخب السياسية الفلسطينية ما زالت تعيش صراعاتها الداخلية، وتعيش أحلامها وأوهامها، ومصالحها، لذا عندما ذهبوا إلى كل عواصم العالم وكان آخرها الصين، وروسيا، والقاهرة.. تجدهم يتفقون ثم يعودون إلى كرتهم الأولى.
ما زال البعض منهم ليس لديه رغبة في إنهاء الانقسام، وليس لديه قرار، بالإضافة إلى المحيط الإقليمي، فهناك أيدي وأرجل كثيرة في الساحة الفلسطينية تمنع ذلك.
ومن ناحية أخرى كلٌ يريد التشبث بموقفه، على اعتبار أن موقفه هو الموقف الصحيح. المقاوم يقول ذلك، والمفاوض يقول ذلك.. والفصائل الفلسطينية فشلت في تشكيل كتلة مانعة تمنع الانقسام، أو كتلة جامعة تجمع المنقسمين من أجل إنهاء حالة الانقسام الداخلي.
واليوم نحن نتعرض لحرب وجودية، وبالتالي مطلوب التوحد من كل الفلسطينيين بكل هيئاتهم، وفئاتهم، وتوجهاتهم على اعتبار أن الاستهداف لهم جميعا، ولا أحد يمتلك حصانة ضد الاستهداف من قِبل الإسرائيليين.
لذا، يجب أن يوحد شعبنا الفلسطيني، لأن هذا الدم الذي أريق في غزة، وتلك الضحايا، وهذا الدمار الكبير الذي يحصل في غزة، أو هنا في الضفة الغربية لم يستطع أن يوحد هؤلاء أو على الأقل أن تخرج أصوات حقيقية تقول إنها مع تشكيل هيئة أو حكومة فصائلية وطنية، وإنهاء خلافاتهم بصورة أو بأخرى، وما زال كل منهم يحاول أن يدير الصراع بالطريقة التي تخدم مصالحه، ويريد أن يرمي الكرة في ملعب الآخرين.
أعتقد أن هذا الأمر نتاج عدم وجود رغبة، أو عدم وجود قرار، أو إرادة سياسية بهذا الشأن، فالكل يريد أن يحافظ على ما حصل عليه من مكاسب نتاج هذا الانقسام.
ما مستوى التماسك الشعبي في غزة على ضوء الأحداث والمظاهرات التي شهدها القطاع سابقا؟
أنا كفلسطيني، ونائب في المجلس التشريعي، أعتقد أن الناس تمتلك حرية الرأي والتعبير والتظاهر، وقول ما يشاؤون، وتحديدا عند ما يكونون في قطاع غزة؛ لأنهم هم أصحاب الجرح، ويعيشون الدمار.. وقد أوصلوا رسالة واضحة أن حرب الإبادة ليست ضد المقاومة ولا ضد حماس فقط، بل تستهدف كل الشعب الفلسطيني.
لكن الذي لم أستطع أن أفهمه أن تخرج مسيرة أو تجمع من الناس في رام الله تهتف بشعارات تشعرنا بالعار؛ فكيف تقول: "حماس برة برة، وحماس إرهابية"، وتطالب بنزع سلاح المقاومة، ويطالبون أيضا بتهجيرهم.
هؤلاء (حماس) هم مَن صنعوا هذا العز والكرامة، وصمدوا بشكل بطولي لأكثر سنة ونصف في وجه أعتى قوة في الشرق الأوسط شريكة مع أكبر قوة في العالم أمريكا وغيرها، أعتقد أن هؤلاء يجب أن يُكرموا لأنه لا توجد حروب بدون تضحيات كبيرة.
نفهم الألم، ونتفهم الجرح، لكن أن تصدر هذه الشعارات هنا في رام الله فهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا، وشعبيا مرفوض؛ لأن الشعب الفلسطيني ما زال يتغنى بـ 7 أكتوبر، بالرغم من ملاحظات البعض هنا وهناك، لكن عندما نقول سحب سلاح المقاومة، فإن السلاح الفلسطيني كان دائما شرف للفلسطيني، وتمسك به سنوات طويلة، ولم أر فلسطينيا واحدا يتنازل لا عن شرفه ولا عن سلاحه.
هؤلاء القادة الكبار الذين قدّموا أرواحهم هم وأبناءهم وعائلاتهم كلهم، وكل مَن في قطاع غزة قدّم الكثير خلال حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وبالتالي صرخاتهم، وألمهم مفهوم، لكن أن يكون هناك صدى لهذا الصوت هنا في رام الله فهذا أمر غير مفهوم ومُدان.
مَن يقف خلف محاولات الفتنة في غزة؟
إنها أصابع الإسرائيليين، نتنياهو فشل فشلا ذريعا طوال سنة ونصف في حرب استخدم فيها كل وسائل التكنولوجيا، ووسائل حرب الإبادة، ولم يحقق أيا من أهدافه التي تحدث عنها، بدءا بالحديث عن تحرير الأسرى، وإنهاء حكم حماس عسكريا وإداريا، وقد فشل في ذلك، والآن يستخدم الأدوات الجديدة التي كان يستخدمها دائما، وهي التركيز على الانقسام الداخلي، فقد حاول خلال سنوات طويلة أن يقسم الشعب الفلسطيني، لكن الشعب الفلسطيني كان دائما يتوحد عندما يواجه هذا الاحتلال.
واليوم أعتقد أن أصابع إسرائيل موجودة، أصابع من أبناء جلدتنا أيضا موجودة للأسف الشديد، وبالتالي هم يحاولون فرض فكرة أن المقاومة فشلت، وتحميل المقاومة مسؤولية هذا الدمار، في حين أن كل العالم يدرك أن هذا الدمار مسؤولية الإسرائيليين والأمريكان.
وحتى لو خرجت حماس من غزة أو استسلمت حماس.. فإن الإسرائيلي سيكمل مشروعه الواضح، وهو مشروع التهجير، وإعادة الاحتلال، وهو ما يتوافق مع رؤية ترامب التي تحدث فيها عن "ريفيرا غزة".
لكن هذا لا يؤثر كثيرا على مجريات الأحداث، لأن الناس ليس لها خيار في غزة إلا أن تصمد وتنتصر، وهي منتصرة، فمن صمد 17 شهرا أو سنة ونصف في وجه هذا العدوان سيستمر في الصمود؛ لأنه ليس له خيار آخر سوى أن يبقى، وأن يبقى الوطن، وأن تبقى غزة.
بالنسبة لي: التاريخ الفلسطيني الحديث بدأ في 7 أكتوبر، وهؤلاء صنعوا معجزة بكل المقاييس لم يكن يتوقعها أحد، وحلم تم تحقيقه على الأقل في الأيام الأولى من هذه الحرب، وهذا ما نعيشه سواء كان في الضفة الغربية أو في غزة أو في الشتات الفلسطيني الذي ما زال يؤمن بأنه ليس لدينا خيار سوى أن نصمد ونقاوم.
بماذا تقصد بـ "أصابع أبناء جلدتنا" التي ذكرت؟
أقصد نحن الفلسطينيين؛ فجزء منا يريد أن تنتهي المقاومة من أجل العودة إلى قطاع غزة، لكن المستفيد الأول من ذلك هم الإسرائيليين بالدرجة الأولى.
وأعتقد أن الأمر في النهاية سينتهي بالحكمة والعقل، فما من بيت في غزة إلا وقدّم ضحايا وتضحيات من أجل هذه الحرب، ومَن يقدم الدم يحق له الكلام، أما استثمار ما جرى على حساب مَن قدّم الدم فهذا أمر مرفوض ومعيب جدا.
كيف تقيم دور الإمارات في دعم القضية الفلسطينية؟
لا أود الحديث عن الإمارات على وجه الخصوص، فأنا أشعر بالخذلان من عالمنا العربي الرسمي بشكل كامل؛ فهؤلاء عقدوا أول قمة بعد 35 يوما من الحرب، واتخذوا عددا من القرارات (12 قرارا تقريبا)، ثم عادوا إلى قمة أخرى واتخذوا ثلاث قرارات أخرى زيادة عن القرارات سابقة، ومع الأسف لم يطبق منها شيئا.
الجانب الإسرائيلي كان يدرك منذ اللحظة الأولى أن هذه الحرب لن يشارك فيها أي عربي مع الفلسطينيين باستثناء اللبنانيين واليمنيين، أما بقية العرب وقفوا موقف المتفرج.
وعندما نرى حجم التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية التي تجري في أمريكا، وغيرها من دول العالم.. لم نرَ مثلها في عالمنا العربي، الذي كان ينتفض في الستينات، والسبعينات، والثمانينات في انتفاضات كانت تمتلئ بها الشوارع العربية من أجل فلسطين.
يقولون إنهم خاضوا حروبا ثلاثة أو أربعة ضد إسرائيل من أجل القضية الفلسطينية، واليوم أشعر بالأسى والأسف نتيجة تركنا وحدنا في هذه المعركة.
لو أرادوا الوقوف معنا فإمكانيات وقدرات الأمة العربية قدرات كبيرة جدا، فكان بإمكانهم الضغط على الأمريكيين من أجل وقف الحرب منذ زمن لو استخدموها، أو استخدموا على سبيل المثال طرد السفراء الإسرائيليين، ووقف عمليات التطبيع، وغير ذلك.
كان بإمكان الأمة أن تصنع شيئا على المستوى الإغاثي، فكثير قدموا لنا مساعدات عينية، لكنها ليست المطلوبة، فأنا لا أريد كرتونة طعام، بل أريد أن تقف معي في المحافل الدولية وتضغط على الإسرائيليين لوقف هذه المجازر التي لم يحدث مثلها في العصر الحديث، فلم نسمع أو نقرأ في كتب التاريخ عن حرب إبادة استمرت سنة ونصف على شعب تعداده مليونين ونصف المليون على مساحة جغرافية صغيرة، على مرأى ومسمع من العالم.
أشعر مثل كثير من الفلسطينيين بالأسى؛ فالعالم العربي تخلى عنا بشكل مخزٍ في الوقت الذي كنّا بحاجة ماسة له، فنحن لم نقصر يوما في علاقتنا مع أي بلد عربي رغم ضعف وقلة إمكانياتنا.
كنت من الجيل الذي عاصر الفصول الأخيرة من الثورة الجزائرية، وكنّا في المدارس في حالة فقر مدقع، وكان على كل طالب أن يدفع يوم السبت من كل أسبوع قرشا أو تعريفة لصالح صندوق لدعم الثورة الجزائرية، علمونا كيف ننشد للجزائر، لكن اليوم لا أحد يُعلّم أولاده مثل ذلك، وربما يكون ذلك نتيجة عدم رغبة الأنظمة، وضعف الأحزاب، والقوى السياسية العربية، ولم تعد تسمع اسم فلسطين إلا في انتخابات الاتحادات الطلابية في بعض البلدان العربية، وكأن اسم فلسطين صار "شماعة" أو سُلما للوصول للحكم. مَن يستخدم اسم فلسطين عليه أن يكون وفيّا لفلسطين ونضالها.
أعتب على كثير من الأحزاب والقوى العربية التي لم تستطع أن تتفاعل مع الأحداث، باستثناء البعض كإخواننا في اليمن الذين نكن لهم كل الاحترام، الذين يخرجون كل جمعة في مظاهرات مليونية، بالإضافة إلى الأردن أيضا، فمثل هذه الفاعليات تشعرنا بالانتماء.
وأقول بشكل واضح: نحن نشعر بالانتماء لهذه الأمة العربية، ونؤمن بأن الحضن العربي مهما كان باردا فهو أدفأ من الأحضان الإسرائيلية والأمريكية، لكن مع ذلك نشعر أحيانا بحالة من الإحباط عندما أرى طيارا أمريكيا يحرق نفسه من أجل فلسطين، عندما نرى جامعات النخبة في أمريكا تخرج وتتظاهر، في مقابل صمت طلابنا.
قضيتنا قد عمّت العالم، وعادت إلى الصدارة في كل مكان، والمطلوب أن نعيش هذه التجربة في عالمنا العربي، على الأقل أن يقوم بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في القمم العربية أو الإسلامية.