لجريدة عمان:
2025-04-25@14:15:36 GMT

وحدة الدين وتعـدد الاجتهاد

تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT

ربـما نظر إلى الدين، على نطاقات واسعة، بوصفه أكثر الظواهر التي تصنع وحدة المجتمع؛ مثل الدولة أو أكثر منها أحيانا. ولذلك قلما أدرك في جدلياته العميقة التي تولـد داخل معتنقيه ديناميـات غير توحيدية. ولقد يـنظر إلى الأديان التوحيدية/ الكتابية الثلاثة بما هي أعلى تجليات فعل التوحيد في نطاق الجماعات والمجتمعات التي تعتنقها، على اعتبار أنه فعل يستند إلى المعتـقد التأسيسي لتلك الأديان (مبدأ التوحيد)؛ وهو معتقد لا يفصح عن نفسه في العلاقة العمودية بين المؤمنين والله فحسب، بل في علاقة أفقية تـلحم اجتماع أولئك المؤمنين أيضا.

غير أن مشكلة مثـل هذا الاعتقاد تكمن في أنه يخلط بين صعيدين من الدين: صعيد النصوص والتعاليم وتجارب الصدر الأول للديانات وجماعاتها المؤسسة، من جهة، وصعيد الدين في سياقه التاريخي، أي بعد أن يدخل في التاريخ ويخضع معتنقوه لأحكام ذلك التاريخ... من جهة ثانية. وما من شك في أن اختزال الدين في صعيده الأول، حصرا، يقود - حكما - إلى الانتباه إلى مفعوله التوحيدي فقط من دون سواه. ولكننا نعلم، على التحقيق، أنه ما من اجتماع ديني في التاريخ ظل موحـدا مع أن تعاليم الأديان تدعو إلى ذلك وتحث عليه.

ما من أحد، طبعا، يملك أن يجحد الطابع التوحيدي للأديان - خاصة الأديان التوحيدية - والآثار العميقة التي أحدثتها في الجماعات التي دانت بها، وتحديدا لجهة توحيدها الديني ثم السياسي. وسواء كان الدين هو الذي أنجب دولة - كما في حالة الإسلام - أو صادف وجودها فاعتـنقـته وحـولته إلى ديـن رسمي - كما في حالة المسيحية في علاقتها بالإمبراطورية الرومانية - فإن الدين والدولة معا تضافرا فعـلا وتأثيرا فكانا لوحدة الجماعات الإنسانية بمثابة الأسمنت اللاحم. مع ذلك، ازدحم تاريخ كل دين من هذه الأديان، ومن غيرها، بالانقسامات والانشقاقات التي تولدت منها بنية مذهبية فسيفسائية كرست معها التعدديـة واقعة موضوعية جنبا إلى جنب مع الوحدة: وحدة الاعتقاد والإيمان بالديـن.

من البين، إذن، أن الأديان لا تشذ عن قانون تلك الجدلية العاملة في تاريخ الإنسانية: جدلية الوحدة والتعدديـة؛ الجدلية التي تظل تحافظ على التوازن داخل الظواهر التي تخضع لأحكامها، فلا يقودها تناقض الديناميتين إلى الانفجار. بمعنى أدق، ليس في وسع جماعة دينية أن تمنع وحدتها الاعتقادية أو الإيمانية من أن تعـبر عن تعدد تـمثـلاتها لتعاليم الدين وتعدد اجتهاداتها، كما لا يسع هذه التعدديـة أن تتفاقم إلى الحد الذي تودي فيه بوحدة الدين. وهذه واحدة من أكبر الحقائق التي تطلعنا عليها التجارب التاريخية للأديان التوحيدية الكتابية ولغيرها من الأديان الأخرى؛ إذ جرى على الأديان من مفعول هاتين الديناميـتين ما جرى على ظواهر أخرى جامعة مثل الدول والثقافات واللغات...إلخ، فما كان لدينامية التعدديـة فيها أن تطيح ببناء الوحدة الذي عليه قوامها.

ما من دين، إذن، لم يشهد على تعـدد فيه من غير أن يفقد وحدته التي بها يكون دينا ذا رسالة في الناس. والغالب على ذلك التـعدد الديني أن يأخذ شكـل انتظام فكري وجماعي في مقالات ومذاهب. حدث ذلك في اليهودية فظهر فيها الصدوقـيون والفريسيون فرقتين متمايزتين خرجت من أحشائهما فرق أخرى؛ وحدث في المسيحية فظهر فيها الأرثوذكس والكاثوليك والآريوسيون والنساطرة واليعاقبة والأوطيخيـون والأپوليناريوسيون والپروتستانت...؛ ثم حدث في الإسلام فنشأ منه - وفيه - السـنة والشيعة (الاثنا عشرية) والمحكمة والمرجئة والزيـديـة والإسماعيلية والإباضية والعلويـون...إلخ. لكن أيا من هذه الأديان، وإن ضرب في وحدة جماعته الدينية، لم يعدم إمكانات ومساحات فيه لاستيعاب ذلك التعدد عبر جوامع ومشتركات عـقديـة تقع خارج أي خلاف أو منازعة، بل بتحويل ذلك التعدد من حالة شـقاق ونزيف إلى حالة حوار وغنى خصب. وإلى ذلك، فإن أيـا من معتنقي هذه المذاهب لم يـع نفسه بوصفه خارج ملته، بل ظل متمسـكا بها إلى حدود الزعـم بأنه يمثـلها أصدق التمثيل.

من الناس من ينظر إلى هذه التعدديـة داخل الدين الواحد وكأنها شذوذ عن طبائع الأمور، فتراه يشدد على وجوب محو المذاهب والعودة إلى «السلف»، أي إلى الصدر الأول، قبل أن يدب النزاع والشقاق. وهذا ديـدن كل دعـوة إلى الإصلاح الديني وكـل نزعة سلفية تفترض أن «انحرافا» ما حصل في مسار الدين وأهله يحتاج إلى تصويب اعوجاجه. والحق أن لأصحاب مثل هذه الدعوات تمثـلات لا تاريخية للدين؛ إذ إنهم يحسبون الدين محض نصوص وتعاليم موجودة «بمعزل» عمـن يتمثـلونها ويعتنقونها. وهؤلاء الذين يتمثلونها متفاوتون في المدارك، ومتباينون في الزمان والمكان، ومختلفون في المصالح...، وبكلمة، منخرطون في التاريخ مكـيفون إيمانهم الديني مع أحكام ذلك التاريخ. هذا يعني أن المذاهب ليست برانية عن الدين، أي دين، بل هي جزء من نسيجه حتى لا نقول إن التـديـن كان يعبر عن نفسه دائما - وفي الأديان كافـة - من خلال التمذهب. لا غرابة في أن تنتهي دعوات الإصلاح والعودة إلى السلف بأن تصبح، هي نفسها، مذاهب مثلما حدث لدعوة مارتن لوثر التي انتهت إلى الصيرورة مذهبا مسيحيـا جديدا هو المذهب الپروتستانتـي.

ليس في هذا الذي نقوله دعوة منا إلى المذهبية والتمذهـب أو شرعنة لها، ولا ينطوي على مديح مجاني للتعدديـة الدينية، وإنما هو محاولة لرصد واقع تاريخي ومحاولة فهمه. وبيان ذلك أن المذاهب، قبل أن تتحول إلى مؤسسات، بدأت بمقالات؛ أي بآراء كلامية وفقهية في الدين حـمل عليها الاجتهاد في فهم تعاليمه، فكان أن قاد الاجتهاد إلى رأي تعـزز رصيده بجمهور مـن أخذ به من الأتباع واعتنقه. بعبارة أخرى؛ ليست المذاهب، في ابتداء أمرها، سوى آراء حمل عليها اجتهاد المجتهدين. ولأن الاجتهاد ليس واحدا بل متعـدد بتعـدد المجتهدين، تعددت الفرق والمذاهب في كـل دين، بالتـبـعة، وتجسـد الدين في سياقها. هكذا تشكلت معادلة في الأديان جميعـها تقريبا: وحـدة الدين وتعـدد الاجتهاد.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان جسرٌ للسلام ومصدرٌ لبناء الحضارات

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الأديان السماوية جاءت لترسيخ المبادئ الإنسانية، وتثبيت القيم الأخلاقية العليا التي تحفظ كرامة الإنسان وتصون المجتمعات من عوامل التشتت والانهيار، مشددًا على أن الفهم الصحيح للدين هو ما يربط الإنسان بغيره على أساس من الرحمة والتعاون، لا على التنازع والإقصاء، موضحًا أن المشترك الإنساني بين الأديان يمثل مرتكزًا رئيسًا في تحقيق السلم الاجتماعي، وقاعدة صلبة يمكن البناء عليها لتعزيز التفاهم بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة.

 

جاء ذلك خلال كلمته، في الندوة التي نظمتها مديرية التربية والتعليم بمحافظة الشرقية، بالتعاون مع دار الإفتاء المصرية، ضمن سلسلة اللقاءات الفكرية والتوعوية التي تهدف إلى ترسيخ القيم الدينية والإنسانية في نفوس طلاب المدارس.

وأضاف المفتي، أن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى هذه القيم الجامعة التي تعلو فوق الانتماءات الضيقة، وتسمو على النزعات الفردية، والتي إن غابت ظهرت الفوضى وتفاقمت الأزمات، مبينًا أن الإسلام حين خاطب الإنسان خاطبه من حيث هو إنسان، لا من حيث جنسه أو لونه أو لغته أو عقيدته، وهو ما يدل على عظمة الرسالة وسمو الهدف.

 

وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن الأديان السماوية قد اتفقت جميعها في أصول العقيدة والشريعة والأخلاق، فجميع الرسل دعوا إلى التوحيد، وحثوا على مكارم الأخلاق، ونبذوا الفواحش والآثام، مؤكدًا أن هذه المشتركات ليست مجرد نظريات بل هي واقع يجب أن يُترجم إلى سلوك يومي يعزز من وحدة المجتمعات ويرتقي بالإنسانية جمعاء، موضحًا أن التحديات الفكرية والأخلاقية التي تمر بها المجتمعات المعاصرة تتطلب العودة الصادقة إلى هذه القيم النبيلة، مؤكدًا أن الدين لا يتحمل وزر من يسيء فهمه أو يحرّفه عن مقاصده السامية، وأن الرسالة الحقيقية للأديان قائمة على الرحمة والعدل وإعلاء الكرامة الإنسانية.

 

من جانبها، أكدت الدكتورة، إيمان محمد حسن، رئيس الإدارة المركزية للأنشطة الطلابية بوزارة التربية والتعليم، أن هذه اللقاءات تسهم في بناء الشخصية المتزنة للطلاب، وغرس القيم العليا في نفوسهم، مشيدة بما يقدمه فضيلة المفتي من خطاب ديني رشيد، يحترم العقل ويهذب الوجدان، كما عبّر الأستاذ عبد الرحمن عبد اللطيف، وكيل مديرية التربية والتعليم بمحافظة الشرقية، عن شكره وتقديره لزيارة فضيلة المفتي، موضحًا أن الندوة تمثل إضافة نوعية في مسار العملية التعليمية والتربوية، وتعزز من جهود بناء وعي طلابي مستنير، كما حضر اللقاء  الشيخ، السيد الجنيدي، رئيس الإدارة المركزية لمنطقة الشرقية الأزهرية، والدكتور خالد محمد عطية، مدير عام الإرشاد الديني بمديرية أوقاف الشرقية.

وتأتي هذه الندوة في إطار استراتيجية وطنية شاملة تتبناها دار الإفتاء المصرية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، بهدف نشر الوعي الديني الصحيح، وتحصين الطلاب من الانحرافات الفكرية، وتعزيز ثقافة التعايش والسلام في نفوس النشء.

مقالات مشابهة

  • أحمد سعد الدين: الأغنية والسينما جسّدتا بطولات الحروب.. وعلينا توثيق التاريخ للأجيال القادمة
  • هاني رمزي: «لام شمسية» من أعظم الأعمال الدرامية التي قدمت على مدار التاريخ
  • مفتي الجمهورية: القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان جسرٌ للسلام ومصدرٌ لبناء الحضارات
  • مفتي الجمهورية: القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان مصدر لبناء الحضارات
  • نيجيرفان بارزاني: تعدد الأديان نموذج حي للتعايش في اقليم كوردستان
  • إسطنبول: المدينة التي حملت أكثر من 135 اسمًا عبر التاريخ
  • الكاردينال ساكو يرفض استغلال الأديان لغايات سياسية واقتصادية
  • بارزاني يؤكد على احترام الأديان وتعزيز التعايش والاخوة في اقليم كوردستان
  • أحمد موسى: لن تجد تجمع الأديان الثلاثة إلا على أرض مصر في سانت كاترين
  • علي جمعة: الأمة في حاجة ماسة إلى تكثيف جهود التقريب بين المذاهب