ربـما نظر إلى الدين، على نطاقات واسعة، بوصفه أكثر الظواهر التي تصنع وحدة المجتمع؛ مثل الدولة أو أكثر منها أحيانا. ولذلك قلما أدرك في جدلياته العميقة التي تولـد داخل معتنقيه ديناميـات غير توحيدية. ولقد يـنظر إلى الأديان التوحيدية/ الكتابية الثلاثة بما هي أعلى تجليات فعل التوحيد في نطاق الجماعات والمجتمعات التي تعتنقها، على اعتبار أنه فعل يستند إلى المعتـقد التأسيسي لتلك الأديان (مبدأ التوحيد)؛ وهو معتقد لا يفصح عن نفسه في العلاقة العمودية بين المؤمنين والله فحسب، بل في علاقة أفقية تـلحم اجتماع أولئك المؤمنين أيضا.
ما من أحد، طبعا، يملك أن يجحد الطابع التوحيدي للأديان - خاصة الأديان التوحيدية - والآثار العميقة التي أحدثتها في الجماعات التي دانت بها، وتحديدا لجهة توحيدها الديني ثم السياسي. وسواء كان الدين هو الذي أنجب دولة - كما في حالة الإسلام - أو صادف وجودها فاعتـنقـته وحـولته إلى ديـن رسمي - كما في حالة المسيحية في علاقتها بالإمبراطورية الرومانية - فإن الدين والدولة معا تضافرا فعـلا وتأثيرا فكانا لوحدة الجماعات الإنسانية بمثابة الأسمنت اللاحم. مع ذلك، ازدحم تاريخ كل دين من هذه الأديان، ومن غيرها، بالانقسامات والانشقاقات التي تولدت منها بنية مذهبية فسيفسائية كرست معها التعدديـة واقعة موضوعية جنبا إلى جنب مع الوحدة: وحدة الاعتقاد والإيمان بالديـن.
من البين، إذن، أن الأديان لا تشذ عن قانون تلك الجدلية العاملة في تاريخ الإنسانية: جدلية الوحدة والتعدديـة؛ الجدلية التي تظل تحافظ على التوازن داخل الظواهر التي تخضع لأحكامها، فلا يقودها تناقض الديناميتين إلى الانفجار. بمعنى أدق، ليس في وسع جماعة دينية أن تمنع وحدتها الاعتقادية أو الإيمانية من أن تعـبر عن تعدد تـمثـلاتها لتعاليم الدين وتعدد اجتهاداتها، كما لا يسع هذه التعدديـة أن تتفاقم إلى الحد الذي تودي فيه بوحدة الدين. وهذه واحدة من أكبر الحقائق التي تطلعنا عليها التجارب التاريخية للأديان التوحيدية الكتابية ولغيرها من الأديان الأخرى؛ إذ جرى على الأديان من مفعول هاتين الديناميـتين ما جرى على ظواهر أخرى جامعة مثل الدول والثقافات واللغات...إلخ، فما كان لدينامية التعدديـة فيها أن تطيح ببناء الوحدة الذي عليه قوامها.
ما من دين، إذن، لم يشهد على تعـدد فيه من غير أن يفقد وحدته التي بها يكون دينا ذا رسالة في الناس. والغالب على ذلك التـعدد الديني أن يأخذ شكـل انتظام فكري وجماعي في مقالات ومذاهب. حدث ذلك في اليهودية فظهر فيها الصدوقـيون والفريسيون فرقتين متمايزتين خرجت من أحشائهما فرق أخرى؛ وحدث في المسيحية فظهر فيها الأرثوذكس والكاثوليك والآريوسيون والنساطرة واليعاقبة والأوطيخيـون والأپوليناريوسيون والپروتستانت...؛ ثم حدث في الإسلام فنشأ منه - وفيه - السـنة والشيعة (الاثنا عشرية) والمحكمة والمرجئة والزيـديـة والإسماعيلية والإباضية والعلويـون...إلخ. لكن أيا من هذه الأديان، وإن ضرب في وحدة جماعته الدينية، لم يعدم إمكانات ومساحات فيه لاستيعاب ذلك التعدد عبر جوامع ومشتركات عـقديـة تقع خارج أي خلاف أو منازعة، بل بتحويل ذلك التعدد من حالة شـقاق ونزيف إلى حالة حوار وغنى خصب. وإلى ذلك، فإن أيـا من معتنقي هذه المذاهب لم يـع نفسه بوصفه خارج ملته، بل ظل متمسـكا بها إلى حدود الزعـم بأنه يمثـلها أصدق التمثيل.
من الناس من ينظر إلى هذه التعدديـة داخل الدين الواحد وكأنها شذوذ عن طبائع الأمور، فتراه يشدد على وجوب محو المذاهب والعودة إلى «السلف»، أي إلى الصدر الأول، قبل أن يدب النزاع والشقاق. وهذا ديـدن كل دعـوة إلى الإصلاح الديني وكـل نزعة سلفية تفترض أن «انحرافا» ما حصل في مسار الدين وأهله يحتاج إلى تصويب اعوجاجه. والحق أن لأصحاب مثل هذه الدعوات تمثـلات لا تاريخية للدين؛ إذ إنهم يحسبون الدين محض نصوص وتعاليم موجودة «بمعزل» عمـن يتمثـلونها ويعتنقونها. وهؤلاء الذين يتمثلونها متفاوتون في المدارك، ومتباينون في الزمان والمكان، ومختلفون في المصالح...، وبكلمة، منخرطون في التاريخ مكـيفون إيمانهم الديني مع أحكام ذلك التاريخ. هذا يعني أن المذاهب ليست برانية عن الدين، أي دين، بل هي جزء من نسيجه حتى لا نقول إن التـديـن كان يعبر عن نفسه دائما - وفي الأديان كافـة - من خلال التمذهب. لا غرابة في أن تنتهي دعوات الإصلاح والعودة إلى السلف بأن تصبح، هي نفسها، مذاهب مثلما حدث لدعوة مارتن لوثر التي انتهت إلى الصيرورة مذهبا مسيحيـا جديدا هو المذهب الپروتستانتـي.
ليس في هذا الذي نقوله دعوة منا إلى المذهبية والتمذهـب أو شرعنة لها، ولا ينطوي على مديح مجاني للتعدديـة الدينية، وإنما هو محاولة لرصد واقع تاريخي ومحاولة فهمه. وبيان ذلك أن المذاهب، قبل أن تتحول إلى مؤسسات، بدأت بمقالات؛ أي بآراء كلامية وفقهية في الدين حـمل عليها الاجتهاد في فهم تعاليمه، فكان أن قاد الاجتهاد إلى رأي تعـزز رصيده بجمهور مـن أخذ به من الأتباع واعتنقه. بعبارة أخرى؛ ليست المذاهب، في ابتداء أمرها، سوى آراء حمل عليها اجتهاد المجتهدين. ولأن الاجتهاد ليس واحدا بل متعـدد بتعـدد المجتهدين، تعددت الفرق والمذاهب في كـل دين، بالتـبـعة، وتجسـد الدين في سياقها. هكذا تشكلت معادلة في الأديان جميعـها تقريبا: وحـدة الدين وتعـدد الاجتهاد.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الإمارات وقطر.. علاقات راسخة ضاربة في أعماق التاريخ
إعداد: راشد النعيمي
تعود العلاقات الإماراتية - القطرية، إلى سنوات بعيدة ضاربة في أعماق التاريخ، انطلاقاً من وحدة اللسان والدين والدم والمصير والجوار الجغرافي والتمازج الاجتماعي والموروث الثقافي، وفي يوم 18 ديسمبر من كل عام، تشارك دولة الإمارات، دولة قطر الشقيقة، احتفالاتها بيومها الوطني، وذلك تجسيداً للروابط العميقة والمتينة التي تجمع بينهما، وبين كل دول الخليج العربي، كونها قائمة على أسس راسخة من الأخوة والتاريخ المشترك والثقافة والعادات والتقاليد المتشابهة.
تقوم العلاقات بين الإمارات وقطر على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، والمشاركة والتعاون والتنسيق لخدمة مصالح البلدين والشعبين الشقيقين والمنطقة الخليجية والأمتين العربية والإسلامية والعالم.
تؤسس العلاقات الإماراتية القطرية لمستقبل مزدهر انعكس على العديد من القطاعات، وتعكس الحرص المتبادل على تنمية التعاون الثنائي برؤية قيادتها الرشيدة ونهجها الأصيل وسياستها الحكيمة وعزيمتها على تحقيق الطموحات المشتركة نحو مراحل أرحب من التقدم والازدهار لصالح الجميع.
ويحرص البلدان على تبادل وجهات النظر حيال القضايا والمستجدات في المنطقة والعالم، ويتبادلان الزيارات على مستوى القادة وكبار الشخصيات بشكل منتظم، ومن أبرز وأحدث هذه الزيارات قيام الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، في يونيو الماضي، بزيارة أخوية إلى دولة الإمارات، بحث خلالها وأخوه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، العلاقات بين البلدين والسبل الكفيلة بدعمها وتوطيدها، وتعزيز أواصر التعاون لما فيه خير ومصلحة الشعبين الشقيقين، إضافة إلى تعزيز العمل الخليجي المشترك.
كما تشهد العلاقات بين البلدين الشقيقين محطات جديدة من التعاون المثمر، في ظل الزيارات المتبادلة على أرفع المستويات، والتي توجت بزيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وحضور سموه إكسبو الدوحة للبستنة.
تعاون اقتصادي
يعزز التعاون الاقتصادي المتنامي بين البلدين المكاسب الاقتصادية بينهما، كما ينعكس بالإيجاب على التنمية في المنطقة حيث بلغ حجم التجارة الخارجية غير النفطية مع قطر خلال النصف الأول من العام 2024 ما يقارب 21 مليار دولار وبقيمة مقاربة لذات الفترة من العام 2023.
وبلغ حجم التجارة الخارجية غير النفطية للإمارات وقطر خلال العام 2023 ما قيمته 36.7 مليار درهم بنمو نسبته 18.3% مقارنة مع العام 2022، لتكون الإمارات في صدارة الدول العربية والعاشرة عالمياً كأهم شركاء قطر الاستراتيجيين خلال العام 2022.
وحلت قطر في المرتبة الخامسة عالمياً والثانية خليجياً في قائمة أبرز الوجهات لإعادة التصدير من الإمارات وفي المرتبة 17 لشركاء الإمارات في التجارة غير النفطية للعام 2023، فيما ارتفع عدد التراخيص الممنوحة لمواطني الإمارات لممارسة الأنشطة الاقتصادية في قطر عام 2023 بنسبة 11% عن العام 2022 حيث بلغ إجمالي عدد الرخص في نهاية 2023 ما مجموعه 248 رخصة.
كما حلت الإمارات في المرتبة الثامنة في قائمة أبرز شركاء قطر التجاريين عالمياً وبنسبة مساهمة تصل إلى 4% من تجارتها مع العالم خلال 2023 وفي المرتبة الأولى عربياً وخليجياً وتستحوذ على ما نسبته 52% من تجارة قطر مع الدول الخليجية.
وتوجد العديد من الشركات الإماراتية الناجحة التي تستثمر في قطر عبر مختلف القطاعات من أبرزها مجموعة ماجد الفطيم وشركة الإمارات العالمية للألمونيوم وشركة إعمار العقارية وشركة دبي القابضة كما بلغ رصيد الاستثمارات القطرية في الإمارات ما مجموعه 2.1 مليار دولار حتى نهاية العام 2022.
اتفاقيات مشتركة
وقعت كل من الإمارات وقطر اتفاقيات تعاون مشتركة لتعزيز الروابط الاقتصادية بينهما، حيث وقعت «قطر للطاقة» في العام الماضي اتفاقية طويلة الأمد لتوريد المكثفات لصالح مجموعة «اينوك»، الشركة المتخصصة في مجال النفط والغاز بدبي في دولة الإمارات، ووقع الاتفاقية كل من «قطر للطاقة»، بالنيابة عن شركة «قطر للبترول لبيع المنتجات البترولية المحدودة»، وشركة «اينوك للإمداد والتجارة المحدودة»، التابعة لمجموعة «اينوك».
وبموجب الاتفاقية، التي تبلغ مدتها عشر سنوات، يتم تزويد «اينوك» بما يصل إلى 120 مليون برميل من المكثفات اعتباراً من شهر يوليو 2023 وتسمح شروط الاتفاقية للأطراف بزيادة أحجام المكثفات المشمولة في العقد، حيث من المتوقع أن يتم تصدير كميات إضافية من المكثفات من دولة قطر بمجرد بدء الإنتاج من مشروعي توسعة حقل الشمال الشرقي والجنوبي.
كما تم توقيع اتفاقية بشأن تجنب الازدواج الضريبي ومنع التهرب المالي في ما يتعلق بالضرائب على الدخل، وسيتم بموجب الاتفاقية إزالة الازدواج الضريبي ومنع التهرب من الضرائب بين البلدين، بالإضافة إلى دعم معايير الشفافية الضريبية على المستوى الدولي، بما يحقق العدالة الضريبية ويضمن تكافؤ الفرص، وزيادة فرص الاستثمار المتبادل.
تعزيز التكامل
على مدى عدة عقود، تشاركت الدولتان في العديد من المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية، والمشروعات التنموية والمبادرات الإقليمية التي تهدف لتحقيق النمو والاستقرار بالمنطقة، ما شكل رغبة قوية لديهما في تعزيز التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني، والعمل معاً لمواجهة التحديات المشتركة التي تواجه الخليج، مثل الأمن الإقليمي والاقتصاد والتغيرات الاجتماعية.
أما على الصعيد الشعبي، فيشترك مواطنو الدولتين في الاحتفاء بالتراث والتقاليد، وتجمع البلدين روابط ثقافية تعد جزءاً مهماً من الترابط بين شعبيهما، حيث تمتاز بالعُمق والتاريخ الممتد الذي يعكس التقارب بين العادات والتقاليد، ويُعد الجانب الثقافي جسراً يربط بين الشعبين، وتظل الثقافة واحدة من أهم العوامل التي تسهم في بناء الهوية المشتركة وتعزيز الوحدة الاجتماعية، ويجمع الإمارات وقطر تراث ثقافي مشترك.
ومن أبرز أوجه التشابه الثقافي بينهما الإرث البدوي، مثل الشعر النبطي والأدب الشعبي، والفنون التقليدية كالأهازيج والأغاني الشعبية التي تُغنى في مناسبات مثل الأعراس والأعياد الوطنية، تُظهر هذه الفنون مدى التشابه في التاريخ الاجتماعي والثقافي بين البلدين.
كما يشارك كلاهما بشكل متكرر في الفعاليات الثقافية الخليجية والدولية، وتشكل الأنشطة الثقافية المشتركة جزءاً مهماً من تعزيز العلاقات، إذ تُعد الفنون والمسرح من مجالات التعاون الثقافي بين البلدين.
الإمارات تسجل موقفاً تاريخياً
حرص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في 12 مارس 2023، على إعلان دعم دولة الإمارات للشقيقة قطر في استضافة الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي لعام 2026، وأجرى سموه اتصالاً هاتفياً مع الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، وبحثا العلاقات الأخوية ومسارات التعاون المشترك.
كما أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لأخيه الشيخ تميم بن حمد، خلال هذا الاتصال، على دعم الإمارات للشقيقة قطر في استضافة الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، وبناء عليه ستسحب الإمارات ملفها لطلب استضافة الاجتماعات، متمنياً للأشقاء في قطر التوفيق وكل النجاح، وهو موقف تاريخي يعكس عمق العلاقات بين البلدين وحرص قيادتيهما على المصالح المشتركة.
فيما أعرب أمير دولة قطر، عن شكره لأخيه صاحب السمو رئيس الدولة، وخالص تقديره لموقف دولة الإمارات الأخوي تجاه دولة قطر، ودعم ترشحها لاستضافة اجتماعات صندوق النقد الدولي.