لجريدة عمان:
2025-03-06@04:06:59 GMT

مكتبات بيوت غزة.. حكاية الوجع المؤجل

تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT

مكتبات بيوت غزة.. حكاية الوجع المؤجل

ترك الغزيون النازحون من الشمال إلى الجنوب في غزة، كل شيء، البيوت والأرض والشجر، والمكتبات وأخذوا معهم فقط نقودهم إذا وجدت و جوازات السفر والأغراض الشخصية وبعض الملابس والحرامات والفرشات، والذكريات، نزح الآلاف من هؤلاء إلى جنوب غزة بحثا عن فرصة للنجاة من الموت الذي يسقط فوق رؤوسهم دون تمييز، من طيار حاقد يريد أن يمحو غزة كاملة ببشرها وشجرها وحجرها.

في الجنوب الغزي غير الآمن أيضا من قصف الطائرات، تحديدا مدينة رفح، يعيش الآن مليون ونصف مليون شخص في مساحة تتسع فقط لبضعة آلاف، لا شيء معهم سوى خيمة رقيقة لا تتحمل عواصف الشتاء.

ما الذي يشعر به الكاتب الغزي وهو يترك مكتبة ضخمة جمعها بحبات العيون على مدى سنوات؟ هذه المكتبة مرتبطة بذكريات عديدة حلوة، منها زيارات الأدباء لمعارض الكتب في فلسطين والعالم العربي، وشراؤهم الكتب من هناك أو تلقيهم الكتب كهدايا، من أصدقائهم الأدباء، أمسيات توقيع الكتب لشعراء من غزة وفلسطين، إعارة الكتاب لآخرين أصدقاء، والمعارك الحلوة البريئة حول إعادة الكتاب، جهود ترتيب المكتبة والزهو بها أمام الأصحاب.

سيبدو أنه أمر فيه من الرفاهية الكثير ونحن نطلب من الأدباء والفنانين في غزة الذين نزحوا من الشمال أن يكتبوا في حمى الجثث وأنقاض البيوت والبرد عن حنينهم وهواجسهم تجاه مكتباتهم التي أفنوا العمر وهم يجمعونها. هذه شهادات عدد من شعراء وفناني غزة ممن وجدوا فسحة للحديث عن مكتباتهم:

ناصر رباح

رفض الشاعر ناصر رباح مغادرة بيته في مخيم المغازي، وسط غزة وفي الحي الذي يسكنه بالمخيم لم يبق أحد سواه، يكتب لنا ناصر تحت وأصوات القصف قربه لا تمنعه من التفكير في أمر يمكن تأجيله:

(حين بدأت في تكوين المكتبة، اتفقت مع صديقي النجار لنبدأ العمل، كنت فكرت في تصميمها كثيرًا ليكون لها شكل وترتيب مختلف يناسبني، فكرت في ذلك طويلًا، وذات مرة وأنا أصلي خطر لي شكل ما للتصميم، ونفذته تمامًا كما خطر لي في الصلاة، ومن يومها اعتبرتها مكتبة لها نوع من القداسة أو على الأقل لها كثير من الحظوة والاحترام. في جلستي هناك جاورني شباك يطل على مشهد لبساتين الزيتون والنخيل ويمتد حتى الأفق حيث حاورتني العصافير والغربان وحمام الجيران، من المكتبة نفسها كنت أطل على العالم كله، من كتب اورويل الانجليزي وكاواباتا الياباني وماركيز الكولومبي. هناك تشاجرت مع درويش وكنفاني وتقاسمت الشاي مع إبراهيم نصر الله وزكريا محمد وحسين البرغوثي. في الليل الطويل تتسلل من فضاء البساتين فراشات الحقول، يجذبها ضوء المكتبة، تدور وتدور وتقف فراشة على حافة كتاب ما، وكأنها تومئ لي أن أقرأه، لم أكن أخيب ظنها وأتواصل مع تلك الإشارات الخفية للغيب وتسري في روحي رعشة المعرفة، مرت مكتبتي بعدة حروب واجتياحات ونجت مثلي، فكنت أدللها بعد كل حرب بمزيد من الكتب، نعم لم يجرحها القصف مثلي، ولكنه مرة بعد مرة كان يغمرها بغلالة من الحزن والغبار، تمامًا كما غمس روحي في دوامة من القلق والهذيان، المكتبة روح البيت، حارسة الليل، صديقة السهر والعزلة، تبكي الآن بين يدي وأنا أقف أمامها مودعًا، أفكر في الخروج من البيت إلى مكان أكثر أمنًا حيث سأتركها وحدها تحدق بعيونها الدامعة نحو شباك يطل على أفق الدبابات).

مريم قواش

بينما تعبر الشاعرة مريم قواش عن حسرتها على مصير المكتبة وهي تغادر بيتها نحو الجنوب:

(ينادي عليَّ أبي: يلا يا مريم، يلا يا بابا بدنا نمشي!..

: يلا يلا.. هيني جاي

أقف في غرفة المكتبة، أتفرج على الرفوف رفًا رفًا، في كل زاويةٍ كانت حياة، أتأمل الرفوف: موسوعات تاريخية، كتب أدبية، دواوين شعر، روايات، كتب انجليزية، وثقافة عامة، وهنا قلبي! لا يهون عليَّ أن أغادر، لا يهون عليَّ أن أُنتزَع من هنا، أتأمل مكتبتي. كتبي، كتب أصدقائي، مكتبة جدي، هل سنترك مكتبة جدي وحدها يا أبي؟ هل سأترك كتبي هنا يا أبي؟ سيلسعها البرد والخوف والقلق والشوق، هي مثلنا يا أبي تشتاق ليد قارئها وكاتبها، ستشتاق لي كتبي يا أبي، صدقني ستشتاق!

أحمل الكتب التي سهرت معي في ليالي الشتاء الطويلة، وتلك التي باتت شهورًا تحت وسادتي، وتلك التي شاطرتني شرودي الطويل، وتلك التي كتبت عليها ذكرياتٍ لا تنتهي، وتلك التي سرقتني ونقلتني لعالم آخر، وتلك التي سرقتها من بيتنا وأعرتها لأصدقائي وأعدتها قبل أن ينتبه أبي، يا الله قلبي هنا يارب!

ينادي أبي عليَّ مجددًا: يا بنتي يلا! القصف بيشتد!

لم أدرِ كيف خطفَتْ يدي كتاب جدي عن رحلته من البلد للمنفى، لقد كتبه بيده على فانوس الكاز في ليل المخيم! أجل أريد أن أكمله! أريد أن أكمل سيرة المنفى).

طلال أبو شاويش

وفي مشهد سردي درامي حزين يصف الروائي طلال أبو شاويش إحساسه الفجائعي وهو يكاد يسمع صراخ أغلفة كتبه في طريقه إلى الجنوب:

(وأنا أحزم ما خف حمله وتضاعفت أهميته خلال هذا العدوان، ولدى مغادرة البيت...تسمرت أمام مكتبتي الحبيبة....يا الله! يا أبنائي وبناتي الفوضويين العابثين المتراكضين على مساحات خشبية ضئيلة! كيف أفهم هذه اللحظة المكثفة؟ أن أهرب مذعورا تاركا خلفي أبنائي...وحيدين مهددين بالتمزق أو الحرق دون أية حماية.. هؤلاء الذين احتضنتهم منذ أنجبتهم؟ وداروا بين بيوت أصدقائي وأحبائي وزملائي وجيراني، وفي كل بيت خطوا قصة، ومع كل إنسان صنعوا حكاية...يا لقبح هذا العالم!

حتى كتبنا سيطالها العدوان والتشوه والحرق!

حاولت اصطحاب بعضها في رحلة النزوح لكنها رفضت...صرخت كل كتبي باحتجاج:

أرحل أني شئت أما نحن فسنبقى...نحن لا ننزح...لا نهاجر....لا نموت...سنبقى هنا في البيت...في المخيم لنحرسه و نحميه...خذ أطفالك...خذ أمك وأباك وجدك وجدتك...خذ كل شيء ولكن اتركنا هنا...الأغلفة تبكي وصفحات الإهداء تبدو حزينة ولكنها مصرة على البقاء...غادرتهم وحاولت في طريق هروبي استذكار أية قصة أو حكاية أو مغامرة تخصهم لكني فشلت...ضجيج القصف والمركبات و الناس والأطفال يفقدني تركيزي تماما...آخر غلاف رايته مرتسما أمامي وهو مقلوب على المكتب كان غلاف رواية عالم بلا خرائط).

علي أبوياسين

المسرحي الكبير علي أبو ياسين الذي يعيش الآن في خيمة بالجنوب مع عائلته الكبيرة يكتب رسالة إلى مكتبته معتذرا عن أخطاء شهادته المطبعية بسبب التوتر والخوف والبرد، وطالبا من المكتبة أن تطعمهم نفسها للجوعى والبردانين من عائلات غزة المشردة:

(إلى مكتبتي الحبيبة: أرجوكِ أن تسامحيني إذا غبت عنك مجبرًا شهور الحرب، فأنت خير من يعلم، وليو تولستوي يقبع بداخلك برائعته (الحرب والسلام) وفيها معنى الحرب وويلاتها، كيف لا وقد راجعنا مرارًا وتكرارًا مسرحية الأم شجاعة وأولادها التي قررت يومًا أن أخرجها مسرحيا، لا أخاف عليك يا مكتبتي من أهوال الحرب فقد بت تملكين شجاعة استبسال الأم في الدفاع عن أبنائها، مكتبتي الحبيبة: تعلمين أن الكهرباء مقطوعه عن أهلي ولا يوجد أي نوع من المحروقات عند الناس لتطهو الطعام وتخبز خبزها، أعلم أن الناس تبحث عن قطعة خشب أو ورقة كرتون كالباحث عن إبرة في كومة قش. أرجوك أن تسمحي للناس بأخذ ما يشاؤون من الكتب إذا كانت سوف تنقذ حياتهم ليطعموا أطفالهم، أعلم أن أصدقائي الكتاب وهبوا أنفسهم من أجل الآخرين. فأصدقائي تشيخوف والبير كامو وجان بول سارتر وجان جينيه وشكسبير ومحمود ودرويش وسميح القاسم وغنام غنام والفريد فرج وعاطف أبو سيف والماغوط وسعدالله ونوس وستانسلافسكي واوغستبوال وكل العظماء القابعين فوق رفوفك يسعدهم أن يكونوا شموعًا تحترق من أجل إسعاد الآخرين).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وتلک التی

إقرأ أيضاً:

حكاية 116 عامًا.. باب رزق يكشف سر المهنة كما يرويه صاحب مخبز عريق

في لقاء خاص ببرنامج "باب رزق" الذي يقدمه الإعلامي يسري الفخراني على قناة DMC، كشف أحد أصحاب المخابز العريقة عن أسرار مهنة توارثتها عائلته لأكثر من قرن.

شتائم وصراخ.. رامز إيلون مصر يصعق زينة بالكهرباءنقص هذا الفيتامين يسبب نزيف الأطفال حديثي الولادة

تحدث صاحب المخبز بفخر عن إرثه العائلي في صناعة الخبز، موضحًا أنهم يعملون في هذا المجال منذ 116 عامًا، ويقدمون الخبز البلدي والبيتي حسب طلب الزبائن. 

وأكد أن الخميرة البيرة ومسكة العجين هما سر نجاح الرغيف، إلى جانب ضبط درجة الحرارة أثناء الخبز لضمان تسوية متقنة وطعم مميز. 

كما أوضح أن هناك خطوات دقيقة لصناعة الخبز، تبدأ بفرد العجين على الطاولة، ثم خبزه بطريقة تقليدية تضمن جودته المعهودة.

وأشار إلى أن الحفاظ على الجودة مع التطوير المستمر يعد تحديًا كبيرًا، لكنه أمر ضروري لمواصلة النجاح. واستعرض مراحل صناعة الخبز، بدءًا من تجهيز العجين، ثم مرحلة التخديع أو الفرد اليدوي، يليها إدخاله إلى الفرن، وصولًا إلى إخراجه بعد التسوية، ثم تحميصه لمنحه المذاق المثالي.

هذا اللقاء لم يكن مجرد حديث عن مهنة، بل كان استعراضًا لقصة كفاح وتاريخ طويل من العمل الدؤوب الذي جعل هذا المخبز جزءًا من تراث حي ما زال يحافظ على هويته رغم تغير الزمن.

 

مقالات مشابهة

  • أحد أعظم أطباء التاريخ.. حكاية شارع يسرد قصة ابن النفيس
  • دار الكتب والوثائق تحتفل بذكرى العاشر من رمضان
  • الإثنين.. دار الكتب والوثائق تحتفل بذكرى العاشر من رمضان
  • تريند زمان.. حكاية ناهد القفاص بطلة القصة الحقيقية لفيلم المرأة والساطور
  • تريند زمان.. حكاية ناهد القفاص بطلة القصة الحقيقة لفيلم المرأة والساطور
  • دار الكتب القطرية بحلتها الجديدة.. منارة ثقافية تعيد إحياء التراث والمعرفة
  • خلى بالك.. هل الكتب الخارجية جزء من المصروفات التعليمية الملزم بسداها الأب؟
  • حكومة الاحتلال تشنّ حرباً على الكتب والثقافة والفنون لمنع أي رواية معارضة لها
  • حكاية عمرها قرون.. عائلة شوشة أساتذة حرفة النحاس في شارع المعز
  • حكاية 116 عامًا.. باب رزق يكشف سر المهنة كما يرويه صاحب مخبز عريق