ماذا تبقى من فلسفة الأنوار والنزعة الإنسانية فيها ؟ «هابرماس» نموذجًا
تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT
أوائل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت بداية الوعي لدينا نحن ذلك الجيل الذي عاش فترة الزخم السياسي، مع بروز الفكر القومي العربي، وحركات الاستقلال في الوطن العربي، والدعوة إلى التغيير في مسار تلك الظروف وتحولاتها، كانت القضية الفلسطينية هي الحديث الأكثر تداولًا بين الناس في ذلك الوقت، وكان «الراديو» الوسيلة الإعلامية الوحيدة في مجتمعنا العماني، وكان كبار السن يتداولون ما حصل من تطورات علمية وتكنولوجية في الغرب، والنهوض الكبير في كل المجالات، الفكرية والمعرفية والسياسية، من حيث الرؤى التخطيطية نتيجة التقدم الذي طرأ في الغرب، وكذلك ظهور العلوم وتطوراتها المتسارعة والمقارنة بظروفنا.
في هذه الفترة برزت فلسفات غربية، مختلفة المشارب والاتجاهات، منها الفلسفة الليبرالية، والفلسفات الاشتراكية بتعددها، والفلسفة البرجماتية، والفلسفة الوضعية المنطقية، والفلسفة الوجودية، إلى جانب المدارس الفكرية والاجتماعية، ومن أشهرها مدرسة (فرانكفورت) والفكر الاجتماعي فيها، إلى جانب المذاهب الفلسفية الأخرى التي خرجت من فلسفات سبقتها في التأسيس الفلسفي، وهذه الانشقاقات الفلسفية ليست مجال حديثنا في هذا المقال، صحيح أن عصر النهضة الأوروبية والإصلاح الديني، سبق ما يسمى بحركة التنوير الذي جاء بعد إقصاء الكنيسة، بعد تدخُّلاتها في غير مجالها، وهو ما جعل مسألة تحديد صلاحيتها في المجال الديني، دون أن تدخل في مجال النظريات العلمية التي ظهرت مع النهضة العلمية في أوروبا وأيضا المجال العام.
ولا شك أن فلسفة الأنوار، طورت ووضعت نظمًا من خلال الدساتير، تتحدث عن حقوق الإنسان والحرية، والأنسنة ـ وتعني الحرية الإنسانية للإنسان بغض النظر عن دينه وانتمائه الفكري والثقافي والفلسفي ـ وصار بعض من مفكرينا وكتّابنا من العرب والمسلمين، يهتمون بقضية الأنسنة أو الأنسانوية، ويعتبرونها منحة للإنسان جاءت من الغرب، وعلينا أن نتلمّس منها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا شك أن الكثير من هذه الأفكار والمفاهيم التي يروّجها الغرب، تلقفها العديد من المثقفين العرب، ويرددونها مثل الببغاء، لمجرد أنها جاءت من عصر الأنوار، لكن هذه التي يرددها الفلاسفة الغربيون، هم أول من يخالفها؛ لأنهم ربما يعتبرون أن هناك تمايزا واختلافا بين البشر، وهذه قيلت من بعض مفكريهم، ومنهم بعض السياسيين، وادعاء الكونية والفرادة للغرب وتميزه، ومن منظور الفلاسفة أنفسهم، وشجعوا حتى الاستعمار وهم يعتبرون أنفسهم ممن طالب بالتنوير في الغرب.
وهذا الموقف المزدوج لبعض المفكرين والفلاسفة، في الغرب جعلت البعض يشك في مصداقية مقولاتها عن الحرية والتسامح والتعددية الديمقراطية تجاه الآخر، لكن ذلك لم يتحقق بصورة مقبولة، فليس من المصادفة البتة بل العكس ومن باب الانسجام الفكري ـ كما يقول روجيه جارودي ـ أن يكون: «أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا مؤسس المدرسة العلمانية «جول فري» هو نفسه المحرض على الغزو الاستعماري في مدغشقر وفي تونس وفيتنام.. هذا المفكر الواضح كان في فرنسا المنظّر الأعنف للاستعمار مثلما كان في إنجلترا ستيورات ميل وهو تلميذ آخر من تلامذة وضعية «أوغست كونت»، ففي خطابه يوم 27 يوليو 1885 أمام مجلس النواب قال: «أجل نحن نتبنى سياسة توسّع استعماري قائمة على نظام وهذه السياسة الاستعمارية تقوم على ثلاث قواعد اقتصادية، إنسانية، سياسية». وفي فقرة أخرى قال: «لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا هو من التاريخ إنه من الميتافيزيقيا السياسية.. أيها السادة لا بد من القول بصوت أرفع وبحقيقة أكثر يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقا عمليا على الأعراق السفلى».. وهذه المعايير المزدوجة، تبرز أن الأقوال غير التي نراها واقعيا، عندما تأتي أزمة من الأزمات في العالم العربي، وننتظر من أصحاب العقول الكبيرة، من الفلاسفة وغيرهم في الغرب أن يعبّروا بصدق وإنصاف، لكن هذا لم يتحقق عند أغلبهم.
وعندما حدث «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر من العام الماضي، توقعنا موقفًا على الأقل محايدًا لما جرى، وليس تأييدا للمحتل الذي مارس إبادة جماعية للمدنيين في غزة، ولم يلتزم بالقانون الدولي ولا بالأعراف الإنسانية في الحروب، ومع ذلك لم يقتصر التأييد من الساسة في الدول الغربية على جرائم الصهاينة في غزة، بل تعدى ذلك إلى أشهر الفلاسفة الغربيين، ومنهم الفيلسوف الألماني الناقد للحداثة الغربية بعنف، «يورغن هابرماس»، الذي اعتبر أن ما تفعله إسرائيل هو الدفاع عن نفسها!! وتجاهل أن الفلسطينيين، عندما يقاومون المحتل هو من الحقوق المشروعة لكل شعب من الشعوب، لكن «هابرماس» رمى بكل ما يقوله عن الحرية الإنسانية، وحقوق الإنسان، ورفض الظلم وانتهاك الحق الإنساني في العيش الكريم جانبا.
هذه المعايير التي يقولها فلاسفة ومفكرون بارزون في الغرب، تنسف هذه المقاييس بين ما يطرحونه في مؤلفاتهم وأبحاثهم وبين ما ينقضونه بعد ذلك، فالذي لا يؤمن بما يقوله من آراء إصلاحية أو فكرية ويناقضه كما فعل«هابرماس» أو غيرهم، أو كمن يدعون للعدل وهم يؤيدون الظلم، أو الذي يدعو للحرية، ويناصر قمع حرية الآخرين، فهؤلاء لا يعتبرون النموذج المحتذى الذي يستحق التقدير، بل بالعكس مثل هؤلاء يستحقون الإدانة والنقد العنيف وتسفيه ما يقولونه وينقضونه في الوقت نفسه، ومن هؤلاء الفيلسوف «يورغن هابرماس»، فالبعض قال في التعليقات التي كُتبت حول تأييده لما جرى في غزة من جرائم بأن الألمان بالأخص، ينظرون بنظرة أخرى تجاه لو أدانوا إسرائيل، بحكم آثار المحرقة التي جرت لليهود في فترة الحكم النازي، لكن هذا في رأيي أنه (عذر أقبح من الذنب)، بالعكس إدانة النازية، لا يبرر الفعل نفسه الذي فعله النازيون الجدد، فالجريمة لا تبرر جريمة مثلها بنفس الفعل، عندما تدين إحدى الجرائم، وتؤيدها لأناس آخرين يمارسونها!
فالنص الذي كتبه «يورغن هابرماس»، وثلاثة من زملائه من جامعة فرانكفورت ويدعون أنهم ينتمون إلى (مدرسة فرانكفورت النقدية)، هؤلاء ليسوا سواء أشخاص تعجبك أقوالهم، لكن عندما ترى مع الأيام، تجد فكرهم الباطني لم ينسلخ من الفكر الإقصائي المتوارث تجاه الآخر المختلف. ويعلق الكاتب يحيى الكبيسي، على موقف «هابرماس» تجاه دفاعه عن إسرائيل في حربها على غزة مع الجرم البيّن الواضح لحقوق الإنسان الذي تحتل أرضه من عقود طويلة، أن هذا «التنوير بوصفه «مشروعا لم يكتمل» ـ بحسب مقولة هابرماس الشهيرة ـ هو أنه «رفض حرفيًا اتخاذ موقف التنوير عندما تناول الشؤون اليهودية»! لينتهي إلى أن «العودة إلى كانط لن تتحقق قبل أن يجد المثقفون الألمان الشجاعة للتفكير والتحدث عن إسرائيل» وأن ذلك هو الاختبار النهائي للتفكير التنويري نفسه!
هكذا يتحول هابرماس صاحب نظرية «الفعل التواصلي» التي تنتقد المركزية العرقية بجميع أشكالها، وتقترح مفهوما منطقيا للأخلاق العالمية بعيدا عن المركزية الغربية، فجأة إلى مواطن ألماني عادي من جيل النازية لا يحق له تقييم أفعال إسرائيل!». ولذلك هذا الموقف كشف الغطاء عن معايير لا يقبلها العقل الإنساني ولا المنطق الفكري، مع أنهم لا يكفّون عن رفع شعار العقلانية بمناسبة وغير مناسبة، وكأن الإنسانية كلها لا تعرف العقل ولا العقلانية ولا الفكر ولا الإنسانية إلا هم القابضون عليها، وهذا غرور النفس عندما يرون أنهم أقوى وأسبق الثقافات المعاصرة، في التقدم والنهضة إلخ، وقد ناقشت في كتابات سابقة هذا التذبذب والتناقض في مقولات فلاسفة التنوير، إن هذه الرؤية الفكرية الناتجة عن عصر الأنوار، لم تلد ولادة طبيعية، بل جاءت من خلال حروب طاحنة وصراعات فكرية رهيبة، لذلك جاءت هذه الولادة عقيمة، أو كما قال «يورغن هابرماس»: إن (مشروع الحداثة لم يكتمل)، وهذا اعتراف، يبرز أن عدم الاكتمال كون ولادة الحداثة ولدت ولادة غير طبيعية أن ثمة أزمة فكرية ضاربة في الجذور. بل وفي العقول، والإشكال الكبير الذي وقعت فيه فلسفة عصر التنوير، أنها لم تأت من خلال رؤية هادئة وثاقبة، ومن خلال تحوّل مخطط له دون حرق المراحل وردة الفعل تجاه الكنيسة، وملابسات الصراع، وهذه الممارسة التي نتجت عن هذه الفلسفة، ظهرت مقابله ممارسات اللاعقلانية، بحسب نقد الفلاسفة الجدد لها، الذين وجهوا نقدا صارمًا، كنتيجة عنها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الغرب من خلال
إقرأ أيضاً:
مبتدأ وخبر
#مبتدأ_وخبر
د. #هاشم_غرايبه
المبتدأ: عندما توفي أبوصابر تاركا زوجة ثكلى وأيتاما صغارا، ضاقت الدنيا بأم صابر خوفا على ابنائها العنت، خاصة وأن العائلة ظلت تعيش على الكفاف، حيث يتدبرون أمور معيشتهم بصعوبة من ناتج ارضهم، والتي وإن كانت مديدة فسيحة، أن الانتاج كان شحيحا، بسبب ضعف إدارة أبي صابر وتكاسله.
لذا فقد رحبت الأرملة الحزينة بأول طالب ليدها وكان المختار أبو فيصل، والذي ما أراد الزواج بها لجمالها أو حسبها، بل طمعا في الأراضي الكثيرة التي ورثتها عن زوجها.
لم تكتشف المسكينة حقيقة الزوج إلا بعد فوات الأوان، فقد كان مدمنا على القمار زيادة على أنه مدخن شره، ورغم أنه وعدها بداية أنه سيخلصها وأولادها من معيشة الفقر، وهي صبرت عليه طويلا ولم تستعجلهلإنجاز وعده، إلا أن ظروفهم كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم.
وكانت حسرتها تزداد وخيبة أملها تتضاعف كلما وجدته يبيع قطعة من الأرض ليسدد ديونه المتفاقمة، وفي كل مرة كانت ترضخ لطلبه بيع قطعة جديدة، وحجته التحرر من قبضة الدائنين، لكي يتفرغ لإطعام أولادها وكسوتهم،
لكن مرت السنون والأولاد كانوا يزدادون هزالا وعريا، عندها يئست وأدركت أنها لوبقيت أرملة لكان الحال أفضل، فطلبت الطلاق، لكن هيهات، لأن المختار رفض مدعيا أنه متمسك بها حبا لها، لكنها تعلم الحقيقة المرة، وهي أنه لن يفرج عنها الا بعد أن يستنزف كل ما عندها.
الخبر: بعد إسقاطه الدولة العثمانية التي كانت تحكم الأمة الإسلامية، لم يحتل الغرب أراضيها عسكريا، كما كان يفعل سابقا في حروبه، لأنه يعلم طبيعة هذه الأمة الصعبة المراس، فسوف يكلفه ذلك كثيرا، وفضل أن يحكمها بالوكالة، أي أن يولي عليها حكاما متعاونين معه، يؤمنون له مصالحه بلا كلف، بل ينال خدماتهم وإخلاصهم مقابل بقائهم على كرسي الحكم، واختار من بينها فلسطين، كونها تقع في قلب ديار الأمة، فما جلا عنها إلا بعد أن أمّن تشكيل كيان لقيط جمع فيه شذاذ الآفاق وأوهمهم أنه وطن جامع لهم، فيما هو في حقيقته لا يعدو كونه كلب حراسة القطيع، يراقب ويرصد التزام الأنظمة العربية بما فرضه عليها من تبعية، وإدامة إضعافها وتفرقها درءا لأية محاولة وحدة تستعيد فيها قوتها.
لكي تتقبل الشعوب ذلك ويستتب الأمن للحاكمين، كان من الضروري تأميلهم بالرخاء والتقدم، لذلك شنت حملة ثقافية متعددة العناصر، لإقناع الشعوب بأن يأملوا الخير العميم من منهاج الحكم الجديد (العلماني) النقيض (للإسلامي) الذي جربوه طوال القرون السابقة، وحققوا فيه السيادة والتفوق الحضاري، رغم أن تطبيق الحكام له كان متفاوتا من خلال الحقب الماضية، بين من طبقه بنسبة 100 % في أوله، ومن طبق نصفه أو ربعه أو عُشره، ورغم ذلك وحتى في أدنى الحدود، فرغم انحسار حالة التفوق، إلا أن الحكم الإسلامي كان في أسوأ حالاته محققا للعزة والكرامة، لكونه حمى أراضي الأمة ومياهها من الطامعين.
الحملة الثقافية كانت مستهدفة منهج الأمة (الدين)، كونه الممانع الأعظم لانهزامها، وللصد عنه أسبغوا على نقيضه (العلمانية) القدسية والتبجيل، وسوقوه تزويرا على أنه الوصفة السحرية للتقدم، فيما كان السبب الحقيقي المخفي للصعود الأوروبي هو الاستيلاء على خيرات الشعوب الفقيرة خلال المرحلة الامبريالية الاحتكارية التي رافقت الثورة الصناعية.
وفيما كانت الأنظمة تقوم بما أوكل لها، ومتيقظة صارمة في ممانعة العودة الى الحكم الإسلامي من جديد، كانت خطة الغرب مستهدفة المتعلمين في تبشيريات الغرب، الذين تشربوا ثقافته، فكافأهم بأن اطلق عليهم مسمى المثقفين التنويريين، مقابل تسمية متبعي منهج الله بالظلاميين، فكون هؤلاء طابورا آخر للغرب، عملوا من جانب كمخوفين للأقليات غير المسلمة من قيام الدولة الاسلامية، ومبشرين بأن العلمانية هي ما يحقق مساواة المواطنين، ومن جانب آخر أسسوا أحزابا سياسية قائمة على مبادئ علمانية رافضة لاتباع منهج الله، فبات نشاطها معززا لمهام الأنظمة، وهذا تفسير لماذا حظرت الأنظمة تشكيل الحزب ان كان اسلاميا، كما يفسر تأييد الأحزاب اليسارية للأنظمة القمعية، رغم علمها بفسادها وفشلها.
هكذا ضاعت الأمة طوال القرن الماضي كالأيتام في موائد اللئام، فزوج الأم لن يكون كالأب الحقيقي، وعندما يكون طمعه في ما لدى الأم، لن يطلقها بالحسنى الا بعد استنزافه لكل مقدراتها.