أوائل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت بداية الوعي لدينا نحن ذلك الجيل الذي عاش فترة الزخم السياسي، مع بروز الفكر القومي العربي، وحركات الاستقلال في الوطن العربي، والدعوة إلى التغيير في مسار تلك الظروف وتحولاتها، كانت القضية الفلسطينية هي الحديث الأكثر تداولًا بين الناس في ذلك الوقت، وكان «الراديو» الوسيلة الإعلامية الوحيدة في مجتمعنا العماني، وكان كبار السن يتداولون ما حصل من تطورات علمية وتكنولوجية في الغرب، والنهوض الكبير في كل المجالات، الفكرية والمعرفية والسياسية، من حيث الرؤى التخطيطية نتيجة التقدم الذي طرأ في الغرب، وكذلك ظهور العلوم وتطوراتها المتسارعة والمقارنة بظروفنا.

في هذه الفترة برزت فلسفات غربية، مختلفة المشارب والاتجاهات، منها الفلسفة الليبرالية، والفلسفات الاشتراكية بتعددها، والفلسفة البرجماتية، والفلسفة الوضعية المنطقية، والفلسفة الوجودية، إلى جانب المدارس الفكرية والاجتماعية، ومن أشهرها مدرسة (فرانكفورت) والفكر الاجتماعي فيها، إلى جانب المذاهب الفلسفية الأخرى التي خرجت من فلسفات سبقتها في التأسيس الفلسفي، وهذه الانشقاقات الفلسفية ليست مجال حديثنا في هذا المقال، صحيح أن عصر النهضة الأوروبية والإصلاح الديني، سبق ما يسمى بحركة التنوير الذي جاء بعد إقصاء الكنيسة، بعد تدخُّلاتها في غير مجالها، وهو ما جعل مسألة تحديد صلاحيتها في المجال الديني، دون أن تدخل في مجال النظريات العلمية التي ظهرت مع النهضة العلمية في أوروبا وأيضا المجال العام.

ولا شك أن فلسفة الأنوار، طورت ووضعت نظمًا من خلال الدساتير، تتحدث عن حقوق الإنسان والحرية، والأنسنة ـ وتعني الحرية الإنسانية للإنسان بغض النظر عن دينه وانتمائه الفكري والثقافي والفلسفي ـ وصار بعض من مفكرينا وكتّابنا من العرب والمسلمين، يهتمون بقضية الأنسنة أو الأنسانوية، ويعتبرونها منحة للإنسان جاءت من الغرب، وعلينا أن نتلمّس منها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا شك أن الكثير من هذه الأفكار والمفاهيم التي يروّجها الغرب، تلقفها العديد من المثقفين العرب، ويرددونها مثل الببغاء، لمجرد أنها جاءت من عصر الأنوار، لكن هذه التي يرددها الفلاسفة الغربيون، هم أول من يخالفها؛ لأنهم ربما يعتبرون أن هناك تمايزا واختلافا بين البشر، وهذه قيلت من بعض مفكريهم، ومنهم بعض السياسيين، وادعاء الكونية والفرادة للغرب وتميزه، ومن منظور الفلاسفة أنفسهم، وشجعوا حتى الاستعمار وهم يعتبرون أنفسهم ممن طالب بالتنوير في الغرب.

وهذا الموقف المزدوج لبعض المفكرين والفلاسفة، في الغرب جعلت البعض يشك في مصداقية مقولاتها عن الحرية والتسامح والتعددية الديمقراطية تجاه الآخر، لكن ذلك لم يتحقق بصورة مقبولة، فليس من المصادفة البتة بل العكس ومن باب الانسجام الفكري ـ كما يقول روجيه جارودي ـ أن يكون: «أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا مؤسس المدرسة العلمانية «جول فري» هو نفسه المحرض على الغزو الاستعماري في مدغشقر وفي تونس وفيتنام.. هذا المفكر الواضح كان في فرنسا المنظّر الأعنف للاستعمار مثلما كان في إنجلترا ستيورات ميل وهو تلميذ آخر من تلامذة وضعية «أوغست كونت»، ففي خطابه يوم 27 يوليو 1885 أمام مجلس النواب قال: «أجل نحن نتبنى سياسة توسّع استعماري قائمة على نظام وهذه السياسة الاستعمارية تقوم على ثلاث قواعد اقتصادية، إنسانية، سياسية». وفي فقرة أخرى قال: «لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا هو من التاريخ إنه من الميتافيزيقيا السياسية.. أيها السادة لا بد من القول بصوت أرفع وبحقيقة أكثر يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقا عمليا على الأعراق السفلى».. وهذه المعايير المزدوجة، تبرز أن الأقوال غير التي نراها واقعيا، عندما تأتي أزمة من الأزمات في العالم العربي، وننتظر من أصحاب العقول الكبيرة، من الفلاسفة وغيرهم في الغرب أن يعبّروا بصدق وإنصاف، لكن هذا لم يتحقق عند أغلبهم.

وعندما حدث «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر من العام الماضي، توقعنا موقفًا على الأقل محايدًا لما جرى، وليس تأييدا للمحتل الذي مارس إبادة جماعية للمدنيين في غزة، ولم يلتزم بالقانون الدولي ولا بالأعراف الإنسانية في الحروب، ومع ذلك لم يقتصر التأييد من الساسة في الدول الغربية على جرائم الصهاينة في غزة، بل تعدى ذلك إلى أشهر الفلاسفة الغربيين، ومنهم الفيلسوف الألماني الناقد للحداثة الغربية بعنف، «يورغن هابرماس»، الذي اعتبر أن ما تفعله إسرائيل هو الدفاع عن نفسها!! وتجاهل أن الفلسطينيين، عندما يقاومون المحتل هو من الحقوق المشروعة لكل شعب من الشعوب، لكن «هابرماس» رمى بكل ما يقوله عن الحرية الإنسانية، وحقوق الإنسان، ورفض الظلم وانتهاك الحق الإنساني في العيش الكريم جانبا.

هذه المعايير التي يقولها فلاسفة ومفكرون بارزون في الغرب، تنسف هذه المقاييس بين ما يطرحونه في مؤلفاتهم وأبحاثهم وبين ما ينقضونه بعد ذلك، فالذي لا يؤمن بما يقوله من آراء إصلاحية أو فكرية ويناقضه كما فعل«هابرماس» أو غيرهم، أو كمن يدعون للعدل وهم يؤيدون الظلم، أو الذي يدعو للحرية، ويناصر قمع حرية الآخرين، فهؤلاء لا يعتبرون النموذج المحتذى الذي يستحق التقدير، بل بالعكس مثل هؤلاء يستحقون الإدانة والنقد العنيف وتسفيه ما يقولونه وينقضونه في الوقت نفسه، ومن هؤلاء الفيلسوف «يورغن هابرماس»، فالبعض قال في التعليقات التي كُتبت حول تأييده لما جرى في غزة من جرائم بأن الألمان بالأخص، ينظرون بنظرة أخرى تجاه لو أدانوا إسرائيل، بحكم آثار المحرقة التي جرت لليهود في فترة الحكم النازي، لكن هذا في رأيي أنه (عذر أقبح من الذنب)، بالعكس إدانة النازية، لا يبرر الفعل نفسه الذي فعله النازيون الجدد، فالجريمة لا تبرر جريمة مثلها بنفس الفعل، عندما تدين إحدى الجرائم، وتؤيدها لأناس آخرين يمارسونها!

فالنص الذي كتبه «يورغن هابرماس»، وثلاثة من زملائه من جامعة فرانكفورت ويدعون أنهم ينتمون إلى (مدرسة فرانكفورت النقدية)، هؤلاء ليسوا سواء أشخاص تعجبك أقوالهم، لكن عندما ترى مع الأيام، تجد فكرهم الباطني لم ينسلخ من الفكر الإقصائي المتوارث تجاه الآخر المختلف. ويعلق الكاتب يحيى الكبيسي، على موقف «هابرماس» تجاه دفاعه عن إسرائيل في حربها على غزة مع الجرم البيّن الواضح لحقوق الإنسان الذي تحتل أرضه من عقود طويلة، أن هذا «التنوير بوصفه «مشروعا لم يكتمل» ـ بحسب مقولة هابرماس الشهيرة ـ هو أنه «رفض حرفيًا اتخاذ موقف التنوير عندما تناول الشؤون اليهودية»! لينتهي إلى أن «العودة إلى كانط لن تتحقق قبل أن يجد المثقفون الألمان الشجاعة للتفكير والتحدث عن إسرائيل» وأن ذلك هو الاختبار النهائي للتفكير التنويري نفسه!

هكذا يتحول هابرماس صاحب نظرية «الفعل التواصلي» التي تنتقد المركزية العرقية بجميع أشكالها، وتقترح مفهوما منطقيا للأخلاق العالمية بعيدا عن المركزية الغربية، فجأة إلى مواطن ألماني عادي من جيل النازية لا يحق له تقييم أفعال إسرائيل!». ولذلك هذا الموقف كشف الغطاء عن معايير لا يقبلها العقل الإنساني ولا المنطق الفكري، مع أنهم لا يكفّون عن رفع شعار العقلانية بمناسبة وغير مناسبة، وكأن الإنسانية كلها لا تعرف العقل ولا العقلانية ولا الفكر ولا الإنسانية إلا هم القابضون عليها، وهذا غرور النفس عندما يرون أنهم أقوى وأسبق الثقافات المعاصرة، في التقدم والنهضة إلخ، وقد ناقشت في كتابات سابقة هذا التذبذب والتناقض في مقولات فلاسفة التنوير، إن هذه الرؤية الفكرية الناتجة عن عصر الأنوار، لم تلد ولادة طبيعية، بل جاءت من خلال حروب طاحنة وصراعات فكرية رهيبة، لذلك جاءت هذه الولادة عقيمة، أو كما قال «يورغن هابرماس»: إن (مشروع الحداثة لم يكتمل)، وهذا اعتراف، يبرز أن عدم الاكتمال كون ولادة الحداثة ولدت ولادة غير طبيعية أن ثمة أزمة فكرية ضاربة في الجذور. بل وفي العقول، والإشكال الكبير الذي وقعت فيه فلسفة عصر التنوير، أنها لم تأت من خلال رؤية هادئة وثاقبة، ومن خلال تحوّل مخطط له دون حرق المراحل وردة الفعل تجاه الكنيسة، وملابسات الصراع، وهذه الممارسة التي نتجت عن هذه الفلسفة، ظهرت مقابله ممارسات اللاعقلانية، بحسب نقد الفلاسفة الجدد لها، الذين وجهوا نقدا صارمًا، كنتيجة عنها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الغرب من خلال

إقرأ أيضاً:

مراكز البحوث والدكتور النور حمد والإنسانية التاريخية

في هذا المقال سوف أتناول ثلاثة محاور لمفكريين إنطلقوا صوب حقول فكرهم قبل قرن من الزمن بالتمام و الكمال و الغريب الثلاث محاور تنطلق من منصات مختلفة و تتفق في هدف واحد و هذا الهدف لم تصبه جهود النخب السودانية على الإطلاق بل ضلّت منه ضلال بعيد لأسباب تخص إنكفاء النخب السودانية و عجزها عن إدراك مآلات الإنسانية التاريخية.
من الأسباب التي حالت بيننا و بين إدراك كيفية الإنفكاك من فلسفة التاريخ التقليدية إلتواء النخب السودانية و إنكفاءها على تاريخ محلي يخص مناشط النخب السودانية و هي قد نالت قدر قليل من التعليم الذي يأهلها أن تدير رتب دنيا لمساعدة المستعمر الإنجليزي و الغريب حتى اللحظة الراهنة لم تنتبه النخب السودانية أن زمن المستعمر الإنجليزي و تعليم النخب السودانية على أيدي الإنجليز كانت علوم ترتكز على فلسفة التاريخ التقليدية.
و كانت الدول الإستعمارية الأوروبية نفسها تمر بتحول هائل على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد و كان فلاسفتها و علماء الإجتماع و الإقتصاديين و الشعراء في إنشغال تام بما يتخلق ليولد من جديد في أوروبا و المولود المنتظر في أوروبا هو لحظة إنقلاب الزمان و أصبح خط تقسيم المياة بين نهرين متعاكسين في إتجاه الجريان.
نهر أوربا الفكري جرى بمياه صافية تعكس أفكار فلسفة التاريخ الحديثة و نهر النخب السودانية التي تعلمت أيام المستعمر و بسبب قلة تحصيلها أصبحت محصورة في فلسفة التاريخ التقليدية الى يومنا هذا بل صارت متوارثة في السودان جيل عبر جيل محبوسين في تاريخ السودان المحلي و تاريخ قارته و محاولة تحليله بفلسفة تاريخ تقليدية محبوسة في إحداثيات الوثوقيات و اليقينيات و الحتميات بل ما زالت آفاق النخب السودانية السودانية عالقة في أفق المؤالفة بين العلمانية و الدين لنخب توارثت الترقيع و لم تنتج أدبياتها غير توفيق كاذب يتبدى في ضلالها عن فكرة النيوكانطية و زوال سحر العالم أي أن الخطاب الديني لم يعد له دور بينيوي على صعد السياسة و الإجتماع و الإقتصاد.
لهذا السبب ما زالت النخب السودانية تعيش خيبة آمالها رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود لإنهيار حائط برلين و زوال المنظمومة الإشتراكية و الآن قد خباء بريق الخطاب الديني المنغلق و ها هو ولي العهد السعودي يسدل الستار على إبعاد رجال الدين المزعجين و يقول أن أفكارهم ضد التنمية و ضد الحداثة إلا أن كثر من النخب السودانية تظن أن هناك إمكانية مؤالفة بين الإشتراكية و الرأسمالية كما يظن الدكتور النور حمد و هو يظن أن الإسلام و قيمه تصالح بين الرأسمالية و الإشتراكية و هذا ناتج من ضعف منهج الدكتور النور حمد فيما يتعلق بتطور الفكر الليبرالي في القرنيين الأخريين بشقيه السياسي و الإقتصادي و بالمناسبة غياب مراكز بحوث سودانية تتابع تطور الفكر الليبرالي في العالم هو ما يجعل كثر من النخب السودانية رغم إنتشار فكرهم ضعيفي الوعي فيما يتعلق بتحليل ظاهرة المجتمع البشري كما يتبدى ذلك في جرءة الدكتور النور حمد في طرحه في كتاب حرره الدكتور صديق الزيلعي و كتب الدكتور حمد في حهده فيه بأن هناك إمكانية المؤالفة بين الإشتراكية و الرأسمالية و كما كتب النور في لقاء نيروبي عن المؤالفة بين العلمانية و الدين .
أما في أوروبا فقد أدركت النخب الأوروبية بأن تاريخ الإنسانية و لأول مرة قد أصبح تاريخ واحد و مشترك للإنسانية كافة بفضل نجاح الثورة الصناعية منذ عام 1776 و أصبحت مسيرة الإنسانية التاريخية واضحة المعالم بل أصبح الإنسان التاريخي في حكم المؤكد على ضؤ فلسفة التاريخ الحديثة المنتصرة للفرد و العقل و الحرية و الحرية.
نضرب مثل كيف أن أوروبا و دولها كدول مستعمرة داخل أوروبا كانت تلاحظ بأنها تدخل على تجارب ليست مسبوقة بعهد؟ و تحتاج لفلاسفة و علماء إجتماع و إقتصاديين يواجهون أزماتها السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و بالتالي كانت النخب السودانية التي نالت تعليم متدني أيام الإستعمار لا يسمح لهم وعيهم المتدني برؤية جديدة للعالم الذي يتخلق ليولد من جديد بعد نهاية فلسفة التاريخ التقليدية في أوروبا.
و على بعد خطوات تنتظر أوروبا ميلاد فلسفة تاريخ حديثة و أصبح التفاوت يزداد و هذه التطورات في أوروبا كانت تتخلق و هي مستعمرة للدول مثلما كانت بريطانيا مستعمرة للسودان و لكن كان فلاسفة أوروبا على وعي بأن السياسة قد أصبحت شرط إنساني لتحقيق مفهوم المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و لا تتحقق إلا بفكرة التدخل الحكومي و هذا هو البعد الغائب عند النخب السودانية منذ أجيال النخب التي نالت تعليم متدني أيام الإستعمار ونتج عنه وعي متدني لا يسمح لهم بتحليل ظاهرة المجتمع البشري و للأسف إستمر تدني الوعي جيل عبر جيل في السودان و حتى راهننا الآن لم تدرك النخب السودانية مفهوم الدولة الحديثة التي ترسخ للمسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و بالتالي تصبح السياسة هي شرط إنساني يجسد فكرة العيش المشترك.
هذا التفاوت في مستوى الوعي جعل النخب السودانية متدنية الوعي مقارنة بالمستعمر الذي كانت بلدانه تتحسس لحظات ميلاد فلسفة تاريخ حديثة ظهرت مع ظهور مؤتمر الخريجيين في السودان و لكن شتان ما بين وعي أتباع مؤتمر الخريجيين و أتباع فلسفة التاريخ الحديثة في أوروبا و بالمناسبة هناك قادة من أتباع الحضارات التقليدية إنتبهوا لهذا التحول من فلسفة التاريخ التقليدية الى فلسفة التاريخ الحديثة نذكر منهم المهاتما غاندي و نهرو لذلك ها هي الهند الآن تصبح من أكبر الديمقراطيات في العالم و بمعدل نمو إقتصادي عالي جدا مقارنة بكساد النخب السودانية في ثمانية عقود الأخيرة.
نعود للدكتور النور حمد في مقاله الأخير في سودانايل بعنوان معضله الشر المحتمي بجهل العامة و فيه يقول الدكتور النور حمد " ولو كان الوعي البشري مستحصدا بحق لما عاش النظام الرأسمالي الى يومنا هذا رغم أن جهود فضح إنسانيته قد تكاملت منذ القرن التاسع عشر" ما هذا يا دكتور النور حمد؟ ما كتبه الدكتور النور حمد في هذا المقال يصلح كدليل على أن أغلب النخب السودانية تجهل فلسفة التاريخ الحديثة التي تتوشح النيوكانطية في فكر ماكس فيبر و هو يتحدث عن عقلانية الرأسمالية في الفكر البروتستانتي و قد فتحت على قيم الجمهورية و مواثيق حقوق الإنسان.
عكس ما يتحدث عنه الدكتور النور حمد بتشنيعه للرأسمالية و هو تشنيع صادر من جهل دكتور النور حمد بأدبيات الرأسمالية في النظريات الإقتصادية و إبداعات تاريخ الفكر الإقتصادي على أقل تقدير في القرنيين الأخرين و يتضح من مقال النور حمد جهله بعقلانية الرأسمالية التي تحدث عنها ماكس فيبر و قال أن الرأسمالية عقلانية و الدليل على عقلانية الرأسمالية لأنها لم تظهر بعد في المجتمعات التقليدية كمجتمعنا السوداني و من هنا ننبه القارئ للبون الشاسع بين وعي دكتور النور حمد و أفكار ماكس فيبر عن عقلانية الرأسمالية و على هذا قس مآسينا مع التنويه أن ماكس فيبر كان عالم إجتماع و إقتصادي و قانوني و مؤرخ و لنترك للدكتور النور حمد أن يختار ألقابه.
على عكس تشنيع الدكتور النور حمد بالرأسمالية نجد إشراقات الدكتور منصور خالد و يظهر أن الدكتور منصور خالد في مراجعاته لمناهجه لم يكن يوما عدمي عدو الإشراق و الوضوح بل كان متجدد الفكر و له الشجاعة النادرة أن يقول أنه كان على خطاء شنيع ليس هو لوحده بل كل نخب العالم الثالث و مجايلي الدكتور منصور خالد عندما إستبد بهم الخطاء في أن طريق الإشتراكية و الحزب الواحد هو الأقرب لتحقيق التنمية و قد تراجع عن ذلك رجل بعظمة منصور خالد بل زاد على ذلك و أعلن عن أسفه و ندمه في مهاجمته لأحمد لطفي السيد و وصفه له بأنه خائن لأنه رفض طلب أن يكون قائد للحكومة في زمن عبد الناصر و احمد لطفي السيد معروف بأنه أب للفكر الليبرالي في مصر و من تلاميذه عميد الأدب العربي طه حسين و الكاتب الكبير نجيب محفوظ و عليه نقول لدكتور النور حمد أنه على بعد ما لا يقاس بما يفصله عن مراجعات منصور خالد لمنهجه و تجدد تدفقاته الفكرية.
على أي حال لم تفاجئني أفكار الدكتور النور حمد في مقاله الأخير و حديثه غير الناضج عن تطور الفكر الرأسمالي و به يعتدي على ميراث العقد الإجتماعي عند كل من جون لوك أب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي و يهجم بشراسة على العقد الإجتماعي في علم إجتماع منتسكيو و يتجاهل فكرة الديمقراطية عند توكفيل و يخرج لسانه ساخر من نظرية العدالة عند جون راولز و فوق كل ذلك يتخطى الدكتور النور حمد مشروع كانط النقدي في أنثروبولوجيا الليبرالية بعد أن إستفاد من فلسفة كل من ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية و فلسفة ديفيد هيوم التي أيقظت كانط من ثباته الدوغمائي العميق لأن كانط قبل إطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم و ادم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية كان أقرب للأصولي المتزمت و هذا هو حال الدكتور النور حمد الآن في ايمانه بالمؤالفة بين العلمانية و الدين.
و يشجع الدكتور النور حمد على هجومه غير المبرر على أدبيات الرأسمالية و هو لم يستوعبها من الأساس حتى يزعم أنه يدعو لتجاوزها زعمه كأنه قد هضم الكينزية في مزجها لفكرة اليد الخفية مع نظرية المشاعر الاخلاقية لتخرج لنا بتجاوزها لنظرية ساي العرض يخلق الطلب و تتجاوزها بكيفيه خلق الطلب عبر الإنفاق الحكومي و قد خرجت به الرأسمالية ظافرة من الكساد الإقتصادي العظيم عام 1929.
مقال الدكتور النور حمد للقارئ الذي يعرف القليل عن تاريخ الفكر الإقتصادي و نظريات النمو الإقتصادي مقال محيّر لأنه يقول لك بأن الدكتور النور حمد يقتحم مجال بحث هو خالي الوفاض من علومه ليخرج لنا بأن الرأسمالية قد ماتت منذ القرن التاسع عشر و هذا خبر محزن و مضحك لأن بعد تاريخه الذي حدده لموت الرأسمالية نجد جهود جون ماينرد كينز في النظرية العامة و علم إجتماع ماكس فيبر و هو يتحدث عن زوال سحر العالم أي أن الخطاب الديني الذي يريد النور مؤالفته مع العلمانية قد أبعده ماكس فيبر منتصرا للفكر الرأسمالي في عقلانيته بعيدا عن دولة الإرادة الإلهية.
و يقدم ماكس فيبر بدلا عنها الفعل الإجتماعي وفقا لقدرات عقلنا البشري في معادلة الحرية و العدالة و بعيدا عن مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين أو مؤالفته بين الإشتراكية و الرأسمالية كما يزعم و نجد كذلك بعد خبر النور حمد بموت الرأسمالية ديالكتيك ريموند أرون و هو ينتصر فيه على من ذهبوا للحزب قبل الذهاب للكتب ليعلن لنا ريموند أرون أن ماركسية ماركس لا تخدع غير المثقف المنخدع الذي يعتقد كما يعتقد النور بأن هناك إمكانية مؤالفة بين الراسمالية و الإشتراكية و هيهات.
و بحديثي عن كينز و ريموند أرون و ماكس فيبر أكون قد عدت للمحاور الثلاث للمفكريين و قد تحدثت عن منطلقاتهم في بداية المقال و هم كينز و ماكس فيبر و ريموند أرون و أعيد الكرة لكي أقول أن مثل فكر الدكتور النور حمد في مقاله الأخير الذي تناولناه هنا في مقالنا يدخل في إطار فلسفة التاريخ التقليدية و دعوتنا له بأن ينفتح على فلسفة التاريخ الحديثة و هي ما يحتاجه أفق مفكرينا في السودان و قد غابت أي فلسفة التاريخ الحديثة عن أفق الفكر السوداني طيلة القرن الأخير و بغير إدخال فلسفة التاريخ الحديثة على حقول الفكر السوداني سيظل مشهد الفكر السوداني محشود بفكر المثقف التقليدي و المفكر التقليدي و المؤرخ التقليدي و سيظل مشهد الفكر في السودان يدور في حلقة مفرغة و محكمة الإغلاق و كسرها و الشب عن طوقها لا يكون بغير إدراك فلسفة التاريخ الحديثة.
بالمناسبة أفكار ماكس فيبر بعد نشرها إحتجت لما يقارب الثلاث عقود حتى تتحقق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و أفكار كينز و نظريته العامة قد أحتاجت لعقد لكي تسود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية و إستمرت لثلاثة عقود أخرجت أوروبا من ظلال الليبرالية التقليدية و فلسفة التاريخ التقليدية و كذلك أفكار ريموند أرون إحتاجت لثلاث عقود لكي ينتصر فيها توكفيل على ماركس و ريموند أرون على سارتر و من بعده قد خرجت فرنسا بفكرها من ظلال الماركسية و أصبحت توكفيلية.

taheromer86@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر
  • ماذا نعلم عن الملياردير سكوت بيسينت الذي اختاره ترامب كوزير للخزانة؟
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • شاهد بالفيديو.. الكابتن التاريخي لنادي الزمالك يتغزل في المنتخب السوداني بعد تأهله للنهائيات: (السودان التي كتب فيها شوقي وتغنت لها الست أم كلثوم في القلب دائماً وسعادتنا كبيرة بتأهله)
  • ما الدول التي إذا زارها نتنياهو قد يتعرض فيها للإعتقال بعد قرار الجنائية الدولية؟
  • ما الدول التي يواجه فيها نتنياهو وغالانت خطر الاعتقال وما تبعات القرار الأخرى؟
  • مذاهب الفقهاء في تعدد المساجد التي تصحّ فيها الجمعة بالبلدة الواحدة
  • ماذا نعرف عن المؤرخ الإسرائيلي الذي قُتل في معارك لبنان وماذا كان يفعل؟.. عاجل
  • رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
  • مراكز البحوث والدكتور النور حمد والإنسانية التاريخية