الثلث الأخير من عام 1982/م. بعدما تم تعيين المجموعة التي التحقت بالعمل وتوزيعنا على دوائر الإذاعة والتلفزيون وعددنا حوالي 20 شخصًا - لست متيقنًا- أُلحقنا بدورة تدريبية في اللغة العربية وبعض المهارات لمدة شهر في مبنى الوزارة، قدمها لنا الدكتور المفكر عبد الصبور شاهين -رحمه الله-.. بعدها تقرر ابتعاثنا إلى القاهرة لتلقّي دورة عامة تمهيدية في معهد التدريب الإذاعي بمبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري في ماسبيرو، للتعرف على أبجديات العمل الإعلامي وبالذات في الفن الإذاعي على يد أساتذة ذوي خبرة طويلة.
يبدو أن المعهد الواقع في الدور السابع كان محجوزًا لنا نحن العمانيون المبتعثون فقط.. معظمنا من الجدد إضافة إلى عدد من الزملاء الإعلاميين الأقدم منا، من إستوديوهات مسقط وصلالة، كما التحق بنا أربعة زملاء من القدامى في الشهر الأخير.. بالنسبة لي شخصيٍا فأنا ممتن جدا للوزارة على هذه الدورة؛ لأنها وضعتني على العتبة الأولى وأعطتني مفاتيح مهمة ما زلت أستفيد منها مهنيا إلى اليوم، وأعتقد أن هذا لسان حال غالبية المجموعة، وربما رأى فيها البعض القليل فرصة لسياحة مدفوعة التكاليف.. كثيرة هي ذكريات هذه الرحلة لعدة أسباب منها أنها بالنسبة لي وربما معظم الجدد كانت السفرة الأولى، والمرة الأولى التي نحلّق فيها بطائرة، وكانت مدتها جيدة بلغت أربعة أشهر، ولن تُنسى لأنها إلى مصر (أم الدنيا).. تقدمنا الأستاذ عبدالله خلفان مدير الخدمات أو شؤون الموظفين- لا أذكر بالتحديد - ليستأجر لنا الشقق التي سننزل فيها بواقع شقة لكل أربعة أشخاص، إلا أنها ليست في بناية واحدة، بل ليست في نفس الحي، وحافلة المعهد تمر علينا وكأنها تمر على طلبة مدارس.. كان من نصيبي أن أكون في شقة الرئاسة، التي جمعتني مع زميليّ حمود الوهيبي -رحمه الله- وسلطان العيسري اللذين كانا معي في نفس الفصل بالمعهد الإسلامي بمعية الأستاذ عبدالعزيز النقبي رئيس المجموعة، وهو واحد من اثنين أو ثلاثة فقط يحملون الشهادة الجامعية في الإذاعة، فلا أتذكر غيره هو والمهندس حمد الكندي.. ولكن بعد فترة وجيزة سيتدفق الخريجون العائدون من مختلف العواصم العربية والأجنبية، كما لعبت جامعة بيروت العربية دورا مهما في زيادة عدد الخريجين من الموظفين الذين انتسبوا لها كنت أحدهم بتخصص فلسفة وعلم نفس واجتماع غير أنني بعد سنتين توقفت ولم أكمل بعدها. كانت رسوم الانتساب 250 ريالًا تشمل سعر الكتب وتأدية الامتحانات في مدرسة روي الثانوية.. عودا إلى القاهرة فالنقبي رجل وجيه أنيق إيجابي، كنت أشبّهه كثيرا بالممثل عمر الشريف خاصة عندما يتأنق بالبدلة.. أما موضوع الشقق التي عشنا فيها فكانت حكايات وحكايات فأول شقة كانت في حي المَنْيَل.. وصلنا مساء لا نعرف أي شيء عن محيطنا عدا أننا في منطقة شديدة الازدحام مفعمة بإيقاع الحياة والتفاصيل الكثيرة، تشبه بعض ما نراه في المسلسلات المصرية، ولم أتخيل أننا على بعد خطوات من نهر النيل الذي قرأنا عنه أنه أطول نهر في العالم، الذي أصبح جزءا مباشرا من حياتنا وتنقلاتنا اليومية.. في صباح اليوم التالي أردنا أن نفطر ولم نكن بعد قد استقدمنا خادمة تساعدنا، ولم نشتر (الراشن) بعد، فبادرتُ بالنزول إلى الشارع لجلب خبز، من مخبز قريب لمحته عند وصولنا فتوجهت له. يجلس البائع مرتفعا في الداخل وعليك أن تطلب وأنت خارج المحل، وحسبت حاجتنا نحن الأربعة فقررت أن أشتري بجنيه واحد، حيث إن الجنيه يساوي دولارا أمريكيا تقريبا، أي يقارب أربعمائة بيسة، فأشرت إلى خبز الصمون أن يعطيني بجنيه - ولم أكن بعد قد ذقت (العيش البلدي) ليفاجئني بسؤال استنكاري: (البيه عامل حفلة؟) أثار حفيظتي قليلا وسألته: ليه؟! فكانت إجابته أن قيمة الرغيف بقرش واحد، أي إن بجنيه مائة رغيف!! يا إلهي ما هذا الرخص، مع ذلك قلت له إذن يكفي بنصف جنية. فوضع أمامي خمسين أصبع صمون على صفحتي جريدة. سألته أن يعطيني كيسين، فوجه كلامه لزميله ساخرا مني: البيه عاوز كيس. شعرت ببعض الخزي وبلعت الإهانة وحملت كمية الخبز متورطا وكأنني في مشهد لمستر بن، متلقيا أول الدروس لفهم لغة الشارع عن قرب. فللشارع لغته. بل لكل شارع لغته، حسب الحي أو المدينة. ولقاعة المحاضرات لغتها، وللشارع طعم ونكهة ورائحة لأنها مدينة عريقة. وتأثرنا ببعض المفردات، واستخدمنا بعض الكلمات ولو مجاراة للمجتمع، فنقول فراخ بدل دجاج، وأوطة بدل طماط، وكلمة عيش بدل خبز.. يبدو أن كلمة عيش تستخدم لما يعتاش به كل مجتمع، فنحن نسمّي الأرز عيشًا؛ لأننا نعيش به، وهم يسمون الخبز عيشًا؛ لأنه استخدامهم اليومي.. ما زلت أشم رائحة بعض الشوارع إلى اليوم.. لا أتذكر في أي طابق كانت شقتنا ولكن أقدره بالثاني أو الثالث؛ لأن فيها بلكونة صغيرة تطل على شاشة سينما صيفية مكشوفة، وهذه ميزة لمشاهدة كل ما يعرض من أفلام وإن كان الصوت بعيدا قليلا، وهي الميزة الوحيدة في الشقة لأن صاحبتها العجوز تفقدنا أي متعة أخرى بمراقبتها الشديدة واختلاق الأسباب لمداهمتنا بطريقة تعتقد هي أنها لطيفة، خشية أن نمارس فيها أي ممنوعات من ناحية، ومن ناحية أخرى لتطمئن على الأثاث والأواني التي وقّعنا على استلامها قطعة قطعة ودفعنا مبلغا للضمان لن يعود بسهولة أو لن يعود أبدا، لذلك لم نطق الاستمرار في هذه الشقة.. في الشهر التالي كنا قد وجدنا شقة أخرى (ديلوكس) في نهاية شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين قرب تقاطع شارع السودان المتجه يمينًا إلى إمبابة ويسارا إلى الجيزة. كانت الشقة جميلةً فعلا وواسعة كما أن هذا الشارع الشهير مريح، ولكن يبدو أننا وقعنا في شقة مشبوهة، فـ«بوليس» الآداب شرفنا أكثر من مرة، وكان هذا مزعجًا جدًا رغم أن تعاملهم كان لطيفا في كل زيارة، ولكن أن تعيش مترقبا مثل هذه الزيارة فمهما كانت نزاهتك لن يكون أمرا مريحا، وربما كان ذلك السبب في سعرها المعقول رغم مستواها الممتاز.. تبقى لنا شهران اخترنا فيهما شقة ثالثة في الدقي كانت مريحة ودودة من كل النواحي في بناية صغيرة تحفها الأشجار الكبيرة، وليست بعيدة عن نادي طلبة سلطنة عُمان، الذي كان يشكل لنا جزءا مهما من حياتنا اليومية. كان من أشهر الأندية وربما الأشهر بين أندية طلبة الدول العربية والخليجية خصوصا، ويبدو أنها كانت الفترة الذهبية له خاصة وأن القاهرة مليئة بالطلبة العمانيين. كان هذا النادي بيئة مثالية للالتقاء والتعارف، تدخل فتشعر أنك في قطعة من عُمان ولكن بنكهة مصرية، فقد كان اجتماعيا ووطنيا بامتياز، فعالياته ومناسباته لا تنتهي، وقد صادف وجودنا الاحتفال بالعيد الوطني في ذلك العام وزيارة معالي يحيى بن محفوظ المنذري وعقده اجتماعا مفتوحا مع الطلبة الذين ناقشوا معه بعض همومهم بجرأة واضحة، كما صادفنا عيد الأضحى المبارك، ليجتمع كل الوفد في شقتنا كونها شقة الرئاسة ونحتفي ونهنئ بعضنا على مائدة مليئة بالأكلات والحلويات المصرية ولكن بدون العرسية والحلوى العمانية.
نقضي النهار في المعهد، والعصر إلى بداية المساء في التسكع أنا وحمود الوهيبي -رحمه الله- في الأسواق ونمشي مسافات طويلة جدا مستمتعين بكل التفاصيل بين خان الخليلي الذي نجمع منه بهدوء الهدايا التي سنعود بها للأهل والأحبة، والعتبة التي نشتري منها أشياء غير مهمة وعندما نصل إلى السكن نكتشف أننا لم نوفّق فيها فتكون من نصيب أي محتاج، ووسط البلد الذي لا تنتهي شوارعه المتفرعة وميادينه التي تتوسطها تماثيل الرموز الوطنية، فهذا سعد زغلول وهذا عمر مكرم وذاك طلعت حرب الذي نأخذ استراحتنا فيه لنطل على مكتبة مدبولي ومقهى جروبيّ عائدين إلى كباري النيل وبهجة القوارب والكازينوهات العائمة..
وللحديث بقية..
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«الباراسيتامول» قد يكون قاتلاً.. ولكن متى؟
اشتهر الباراسيتامول كعقار خافض للحرارة ومسكن للآلام، ولكن في بعض الأحيان قد يتحول إلى سم قاتل.
ويشير الدكتور ألكسندر مياسنيكوف إلى أن الباراسيتامول يخفض درجة الحرارة المرتفعة ويخفف الألم بشكل مثالي، لكنه يقتل الكبد بجرعة قدرها أربعة غرامات. وهذا الدواء خطير بشكل خاص على الأطفال.
ويقول: “عندما يدخل الأطفال إلى المستشفى، يموتون قبل إجراء عملية زرع كبد لأن أربعة غرامات من الباراسيتامول تعتبر جرعة مميتة”.
ويشير مياسنيكوف، إلى أنه غالبا ما يحدث تجاوز الجرعة المسموح بها لأن الباراسيتامول موجود تقريبا في جميع المستحضرات الخاصة بتخفيف أعراض البرد، وهو العنصر النشط فيها. كما أنه يوجد في العديد من الأدوية المركبة الأخرى.
وفي دراسة نشرتها مجلة علم الأدوية العلاجي البريطانية، أشارت إلى أن تناول أي جرعات زائدة من باراسيتامول من تلك الموصوفة في اليوم الواحد قد يشكل خطورة على جسم الإنسان.
لذلك يجب تجنب تناول أي جرعات زائدة من حبوب الباراسيتامول التي عادة ما تكون متوفرة على نطاق واسع وتباع دون وصفة طبية.