لجريدة عمان:
2024-10-02@05:18:41 GMT

دفتر مذيع :القاهرة 1982

تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT

الثلث الأخير من عام 1982/م. بعدما تم تعيين المجموعة التي التحقت بالعمل وتوزيعنا على دوائر الإذاعة والتلفزيون وعددنا حوالي 20 شخصًا - لست متيقنًا- أُلحقنا بدورة تدريبية في اللغة العربية وبعض المهارات لمدة شهر في مبنى الوزارة، قدمها لنا الدكتور المفكر عبد الصبور شاهين -رحمه الله-.. بعدها تقرر ابتعاثنا إلى القاهرة لتلقّي دورة عامة تمهيدية في معهد التدريب الإذاعي بمبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري في ماسبيرو، للتعرف على أبجديات العمل الإعلامي وبالذات في الفن الإذاعي على يد أساتذة ذوي خبرة طويلة.

يبدو أن المعهد الواقع في الدور السابع كان محجوزًا لنا نحن العمانيون المبتعثون فقط.. معظمنا من الجدد إضافة إلى عدد من الزملاء الإعلاميين الأقدم منا، من إستوديوهات مسقط وصلالة، كما التحق بنا أربعة زملاء من القدامى في الشهر الأخير.. بالنسبة لي شخصيٍا فأنا ممتن جدا للوزارة على هذه الدورة؛ لأنها وضعتني على العتبة الأولى وأعطتني مفاتيح مهمة ما زلت أستفيد منها مهنيا إلى اليوم، وأعتقد أن هذا لسان حال غالبية المجموعة، وربما رأى فيها البعض القليل فرصة لسياحة مدفوعة التكاليف.. كثيرة هي ذكريات هذه الرحلة لعدة أسباب منها أنها بالنسبة لي وربما معظم الجدد كانت السفرة الأولى، والمرة الأولى التي نحلّق فيها بطائرة، وكانت مدتها جيدة بلغت أربعة أشهر، ولن تُنسى لأنها إلى مصر (أم الدنيا).. تقدمنا الأستاذ عبدالله خلفان مدير الخدمات أو شؤون الموظفين- لا أذكر بالتحديد - ليستأجر لنا الشقق التي سننزل فيها بواقع شقة لكل أربعة أشخاص، إلا أنها ليست في بناية واحدة، بل ليست في نفس الحي، وحافلة المعهد تمر علينا وكأنها تمر على طلبة مدارس.. كان من نصيبي أن أكون في شقة الرئاسة، التي جمعتني مع زميليّ حمود الوهيبي -رحمه الله- وسلطان العيسري اللذين كانا معي في نفس الفصل بالمعهد الإسلامي بمعية الأستاذ عبدالعزيز النقبي رئيس المجموعة، وهو واحد من اثنين أو ثلاثة فقط يحملون الشهادة الجامعية في الإذاعة، فلا أتذكر غيره هو والمهندس حمد الكندي.. ولكن بعد فترة وجيزة سيتدفق الخريجون العائدون من مختلف العواصم العربية والأجنبية، كما لعبت جامعة بيروت العربية دورا مهما في زيادة عدد الخريجين من الموظفين الذين انتسبوا لها كنت أحدهم بتخصص فلسفة وعلم نفس واجتماع غير أنني بعد سنتين توقفت ولم أكمل بعدها. كانت رسوم الانتساب 250 ريالًا تشمل سعر الكتب وتأدية الامتحانات في مدرسة روي الثانوية.. عودا إلى القاهرة فالنقبي رجل وجيه أنيق إيجابي، كنت أشبّهه كثيرا بالممثل عمر الشريف خاصة عندما يتأنق بالبدلة.. أما موضوع الشقق التي عشنا فيها فكانت حكايات وحكايات فأول شقة كانت في حي المَنْيَل.. وصلنا مساء لا نعرف أي شيء عن محيطنا عدا أننا في منطقة شديدة الازدحام مفعمة بإيقاع الحياة والتفاصيل الكثيرة، تشبه بعض ما نراه في المسلسلات المصرية، ولم أتخيل أننا على بعد خطوات من نهر النيل الذي قرأنا عنه أنه أطول نهر في العالم، الذي أصبح جزءا مباشرا من حياتنا وتنقلاتنا اليومية.. في صباح اليوم التالي أردنا أن نفطر ولم نكن بعد قد استقدمنا خادمة تساعدنا، ولم نشتر (الراشن) بعد، فبادرتُ بالنزول إلى الشارع لجلب خبز، من مخبز قريب لمحته عند وصولنا فتوجهت له. يجلس البائع مرتفعا في الداخل وعليك أن تطلب وأنت خارج المحل، وحسبت حاجتنا نحن الأربعة فقررت أن أشتري بجنيه واحد، حيث إن الجنيه يساوي دولارا أمريكيا تقريبا، أي يقارب أربعمائة بيسة، فأشرت إلى خبز الصمون أن يعطيني بجنيه - ولم أكن بعد قد ذقت (العيش البلدي) ليفاجئني بسؤال استنكاري: (البيه عامل حفلة؟) أثار حفيظتي قليلا وسألته: ليه؟! فكانت إجابته أن قيمة الرغيف بقرش واحد، أي إن بجنيه مائة رغيف!! يا إلهي ما هذا الرخص، مع ذلك قلت له إذن يكفي بنصف جنية. فوضع أمامي خمسين أصبع صمون على صفحتي جريدة. سألته أن يعطيني كيسين، فوجه كلامه لزميله ساخرا مني: البيه عاوز كيس. شعرت ببعض الخزي وبلعت الإهانة وحملت كمية الخبز متورطا وكأنني في مشهد لمستر بن، متلقيا أول الدروس لفهم لغة الشارع عن قرب. فللشارع لغته. بل لكل شارع لغته، حسب الحي أو المدينة. ولقاعة المحاضرات لغتها، وللشارع طعم ونكهة ورائحة لأنها مدينة عريقة. وتأثرنا ببعض المفردات، واستخدمنا بعض الكلمات ولو مجاراة للمجتمع، فنقول فراخ بدل دجاج، وأوطة بدل طماط، وكلمة عيش بدل خبز.. يبدو أن كلمة عيش تستخدم لما يعتاش به كل مجتمع، فنحن نسمّي الأرز عيشًا؛ لأننا نعيش به، وهم يسمون الخبز عيشًا؛ لأنه استخدامهم اليومي.. ما زلت أشم رائحة بعض الشوارع إلى اليوم.. لا أتذكر في أي طابق كانت شقتنا ولكن أقدره بالثاني أو الثالث؛ لأن فيها بلكونة صغيرة تطل على شاشة سينما صيفية مكشوفة، وهذه ميزة لمشاهدة كل ما يعرض من أفلام وإن كان الصوت بعيدا قليلا، وهي الميزة الوحيدة في الشقة لأن صاحبتها العجوز تفقدنا أي متعة أخرى بمراقبتها الشديدة واختلاق الأسباب لمداهمتنا بطريقة تعتقد هي أنها لطيفة، خشية أن نمارس فيها أي ممنوعات من ناحية، ومن ناحية أخرى لتطمئن على الأثاث والأواني التي وقّعنا على استلامها قطعة قطعة ودفعنا مبلغا للضمان لن يعود بسهولة أو لن يعود أبدا، لذلك لم نطق الاستمرار في هذه الشقة.. في الشهر التالي كنا قد وجدنا شقة أخرى (ديلوكس) في نهاية شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين قرب تقاطع شارع السودان المتجه يمينًا إلى إمبابة ويسارا إلى الجيزة. كانت الشقة جميلةً فعلا وواسعة كما أن هذا الشارع الشهير مريح، ولكن يبدو أننا وقعنا في شقة مشبوهة، فـ«بوليس» الآداب شرفنا أكثر من مرة، وكان هذا مزعجًا جدًا رغم أن تعاملهم كان لطيفا في كل زيارة، ولكن أن تعيش مترقبا مثل هذه الزيارة فمهما كانت نزاهتك لن يكون أمرا مريحا، وربما كان ذلك السبب في سعرها المعقول رغم مستواها الممتاز.. تبقى لنا شهران اخترنا فيهما شقة ثالثة في الدقي كانت مريحة ودودة من كل النواحي في بناية صغيرة تحفها الأشجار الكبيرة، وليست بعيدة عن نادي طلبة سلطنة عُمان، الذي كان يشكل لنا جزءا مهما من حياتنا اليومية. كان من أشهر الأندية وربما الأشهر بين أندية طلبة الدول العربية والخليجية خصوصا، ويبدو أنها كانت الفترة الذهبية له خاصة وأن القاهرة مليئة بالطلبة العمانيين. كان هذا النادي بيئة مثالية للالتقاء والتعارف، تدخل فتشعر أنك في قطعة من عُمان ولكن بنكهة مصرية، فقد كان اجتماعيا ووطنيا بامتياز، فعالياته ومناسباته لا تنتهي، وقد صادف وجودنا الاحتفال بالعيد الوطني في ذلك العام وزيارة معالي يحيى بن محفوظ المنذري وعقده اجتماعا مفتوحا مع الطلبة الذين ناقشوا معه بعض همومهم بجرأة واضحة، كما صادفنا عيد الأضحى المبارك، ليجتمع كل الوفد في شقتنا كونها شقة الرئاسة ونحتفي ونهنئ بعضنا على مائدة مليئة بالأكلات والحلويات المصرية ولكن بدون العرسية والحلوى العمانية.

نقضي النهار في المعهد، والعصر إلى بداية المساء في التسكع أنا وحمود الوهيبي -رحمه الله- في الأسواق ونمشي مسافات طويلة جدا مستمتعين بكل التفاصيل بين خان الخليلي الذي نجمع منه بهدوء الهدايا التي سنعود بها للأهل والأحبة، والعتبة التي نشتري منها أشياء غير مهمة وعندما نصل إلى السكن نكتشف أننا لم نوفّق فيها فتكون من نصيب أي محتاج، ووسط البلد الذي لا تنتهي شوارعه المتفرعة وميادينه التي تتوسطها تماثيل الرموز الوطنية، فهذا سعد زغلول وهذا عمر مكرم وذاك طلعت حرب الذي نأخذ استراحتنا فيه لنطل على مكتبة مدبولي ومقهى جروبيّ عائدين إلى كباري النيل وبهجة القوارب والكازينوهات العائمة..

وللحديث بقية..

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

حرب شاملة ولكن بالقطعة! كيف تدير أمريكا هذه الحرب؟

بعد عشرة أيام على ضربة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان الرئيس الأمريكي بايدن في "تل أبيب"، يمثّل بنفسه القوّة الجبّارة التي أمسكت بـ"إسرائيل"، كي تعيد لها توازنها، وكي لا ينفلت جماحها، ولم يكن هذا الإمساك ترشيدا أخلاقيّا وسياسيّا، بل كان إطلاقا لآلة القتل الإسرائيلي الجبارة وتحريرا لأيديولوجيا الإبادة التي تعتنقها "إسرائيل"، بيد أنّ الترشيد كان في العمل الأمريكي الدؤوب على تحسين الشروط لصالح الحرب الإسرائيلية، وإنضاج الظروف اللازمة لانتقالات أخرى في الحرب، وقيادة العلاقات العامة الخادمة لتلك الحرب، والتدخل لتصحيح الأخطاء الإسرائيلية، وتغطية الحرب العميقة بالثقل الدبلوماسي. فالجذرية التي اتسمت بها عملية السابع من أكتوبر، لم يكن لتُقابل إلا بجذرية تعود لمشاريع هندسة المنطقة التي وُضعت من عقود ولم تُستكمل أو أعيقت.

في زيارته الأولى بعد السابع من أكتوبر، حمل بلينكن، وزير خارجية بايدن، إلى الحكومات العربية؛ الرعب، وطالبهم بالقبول بتهجير سكان قطاع غزّة واستقبالهم لاجئين في بلادهم. وإذن ومن اللحظة الأولى كانت أمريكا أكثر عمقا في إرادة التغيير من نتنياهو نفسه، وكانت أكثر استعمارية وصهيونية في إحساسها اللحوح بضرورة استكمال ما لم ينجزه بن غوريون. وتبيّن أن مقترح التهجير هو الخيار الأوّل الذي فضّلته وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، وهذا التهجير لن يكون ممكنا إلا بحرب تتقصد الإبادة والتدمير الممنهج، فكانت حرب الإبادة بالضرورة حربا أمريكية، وكانت المؤشّرات على الانخراط الأمريكي العسكري المباشر في الحرب أكثر من أن تُحصى، علاوة على تكريس المؤسسة الاستخباراتية والتقنيات الأمريكية لصالح الحرب الإسرائيلية.

جرى التعامل مع غزّة وفق استراتيجية التجزئة الموضوعية والتجزئة الشاملة، وذلك بالدخول المتدرّج إلى غزّة، منطقة منطقة، وصولا إلى احتلالها الكامل، مع جهد سياسي ودعائي يهدف إلى شراء الوقت، وتضليل العالم، وخداع المقاومين أنفسهم. إذ تبيّن أنّ كلّ مقترحات وقف إطلاق النار، كانت تقصد هدنة مؤقّتة تعيد الأسرى الإسرائيليين فحسب، وبما يضمن تسكين الشارع الإسرائيلي، والتلاعب بالقوى الدولية والإقليمية، لتُستَكمل الحرب تاليا
مثلا، أعلن كيربي عن اغتيال نائب قائد كتائب القسام مروان عيسى قبل أن تعلن ذلك "إسرائيل"، وتبيّن أنّ تحرير أربعة أسرى إسرائيليين في النصيرات أُنجز بتعاون أمريكي إسرائيلي استخباراتي ولوجستي أفضى إلى استشهاد وإصابة أكثر من ألف فلسطيني!

جرى التعامل مع غزّة وفق استراتيجية التجزئة الموضوعية والتجزئة الشاملة، وذلك بالدخول المتدرّج إلى غزّة، منطقة منطقة، وصولا إلى احتلالها الكامل، مع جهد سياسي ودعائي يهدف إلى شراء الوقت، وتضليل العالم، وخداع المقاومين أنفسهم. إذ تبيّن أنّ كلّ مقترحات وقف إطلاق النار، كانت تقصد هدنة مؤقّتة تعيد الأسرى الإسرائيليين فحسب، وبما يضمن تسكين الشارع الإسرائيلي، والتلاعب بالقوى الدولية والإقليمية، لتُستَكمل الحرب تاليا، لكن في الوقت نفسه، كان الجهد السياسي هذا مرتبطا بالتجزئة التي تتقصّد الإقليم، لمنع جبهات الإسناد من انخراط أعمق في المواجهة، بإشاعة التفاؤل المستمرّ بإمكان إنجاز صفقة، إذ لن يعمد أحد إلى توسيع جهده القتالي بما قد يجرّ عليه حربا أكبر وعلى بلاده دمارا، أوسع ما دام احتمال وقف إطلاق النار ممكنا بصفقة!

عزل جبهات الإسناد بتخفيف وتيرة قتالها، استند إلى استراتيجيات تضليل منها التبشير المستمرّ بصفقة تبادل أسرى، هذا التبشير كان يصير أكثر كثافة في أوقات معينة، تماما كما بعد اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية في بيروت، وإسماعيل هنية في طهران، حينما زعمت الولايات المتحدة أن صفقة بين حماس و"إسرائيل" على وشك الإنجاز، وهي الخديعة التي اعترف بها الإيرانيون أخيرا على لسان رئيسهم بزشكيان الذي قال: "القادة الأمريكيون والأوروبيون كذبوا عندما وعدوا بوقف إطلاق النار ما لم تردّ طهران على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية". ومن المحتمل جدّا أنّ مقترحات المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتيان، لوقف إطلاق النار، وما أعلنه الفرنسيون عن مقترح فرنسي/ أمريكي لهذا الغرض، كان عملية تضليل لتوفير الظروف المناسبة لاغتيال الأمين لحزب الله حسن نصر الله، بعد منحه شيئا من الاطمئنان.

الأهمّ من ذلك، في استراتيجية الدفع المتدرّج نحو حرب كبيرة، وبما يتضمّن مخادعة جبهات الإسناد لتخفيض كفاءتها طوال المرحلة الأولى من الحرب (الحرب على غزّة)، هو التخويف المستمرّ من الحرب الشاملة، والإيحاء بأنّ الولايات المتحدة لا تريد هذه الحرب الشاملة. هذا التخويف بدا أنّه مؤثّر على جبهات الإسناد بداية الحرب، وهذا الإيحاء بدا فاعلا بحيث اعتقد مجمل الفاعلين، أنّ الولايات المتحدة بالفعل لن تسمح بانتقال الحرب إلى لبنان ما دام حزب الله ملتزما بقواعد اشتباك لا تتجاوز الأهداف العسكرية المادية في مساحة إسرائيلية محدودة، وهذا بنحو ما يفسّر استمرار الحزب على هذه القواعد حتى بعد اغتيال فؤاد شكر.

كسبت "إسرائيل" بفضل إدارة أمريكا للحرب الوقت كلّه، فأخذت تستعد للانتقال للجبهة اللبنانية منذ شهور، وحينما صارت الخطط جاهزة، وجّهت "إسرائيل" ضربات تهدف إلى شلّ الحزب، من تفجير البيجرات واللاسلكي إلى اغتيال إبراهيم عقيل إلى اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، في خطوة تمهيدية لتأسيس واقع سياسي جديد يجري تعزيزه بعملية برّية متدرجة داخل لبنان.

كسبت "إسرائيل" بفضل إدارة أمريكا للحرب الوقت كلّه، فأخذت تستعد للانتقال للجبهة اللبنانية منذ شهور، وحينما صارت الخطط جاهزة، وجّهت "إسرائيل" ضربات تهدف إلى شلّ الحزب، من تفجير البيجرات واللاسلكي إلى اغتيال إبراهيم عقيل إلى اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، في خطوة تمهيدية لتأسيس واقع سياسي جديد يجري تعزيزه بعملية برّية متدرجة
وإذن، كانت أمريكا تريد حربا إقليمية يمكن السيطرة عليها، تنتقل فيها من مكان إلى آخر، وتعمد فيها إلى تعمية الخصم، وتقييد فاعليته، بإنتاج سياسات التضليل وكسب الوقت. ويمكن ملاحظة أنّ الولايات المتحدة غطّت الحرب الإسرائيلية على لبنان بالأساليب نفسها التي غطّت بها الحرب على غزّة، فالخطوط الحمراء الأمريكية بخصوص رفح انمحت تماما، وهكذا انمحت الاعتراضات الأمريكية على الدخول البرّي إلى لبنان.

لا يعني ذلك أنّ الحرب بدأت وأمريكا قد وضعت في رأسها سلفا أنّها ستصل بها إلى لبنان وربما تاليا إلى البرنامج النووي الإيراني أو تغيير النظام في إيران، ولكنها وضعت في رأسها الفحص المتدرج للاحتمالات السياسية والعسكرية، بإنجاز الأهداف خطوة خطوة، وذلك بالاستناد إلى المشاريع الموضوعة أصلا منذ عقود لتغيير الشرق الأوسط، والتي ظلّت تتجدد مرورا بخطة ترامب، وصولا لمشروع التطبيع الذي جاءت به إدارة بايدن، وبالعودة إلى مشروع المحافظين الجدد والذي كان من معالمه حرب تموز/ يوليو 2006 مع حزب الله، بعد حرب العراق 2003، إذ أفشل صمود الحزب في تموز 2006 محاولة الانتقال بالمخطط من البوابة اللبنانية.

كان دائما ثمّة خلاف بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" حول كيفية التعامل مع الخطر الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني على التوازن في المنطقة ومن ثمّ التفوق الإسرائيلي، ولكن الخلاف لم يكن أبدا على كونه خطرا ولا على ضرورة إزالته، ولكن فقط على الكيفية؛ هل يكون بالحرب أو بالضربات التي من شأنها أن تستدعي الحرب، أم بالحصار وتحريض الشعب على نخبته الحاكمة ومحاولة العبث بالنخبة الحاكمة واللعب على تناقضاتها انتظارا لوفاة المرشد. ومن الممكن، المنطق المتدرج للحرب من الممكن أن يقف عند حدود معيّنة، أدناها توفير الموقع السياسي الأفضل للاحتلال ليتمكن من فرض شروطه من موقع الأقوى، وأعلاها تدحرج الحرب بحسب المعطيات الميدانية والسياسية وصولا إلى ما يسميه "تغيير الترتيب في الشرق الأوسط"، وفي المنتصف بينها فرض منطقة عازلة في جنوبيّ لبنان، واستمرار السعي لتفكيك حزب اللهوالحالة هذه، أن تكون وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، قد كانت عملية اغتيال في سياق التأثير على توازنات النظام الراهنة، وعلى مستقبله. وترجيح نظرية الاغتيال هذه بات له رواج الآن في أوساط المراقبين أكثر من قبل.

هل من الممكن أن تصير الإدارة الأمريكية الآن إلى قناعة بإمكان إنجاز الأهداف ضدّ إيران بتطوير مسار الحرب؟! هذا يبقى احتمالا قائما لا ينبغي إغفاله، وقد سبق لي التحذير من استبعاد نقل الحرب الموسعة إلى لبنان في مقالة كتبتها في 24 حزيران/ يونيو بعنوان "عن خيارات الاحتلال الصعبة.. هل من مواجهة أوسع مع حزب الله؟"، تحاول أن تقرأ خيارات الاحتلال التي من الممكن أن تغري بها إنجازاتُ الحرب، أو الوضع الاستراتيجي القائم الذي لا يمكن أن يقبل الاحتلال باستمراره. وبالمنطق نفسه، فإنّ المنطق المتدرج للحرب من الممكن أن يقف عند حدود معيّنة، أدناها توفير الموقع السياسي الأفضل للاحتلال ليتمكن من فرض شروطه من موقع الأقوى، وأعلاها تدحرج الحرب بحسب المعطيات الميدانية والسياسية وصولا إلى ما يسميه "تغيير الترتيب في الشرق الأوسط"، وفي المنتصف بينها فرض منطقة عازلة في جنوبيّ لبنان، واستمرار السعي لتفكيك حزب الله.

هذا يعني أنّ الحرب شاملة، ولكن بالتدريج، والخطوات التالية في هذا المسعى المتدرج ليست محسومة سلفا، وإن كانت الخطط كلها موضوعة سلفا، ومن ثمّ فالقرار بالتأكيد يهتدي بتلك الخطط، ولكنه يتحدد وفق المعطيات السياسية والميدانية، بحيث يتبيّن هل ستفضي هذه الخطوة في الحرب إلى خطوة أخرى أم لا، وإن كان ثمّة خطوة أخرى فما هي؟

x.com/sariorabi

مقالات مشابهة

  • حرب شاملة ولكن بالقطعة! كيف تدير أمريكا هذه الحرب؟
  • سفير إسرائيلي يكشف هدف عمليات لبنان.. وخطأ 1982
  • ريال مدريد لإيجاد أفضل نسخة.. وبايرن للثأر من هزيمة 1982
  • السويلم: أنا لا أطبل ولكن الهلال ما فيه حيله وسينتصر غدًا .. فيديو
  • وزير الإعلام : تصريحات المدعو نصر الله حول مأرب كشفت عن حجم المؤامرة التي كانت تستهدف هذه المحافظة البطلة
  • طلاب الدفعة (26 طب) مارسوا نفس الفوضي التي كانت تحدث في الخرطوم فتم طردهم الى السودان
  • اجتياح لبنان واللغم التوراتى
  • نائب حسن نصر الله يكشف أسماء القيادات التي كانت مع الأخير ولقيت مصرعها بعملية الاغتيال بضاحية بيروت الجنوبية
  • الوزير صباغ: استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية منذ 1967 بما فيها الجولان السوري وارتكابه جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب لا يزال شاهداً ماثلاً على إخفاق الأمم المتحدة في إنهاء هذا الاحتلال العنصري التوسعي ويمثل دليلاً دامغاً على منع الولايات
  • "البث الإسرائيلية": الولايات المتحدة كانت على علم بالغارات على الحديدة