يعد قتل المدنيين من الجرائم الكبيرة تحت القانون الدولي الإنساني، وحمايتهم تعد من أهم ركائزه التي بني عليها هيكله من العقوبات والمحاكمات والقوانين، وبالتالي، ليس لدولة أو جيش التصريح بقتل المدنيين علنا، ولذا يتفنن صناع القرار في إيجاد التبريرات لتفسير قتل المدنيين في الحروب.

وفي خضم العدوان الإسرائيلي على غزة الآن -الذي وصف من حقوقيين بأنه إبادة جماعية– يحاول جيش الاحتلال في كل مرة تبرير مقتل وجرح أكثر من 75 ألف فلسطيني، وادعى أن قتلهم لم يكن مقصودا أو أنهم كانوا مجرد أضرار جانبية.

ولكن الحجة المفضلة لدى السياسيين والإعلاميين المناصرين لإسرائيل لتبرير عدد المدنيين الفلسطينيين الذين قتلوا على يد الجيش الإسرائيلي وصواريخه هي لوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وادعاء أنها تجعل من الفلسطينيين دروعا بشرية ضد الجيش الإسرائيلي.

ففي تصريحات لشبكة "سي إن إن" قالت كارين حاجيوف المتحدثة باسم الجيش الإسرائيلي "بصفتنا جيش يلتزم بالقانون الدولي والمعايير الأخلاقية، نخصص الكثير من الموارد لتقليل الأذى الذي يتعرض له المدنيون الذين غصبتهم حماس على أداء دور الدروع البشرية. فحربنا ضد حماس وليست ضد شعب غزة".

على من تقع المسؤولية؟

ترسم تهمة الدروع البشرية صورة وحشية في خيال المستمع لرجال مسلحين يستخدمون النساء والأطفال لحماية أنفسهم، وبالتالي تبرر ضرورة استمرار القتال حتى إن أدى ذلك لقتل المدنيين، كما أن هذه الصورة هي محاولة لإسقاط المسؤولية التي يتحملها المهاجم.

ويشير المصطلح إلى أي "مدني يوضع أمام هدف عسكري، بحيث يردع كونه مدنيا العدو عن مهاجمة ذلك الهدف".

إن حماية المدنيين أحد أسس القانون الدولي الإنساني، وبالتالي تحظر مجموعة متنوعة من الصكوك القانونية استخدام الدروع البشرية بما في ذلك اتفاقيات جنيف لعام 1949، كما تعد المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ونظام روما الأساسي استخدام الدروع البشرية جريمة حرب.

ولكن ما يغفل عنه الكثيرون هو أنه حتى إذا لجأ طرف ما في الحرب إلى استخدام الدروع البشرية، فإن الطرف المهاجم لا يزال ملزما بموجب القانون الدولي الإنساني بالتمسك بمبادئ الاحتياط والتناسب، أي أن على الطرف المهاجم أخذ كل معايير الاحتياط التي من شأنها تقليل عدد الضحايا المدنيين ويجب على الميزة العسكرية المرجوة من الهجوم أن تكون متناسبة مع قوة الهجوم التدميرية وحصيلة الأرواح الناتجة عنه.

وإن وجد الطرف المهاجم أن العملية العسكرية قد يفوق ضررها فائدتها فيجب عليه وقفها وتصبح الهجمة محظورة تحت القانون الدولي الإنساني، ويعني ذلك أنه في حين أن استخدام الدروع البشرية محظور، فمن الممكن لهجمة أن تكون قانونية إذا ما كانت متناسبة.

ماذا يقول القانون الدولي؟

وقانونيا، هناك نوعان من الدروع البشرية، طوعية وغير طوعية، وينطبق التصنيف الأول على المدنيين الذين يعرضون أنفسهم للخطر لحماية أشخاص أو مواقع أو أشياء قيّمة لديهم، أما الآخر فيشمل المدنيين الذين يستخدمهم طرف محارب لحماية نفسه.

وتنص مواد القانون الدولي على حماية المدنيين من أخطار العمليات العسكرية ما لم يشاركوا مباشرة في أعمال تضر بالعدو، ولكنه لا يوضح ما إذا كان جعل المدنيين من أنفسهم دروعا بشرية طوعية يعد مشاركة مباشرة في النزاع.

وفي العدوان على غزة، بررت إسرائيل هجومها على مشفى الشفاء، بالقول إن هناك مقرا لقيادة حماس تحته، وبأن الحركة استخدمت المدنيين فيه دروعا بشرية، ولكن وبعد دخول الجيش الإسرائيلي للمشفى، وُجد أن المزاعم الإسرائيلية لم تقدم حججا مقنعة تبرر الهجوم، وقصف المدنيين داخل المستشفى وقتلهم.

ولطالما سخّرت إسرائيل مفهوم الدروع البشرية لشرعنة هجماتها، رغم النقد العالمي المستمر لذلك، ويقول الباحث تشارلز أندرسون إن الجيش البريطاني استخدم الفلسطينيين دروعا بشرية في محاولته لقمعهم، وورث الجيش الإسرائيلي الممارسة بعد ذلك.

شهادات دولية

وإذا ما عاينا الأدلة نجد أن الطرف الوحيد في النزاع الحالي الذي استخدم الدروع البشرية بشهادة وتوثيق المنظمات الإنسانية والعالمية والحقوقية هو إسرائيل، ورغم قصص الضحايا التي لا تنتهي في كل حرب تشنها إسرائيل على غزة، يتعسر في كل مرة جمع الأدلة التي تدين الاحتلال رغم أنها تملأ المواقع، ومقاطع الفيديو، والكتب، والمقالات الأكاديمية.

وجعلت إسرائيل استخدام الدروع البشرية سياسة حربية معلنة لجيشها خلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 سبتمبر/أيلول 2000، وكان أفراد جيش الاحتلال يقتحمون البيوت عشوائيا ويجبرون ساكنيها على مساعدتهم في تحقيق أهدافهم العسكرية.

وتضمنت الممارسات استخدام الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين دروعا بشرية في 2002  كإجبارهم على دخول بيوت الملاحقين للتأكد من وجودهم، ودخول المباني المشتبه بأنها مفخخة، وجعلهم درعا بين أنفسهم وبين جماهير الفلسطينيين الغاضبة لردع الطلقات أو الحجارة في اتجاههم، والاختباء وراء ظهورهم وإطلاق النار، وحبسهم في البيوت التي اقتحمها الجيش واتخذها مقرا لمنع المقاومة من الهجوم، وغصبهم على التقاط بعض الأشياء من الشارع المشتبه بأنها مفخخة.

تحايل والتفاف على القانون

وبعد مناشدات وتقارير قدمتها 7 مؤسسات حقوقية إحداها منظمة بتسيلم الحقوقية؛ حظرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية هذه السياسة، وعلقت "زهافا غال أون" نائبة حزب ميرتس اليساري قائلة: "لقد قضت المحكمة العليا بأنه لا يمكن لجيش في دولة ديمقراطية أن يتصرف تصرف العصابات الإرهابية".

واحتج الجيش الإسرائيلي على هذا الحكم لرغبته بالاستمرار في جعل الفلسطينيين دروعا بشرية، ولجأ لتغيير السياسة وجعلها تطوعية، أي أن الجيش المدجج بالسلاح يمكنه أن يطلب من السكان التطوع لخدمة مصالحه.

واستمرت الممارسة تحت غطاء قانوني مختلف، ورغم حظر المحكمة العليا الإسرائيلية استخدام الفلسطينيين في أي نشاط عسكري، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يلقِ لذلك بالا.

وعلى مدار المواجهات والاشتباكات والحروب التي خاضها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو غزة، فقد سجلت الهيئات الحقوقية الدولية حالات كثيرة استخدم فيها جنود الاحتلال المدنيين دروعا بشرية.

وفي المقابل، فقد نشرت منظمة العدل الدولية تقريرا مطولا قالت فيه "إنها لم تجد دليلا واحدا يثبت أن حماس اتخذت المدنيين دروعا بشرية رغم التهم المتراكمة التي وجهتها إسرائيل للحركة".

قنابل غير موجهة

وخلال العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة -وفقا للتقييمات الأميركية- فإن نصف الذخائر والقنابل التي ألقيت على القطاع غير موجهة.

ووفق تحليلات الخبراء التي جمعتها الصحفية جوليا فرانكل من وكالة أسوشيتد برس فإن حرب إسرائيل تعتبر من أكثر الحروب فتكا وخطرا من بين الحروب المعاصرة.

واستدلت فرانكل باستنتاجات الباحثين كوري شير، وجامون فان دين هوك من جامعة نيويورك وجامعة أوريغون، وهما خبراء في رسم الخرائط لتقييم الأضرار أثناء الحروب.

ووجد الباحثان أن إسرائيل قد حطمت ثلثي المباني في شمال قطاع غزة وربع المباني في جنوب خان يونس، وأعربا عن قلقهما من استخدام إسرائيل القنابل غير الموجهة على مساحة ضيقة ومكتظة سكانيا مع اليقين بأنها ستؤدي لقتل المدنيين.

ويعلق الباحث نيف غوردون في مقابلة مع مجموعة "مشروع البحوث والمعلومات حول الشرق الأوسط" قائلا إن إسرائيل عبر ادعائها المستمر بأن 20 ألف مدني كانوا دروعا بشرية، تحول المدنيين من أبرياء محميين إلى مشاركين غير مباشرين بالحرب.

وأضاف أن "ضم شعب بأكمله تحت مسمى الدروع البشرية ينخر بالعديد من الحدود القانونية التي وضعت لحماية المدنيين، ويوسع نطاق دائرة العنف الذي قد تستخدمه إسرائيل ضد الفلسطينيين".

ويرى خبراء حقوقيون أن تسمية 20 ألف مدني بـ"دروع بشرية" مع استمرار قصفهم بقنابل غير موجهة لقتلهم، هو مثال لكيفية استخدام بعض السياسيين المصطلحات القانونية لإضفاء جو من الشرعية على تصرفات تنتهك القانون الدولي الإنساني.

ويضرب آخرون مثالا لذلك، بقولهم إنه "إذا استخدم إرهابي المدنيين دروعا بشرية في مبنى في وسط باريس أو نيويورك مثلا، فهل من المنطقي تدمير المبنى بأكمله وسط المدينة؟ أو هل لأحد من عناصر الأمن أن يقترح حلا كهذا؟ عند طرح هذه الأسئلة يتبين للسامع مدى غرابة وفظاعة الافتراضات التي تحوم وراء هذه التبريرات".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القانون الدولی الإنسانی الجیش الإسرائیلی المدنیین من دروعا بشریة

إقرأ أيضاً:

واشنطن بوست: إسرائيل تهدم شمال غزة وتجبر آلاف الفلسطينيين على الفرار

ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن إسرائيل تنفذ عمليات هدم واسعة النطاق وتقيم تحصينات عسكرية في المناطق السكنية في شمال غزة حيث أجبرت عشرات الآلاف من الفلسطينيين على الفرار من منازلهم، وفقا لصور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو والمقابلات التي تم التحقق منها.


وقالت الصحيفة -في تحليل حول الأوضاع في غزة أوردته اليوم الثلاثاء- إن الجيش الإسرائيلي أعلن أنه شن هجوما جويا وبريا في الخامس من أكتوبر الماضي في أقصى أجزاء شمال غزة - جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون - لطرد عناصر حماس الذين أعادوا تنظيم صفوفهم هناك وأن العملية "ستستمر طالما كان ذلك ضروريا".

طرد أكثر من 100 ألف فلسطيني 


وأضافت أنه تم طرد أكثر من 100 ألف فلسطيني من المناطق المتضررة على مدار الأسابيع الحادية عشر الماضية، وفقا للأمم المتحدة، مما ترك عدد يقدر بنحو 30 ألفا إلى 50 ألف شخص- وهو عدد أقل من ثمن السكان ما قبل الحرب.
وتقول جماعات إنسانية إن المساعدات بالكاد وصلت إلى المنطقة منذ بداية أكتوبر بسبب القيود الإسرائيلية، ويحذر الخبراء من أن المجاعة ربما تكون قد تفشت بالفعل في بعض الأماكن.

القوات الإسرائيلية قامت بهدم أحياء بأكملها


ووفقا لتحليل أجرته صحيفة واشنطن بوست لصور الأقمار الصناعية عالية الدقة، فإن القوات الإسرائيلية قامت بهدم أحياء بأكملها، وإقامة تحصينات عسكرية وبنت طرقا جديدة وذلك مع إخلاء المناطق من الفلسطينيين. وتُظهِر الأدلة المرئية أن ما يقرب من نصف مخيم جباليا للاجئين تم هدمه أو تطهيره بين 14 أكتوبر و15 ديسمبر، الأمر الذي أدى إلى ربط طريق قائم في الغرب بمسار مركبات موسع في الشرق - مما أدى إلى إنشاء محور عسكري يمتد من البحر إلى السياج الحدودي مع إسرائيل.
ونسبت الصحيفة إلى محللين قولهم إن إنشاء هذا الممر، وتطهير مساحات من الأرض على جانبيه وبناء مواقع استيطانية محمية على شكل مربع يشبه تحويل الجيش الإسرائيلي لممر نتساريم، وهي منطقة عسكرية إسرائيلية استراتيجية في وسط غزة. وفي حين قطعت القوات الإسرائيلية ممر نتساريم عبر منطقة زراعية قليلة السكان إلى حد كبير، إلا أن عمليات إسرائيل في الشمال تتركز في الأحياء الحضرية الكثيفة - مما أدى فعليا إلى تدمير المدن الفلسطينية الشمالية.

إنشاء منطقة عازلة


وأشارت واشنطن بوست إلى أنه في حين لم يقدم الجيش الإسرائيلي أي تفسير علني لأنشطته في التطهير والتحصين في الشمال، قال المحللون إن المحور الذي تم إنشاؤه حديثا يمكن أن يفصل أقصى الشمال عن مدينة غزة، مما يسمح لإسرائيل بإنشاء منطقة عازلة لعزل مجتمعاتها الجنوبية التي تعرضت للهجوم في 7 أكتوبر 2023.
وأوضحت الصحيفة أن الجيش الإسرائيلي أصدر أوامر إخلاء مع تطور الهجوم، وطلب من المدنيين الفرار من أجل سلامتهم، دون أي تفاصيل حول موعد السماح لهم بالعودة - أو ما إذا كان سيُسمح لهم بذلك، فيما يظل مطلب حماس بالسماح للعائلات بالعودة إلى الشمال، خارج ممر نتساريم، خلال أي توقف في القتال نقطة خلاف رئيسية في المفاوضات مع إسرائيل بشأن وقف إطلاق النار المحتمل واتفاقية إطلاق سراح الرهائن.


وأشارت الصحيفة إلى أن الجيش الإسرائيلي رفض الإجابة على أسئلة محددة حول نتائج التحليل الذي أجرته. وفي بيان عام، قال الجيش إنه يستهدف "أهدافا عسكرية حصريا" وأنه "يتخذ جميع التدابير الممكنة للتخفيف من الأذى الذي يلحق بالمدنيين"، بما في ذلك إخبارهم بإخلاء "مناطق القتال العنيف".


ومضت الصحيفة الأمريكية تقول إنه حتى الأول من ديسمبر، تم تدمير ثلث المباني جميعها في محافظة شمال غزة منذ بداية الحرب - بما في ذلك أكثر من 5000 في جباليا، وأكثر من 3000 في بيت لاهيا وأكثر من 2000 في بيت حانون، وفقا لأحدث البيانات من مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة. وأظهرت البيانات أن ستين بالمائة من الدمار في مخيم جباليا للاجئين وقع بين 6 سبتمبر وأول ديسمبر، واستمرت عمليات الهدم والتشريد في الأسابيع التي تلت ذلك.
وأظهرت صورة التقطتها الأقمار الصناعية في الخامس عشر من ديسمبر دمارا واسع النطاق في بيت لاهيا وجباليا، حيث تحولت سوق ومسجد ومتاجر ومنازل إلى أكوام من الخرسانة والغبار. وفي الرابع من ديسمبر، أجبر الجيش الإسرائيلي 5500 شخص كانوا يحتمون في المدارس في بيت لاهيا على الفرار جنوبا إلى مدينة غزة، بحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.


وأضافت الصحيفة أنه في مقابلات أجريت عبر الهاتف والرسائل النصية على مدى عدة أسابيع، وصف 10 من سكان شمال غزة لصحيفة واشنطن بوست الاستهداف الواسع النطاق للأحياء المدنية من جانب القوات الإسرائيلية، والإخلاءات الجماعية الخطيرة حيث تم فصل الرجال والفتيان المراهقين عن النساء والأطفال، فضلا عن الانتهاكات التي تعرضوا لها.
 

مقالات مشابهة

  • محافظ طولكرم: الاحتلال الإسرائيلي يتعامل بدموية مع الفلسطينيين
  • إعلام إسرائيلي: نتساريم محور وهمي يستخدمه الجيش لقتل الفلسطينيين
  • طبيب نفسي إسرائيلي يكشف عن فظائع وجرائم وحشية ارتكبها الجيش ضد الفلسطينيين
  • إبطال بطاقات الائتمان في تركيا التي تستخدم هذه الكلمات والأرقام في كلمات المرور
  • واشنطن بوست: إسرائيل تهدم شمال غزة وتجبر آلاف الفلسطينيين على الفرار
  • «أونروا»: إسرائيل تقتل طفلا كل ساعة في غزة
  • الجيش الإسرائيلي: دوي صفارات الإنذار في عدة مناطق بوسط إسرائيل إثر إطلاق صاروخ من اليمن
  • إصابة عشرات الفلسطينيين بالاختناق خلال مواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي في قرية يتما بالضفة الغربية
  • حركة فتح: إسرائيل تواصل عدوانها على الفلسطينيين وسط صمت دولي من العالم
  • دفاع المجني عليه في قضية ممرض المنيا يطالب بإضافة تهمة المتاجرة بالأعضاء البشرية للمتهمين