ناصر أبوعون

في صفحة وجه شيخ الشعراء الأردنيين سمير عبد الصمد نورٌ يضيء بمصباح اليقين عتمة الاغتراب، ويبدد حُلكة الغربة الجاثمة على صدر الفراغ، وبراءةٌ تتدفق فيضًا رقراقا وتتنزَّل بردًا وسلاما على جُلسائه فتسمو أرواحهم إلى سدرة الرضا، وكأنما الأقدار- تحت مشيئة الله- اختارت له أرض عُمان الطيِّبة فعاش بين ظهراني أهلها ثلث قرنٍ يقاسمهم رغيف المودّة، وجلس على بِساط سماحتهم فاستطابت نفسه عذوبة حديثهم، فأسلم واستسلم لملاك الشعر، حتى إذا ما اتكأ على نمارق أفئدتهم، تغنى بجميل أخلاقهم.

وقع الشاعر سمير عبد الصمد في حبّ عُمان من قصيدة الطبيعة الأولى التي رسمتها يد الله على وجوه البشر والحجر حتى إذا ما دخل محراب الشعر خلع نعل الخرافة والهوى، وارتدى بُردة البساطة، وفاض القصيد صورا تترى، وإيقاعًا شاديا، وتخلّقت على شفتيه قوافٍ تتغنى، وكلمات يقدُّها ظهر الحنين، تتشكّل قصائد ثرة بالوفاء على تفاعيل العرفان والولاء لبلاد تنفس هواءها في فجر المحبة، وذاق عذوبة عطائها، واستصحب كبيرها وصغيرها وبسط يد العشق فبايعها، وغمس ريشة إبداعه في بحر اللغة ورسمها قصائد وطنية تتدفق إنسانية على خلفية من بياض الروح.

في هذه القصيدة نسج الشاعر سمير عبد الصمد موسيقى قصيدته على أنوال (بحر الكامل التّام)، وعزف نوتة عشقٍ في وطنه الثاني عُمان على أوتارٍ من البهاء تتصاعد نغماتها في فضاء الروح، وتسكب الحب في أكؤس من نور وبهاء على وزن: (مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ) (مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ)؛ فتفجّرت طاقته الشعرية روحًا فياضة بالحب، وتشكّلت في دوائر رحبة متأثرة برحابة هذا الباحر التام التفاعيل وأضاءت سماء القصيدة بشهب ثاقبة من الإبداع تشظت ثريات من الوجدان المشحون بعواطف صادقة لوطنه الثاني عُمان، الذي احتضنه قرابة ربع قرن ونيف.

وعلى صعيد آخر كشف الشاعر عن براعته وملكته الشعرية في اختيار (الوصل) في قافية القصيدة، وهذا النوع من حروف القوافي يعتمد على توظيف حرف المدّ وما يُحدثه من إشباع لحركة حرف الرويّ فتولّد عنها معانٍ تنزُّ بالفخار، وترتفع بالحنجرة إلى أقاصي الأنفة والكبرياء النابعة من بحر الأصالة العمانيّ الزاخر بالتواضع النابت أشجارا في نفوسهم والمرتكز لضمير حيّ يأبى الضيم مرفوع الرأس شامخ المحيا.

لم تأتِ هذه القصيدة من فراغ إنما انطلقت من أرضية تاريخية مشتركة تقاسمتها سلطنة عُمان والمملكة الهاشمية الأردنية كتفًا بكتف، وفيها تطابقت الرؤى السياسية، ومازال التاريخ ومن عاصروا عقد الثمانينيات من القرن العشرين شهودًا على دور عُمان والأردن في إعادة مصر إلى الحضن العربيّ، وكيف سطعت شمس العروبة من مسقط وعَمّان لتبدد ظلمة المقاطعة العربية التي ضربت أستارها على القاهرة وعزلتها عن محيطها، وأذابت جبال الجليد التي ظلّت الصهيونية تُراكم طبقاتها لتقطع بها أوصال العروبة وتحقق مآربها الخبيثة، وتطلق ضِباعها بكل قطر عربيّ لتنهش أصالته وتقيم بيت عنكوبتها في قلب الشرق الأوسط الكبير، وتغرز خنجرها في خاصرة العروبة.. لكن عُمان منذ فجر حضارتها ويشهد القاصي والداني ما أناخت إبلها على أعتاب الضيم، ولا طأطأت رأسها أمام مستعمر؛ فهي كما وصفها الشاعر الأردنيّ سمير عبد الصمد [(تَسمو عظيماتُ الأماني للذُّرا // في واحةِ الإيمانِ واثقةَ العُرى) (تَرقى عُمانُ، ويزدَهي تاريخُها // تُعلي يداها للحضارةِ مِنبَرا)، (وتَمدُّ نحوَ المجدِ باسقَ نَخلِها // تَستقبلُ النُّورَ النَّقيَّ إذا سَرى)].

ومنذ المؤسس الأول للدولة البوسعيدية أحمد بن سعيد البوسعيدي (1744-1783) الملقب بالمتوكل على الله مازال ربُّ الأرباب وخالق الأسباب يمنحها رجالا يحملون راية الحرية والأنفة والكبرياء على طريق نهضة متجددة غايتها وأداتها المواطن العُمانيّ، وعينُها على الإنسانية جمعاء تستشرف الوحدة الجامعة لها. [(وطنٌ توشَّحَ بالجلالِ وبالسَّنا // يُعلي البناءَ مُؤيَّدًا ومُظَفَّرا) (مُتلألِئًا في كُلِّ نَجمٍ ثاقبٍ // مُتَفَرِّدًا في الأفقِ بدرًا نيِّـرا) (هذي عُمانُ، الخالدونَ رجالُها // غرسوا بها غُصنَ العطاءِ فأثمَرا) (وقِلاعُها حِضنُ السلامِ وحِصنُهُ // وعرينُها بالأكرمينَ تَسوَّرا)].

ومع بداية العقد الثالث من القرن العشرين قيض الله لها سلطانا يسير على درب السابقين الأولين، مستهديا بمبادئهم المنبثقة من الشريعة الغراء، وآخذًا بأسباب التقدم العصرية، ومتوسِّلا بأساليب الحضارة الحديثة؛ عينُه على المستقبل، وفي قلبه بني وطنه وفلذات أكباده، وفي مخيلته نهضة تُجدد نفسها كل حينٍ بإذن ربِّها، تقوم عُمُد بنائها على أكتاف أبنائها، وهذا ما رصده الشاعر الأردنيّ سمير عبد الصمد في قصيدته كشاهد عيان على النهضة العُمانية المباركة وهو الذي عاصر وضع لبناتها الأولى مع السلطان قابوس –طيّب الله ثراه-، وشَهِدَ تحولاتها الإيجابية والمتسارعة في التخطيط العُمرانيّ والبناء التنمويّ، والثورة الإدارية التي قادها السلطان هيثم بن طارق – أيّده الله – فكتب يقول: [(في عَهدِ هيثمَ أشرقَت آمالُها // وتوَّحدَت راياتُها فوقَ الذرا) (يا صاحبَ المجدِ الأثيلِ مَكانةً // تَمضي بدربِ الـمُنجَزاتِ مُعَمِّرا) (تَزهو بِهِمَّتِكِ العظيمةِ نَهضةٌ // وَكَفى بِفِعلِكَ في المَحافِلِ مُخبِرا) (ملأت مآثرُك النُّفوسَ مَهابَةً // فَسَقيتَها بالحُبِّ ماءً كَوثرا) (كُلُّ العيونِ، وأنتَ مِلءُ ضيائها // قامت على عرشِ الجمالِ لِتنظُرا) (هَبَّت عُمانُ لِتلتقي سُلطانَها // نَثَرَت مَشاعرَها بِساطًا أخضرا)].

وعلى حين لهفة جاءت لحظة الفراق الصعب مشوبة بالحنين الجارف لملاعب الصبا، فاختار الشاعر سمير عبد الصمد بملء إرادته مغادرة العاصمة مسقط بجسده مستودعًا تاريخه، وكتاب ذكرياته، وديوان شعره بين جوانح أهل عُمان وساكنيها، تحثه خطى قلبه، ويسابق نبض روحه نحو بيادر الوفاء للأردن وعشائرها ليحطّ رحاله على أعتابها تسّاقط منها رطب الوفاء لعمان وأهلها الطيبين الذين أوجز فيهم القول منشدًا:[(هُم بالعقولِ النيِّراتِ أعزةٌ // بِقلوبِهم رَفَّ الجمالُ مُنَوَّرا) (لم يُضمِروا إلا النقاءَ سَريرةً // لم يرتدوا إلا السماحةَ جَوهرا) (يبنونَ بالقِيمِ الأصيلةِ صَرحَهم // عُنوانُ حَقٍّ بالفضائلِ أزهرا) (هذا هو الوطنُ الجميلُ على المدى // بأريجِه روضُ الإباءِ تَعَطَّرا)].

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

عام على العدوان.. شوارع غزة تتحول لمقابر بانتظار وداع لائق لشهدائها

في الذكرى السنوية الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تستمر شوارع القطاع في احتضان جثامين أبنائها، شاهدة على ألم لا يُحتمل وعائلات ما زالت تنتظر لحظة وداع تليق بأحبائها.

آمال الأسود، من حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، تواصل يوميا زيارة قبري زوجها سامي وصهرها مصطفى، اللذين دُفنا بساحة ملعب كرة قدم خلف منزلهما، بعدما استشهدا خلال غارة جوية إسرائيلية في يناير/كانون الثاني 2024.

آمال، وهي أم لـ8 أبناء، تجلس قرب قبر زوجها، تحدثه بصوت يملؤه الشوق، وتخنقه الدموع: "إن شاء الله تكون سامعني".

وفي حديثها للأناضول، تضيف آمال بحزن: "زوجي خرج لمساعدة شقيقته في جلب بعض الأغراض من بيتها ببلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وكان صهري يرافقه، لكن في طريق عودتهم، استهدفتهم طائرات الاحتلال بصاروخ، فاستشهدا معا".

وعندما تعذر على العائلة الوصول إلى المقابر الرسمية بسبب القصف المتواصل من قبل الجيش الإسرائيلي وتعمده قطع الطرقات وتدمير البنى التحتية واستهداف المدنيين، لم تجد آمال وأقاربها مكانا سوى ساحة ملعب خلف المنزل لدفن أحبائها.

ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لجأ كثيرون مثلها إلى دفن الشهداء في مقابر مؤقتة وسط الشوارع، وفي ساحات المنازل والملاعب، وحتى على الأرصفة، وغيرها من المرافق، وباتت هذه المقابر العشوائية رمزا للمأساة الإنسانية المتفاقمة بالقطاع.

ووفقا لإحصائية صادرة عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في سبتمبر/أيلول الماضي، فإن حرب إسرائيل على غزة خلفت أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية لاحتضان جثامين من قضوا تحت نيران قصفها المتواصل.

أبرز المقابر الجماعية العشوائية في قطاع غزة (المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان) حلم الوداع المؤجل

ومع مرور عام على العدوان، لا يزال كثير من عائلات شمال غزة تنتظر فرصة نقل جثامين أحبائها إلى مقابر تليق بهم، لكنها تصطدم بعدة عقبات، من بينها اكتظاظ المقابر الرسمية، وصعوبة التنقل في ظل استمرار القصف والدمار.

وكانت آمال قد قررت، قبل أشهر، نقل جثماني زوجها وصهرها إلى مقبرة رسمية، لكنها تراجعت بعد إصرار ابنتها النازحة إلى جنوب قطاع غزة على أن يبقيا كما هما حتى تتمكن من العودة لوداعهما.

تقول آمال: "الأفضل هو الدفن في مقبرة رسمية، لكن بعض الأهالي يخشون نقل الجثامين الآن بسبب الظروف الأمنية أو انتظارا لعودة النازحين".

وتشير إلى أن كثيرا من القبور العشوائية المؤقتة ما زالت منتشرة في شوارع غزة وبين البيوت.

ملاعب تحولت لمقابر

في حي الشيخ رضوان، تحول ملعب التوحيد إلى مقبرة عشوائية مؤقتة منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية.

ويروي محمود أبو فول، أحد سكان الحي، للأناضول ما حدث قائلا: "لم يتمكن الناس من الوصول للمقابر الرسمية لدفن الشهداء بسبب استهداف الاحتلال للطرقات والأهداف المتحركة في شمال القطاع، فتوجهوا إلى الملعب، حيث دُفن هناك حوالي 250 شهيدا، وما زالت معظم جثامينهم في مكانها حتى اليوم.

يضيف محمود: "نقل الجثامين بعد هذا الوقت يحتاج إلى فرق مختصة وتكاليف كبيرة، والأهالي اليوم بالكاد يستطيعون توفير أساسيات الحياة".

تهديد الكلاب الضالة

ليس فقط خطر القصف هو ما يواجه أهالي غزة، بل أيضا تهديدات من نوع آخر.

فقد اضطر إبراهيم المصري -النازح مع عائلته من بلدة بيت حانون إلى مخيم جباليا للاجئين شمال غزة- لدفن شقيقه محمود الذي قُتل إثر إصابته بشظايا قذيفة مدفعية أطلقها الجيش الإسرائيلي، في أرض زراعية بعدما تعذر عليه الوصول للمقبرة الرئيسية.

وفي حديث للأناضول، يقول المصري: "ما زال جثمان شقيقي هناك منذ ديسمبر/كانون الأول بسبب صعوبة الوصول للمقبرة الرسمية في بيت حانون لإعادة دفنه هناك".

ويضيف "نزور القبر يوميا خوفا من الكلاب الضالة التي نبشت العديد من القبور بالشوارع"، قبل أن يقول والألم يعتصر قلبه "من حق كل ميت أن يُدفن بطريقة آدمية تحفظ كرامته، لكن ما يحصل في غزة عكس ذلك، حيث تنتشر جثامين الشهداء في الشوارع وعلى الأرصفة".

ويعرب المصري عن أمنيته في أن تنتهي حرب الإبادة الإسرائيلية قريبا وتعود الحياة تدريجيا لغزة بعد ما حل بها من دمار وموت، ونتمكن من دفن شقيقي بطريقة تليق به بوصفه شهيدا.

عدوان مستمر

ويستمر العدوان الإسرائيلي على غزة بدعم أميركي مطلق، مخلفا وراءه أكثر من 138 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وعشرات الآلاف من المفقودين، وسط دمار شامل ومجاعة قاتلة.

وبينما تواصل إسرائيل تجاهل قرار مجلس الأمن الدولي بوقف العدوان، ومطالبات محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لوقف الجرائم وتحسين الأوضاع الإنسانية بغزة، يعيش أهالي القطاع في مأساة مستمرة، لا تتوقف عند حدود الحياة، بل تتجاوزها إلى الموت أيضا.

مقالات مشابهة

  • عام على العدوان.. شوارع غزة تتحول لمقابر بانتظار وداع لائق لشهدائها
  • هيثم الغيص: أوبك تولي أهمية قصوى للحفاظ على أمن الطاقة وتلبية نمو الطلب العالمي
  • هيثم الغيص: «أوبك» تولي أهمية قصوى للحفاظ على أمن الطاقة وتلبية نمو الطلب العالمي
  • جبهة تحرير ود المكي الشاعر
  • سمير عثمان يسأل : ماذا يشجع وليد الفراج والأخير يرد.. فيديو
  • من‭ ‬يمتلك‭ ‬القصيدة‭: ‬الشاعر‭ ‬أم‭ ‬القارئ؟
  • رأي سمير عثمان ومحمد فودة في هدف مينروفيتش الملغي أمام الشرطة .. فيديو
  • أكشن مع وليد : سمير عثمان : د 48 لا يوجد ضربة جزاء للاتحاد
  • الركراكي يعلن لائحة المنتخب المغربي لمواجهة أفريقيا الوسطى في تصفيات كان2025
  • هبوط قيمة الين بعد تبدد آمال رفع بنك اليابان الفائدة