من أين يأتي التفاؤل؟
تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT
سارة البريكية
sara_albreiki@hotmail.com
مَرَّ وقت طويل على آخر رسالة تلقيتها من مؤسسة دعتني كي أتدرب فيها لمدة ثلاثة أشهر، كانت بمثابة طوق النجاة، في وقت كنت انتظر فيه بشارة أمل؛ فبعد سنوات الانتظار والتعب والدراسة، يُخيَّل لك أنك ستجد وظيفة أحلامك، فتفرح بتلك البشرى، وتنضبط وتؤدي مهام عملك على أكمل وجه؛ لتصدم بعد ثلاثة أشهر من الجهد، بأن وقتك وتعبك ذهب سدى في مهب الريح، وأن الأحلام التي رسمتها، والتخيلات التي كنت تصوغ نهايتها الجميلة باتت خيبات، وتدور هذه الحياة في وجهك، عندما يخبرك مديرك في العمل، أنه لا يوجد شاغر، وأننا سعدنا بتواجدك معنا لمدة ثلاثة أشهر وفرصة سعيدة!
تتمالك نفسك وتشعر بقوة خفية تجعلك غير مُهتم لتلك الصاعقة التي نزلت على رأسك ولكن تنتظر انتهاء ساعات العمل الطويلة وتترك كل شيء وتمضي تاركًا صندوق أحلامك على طاولة البؤس والتمني فتتوالى عليك الخيبات وأنت في طريقك إلى المنزل.
تركن تلك السيارة التي استأجرتها لمدة ثلاثة أشهر- حتى تكون إنسانًا مُنضبطًا في العمل- على حافة الطريق، وتتأمل الساعات التي قضيتها وأنت ذاهب وعائد إلى مقر عملك، وكان سقف توقعاتك الذي رسمته عاليًا ومرتفعًا، أما دعاؤك المستمر وطلبك المتكرر من الله أن تُثبت في ذلك العمل وصلوات الحاجة اليومية وتضحيتك وتظاهرك بالصحة في عز المرض وتحمل كل العقبات في سبيل أن تكون إنساناً ناجحاً.. كل ذلك ذهب وتبخّر!
إذن من أين سيأتي التفاؤل؟ وأنت شخص مُحطَّم كليًا، مرت عليك السنون العجاف وأنت في بلد يزخر بالخيرات، وتقول لنفسك: أما من وظيفة أسد بها قلة حيلتي؟ أما من وظيفة تكفيني عن سؤال النَّاس؟ أما من وظيفة تجعلني أُسخِّر قدراتي التي امتلكها لخدمة مجتمعي؟ أما من وظيفة تكون لي عونًا؟ أما من وظيفة أتكئ عليها في ظل المتغيرات الحياتية؟ أما من أذن تسمع وعقل يعي وقلب يتفكر؟!
أي تفاؤل وأنت لم تعانِ ما عنيت ولم تحس بإحساسي؟ وأن ملعقة ذهبية التي ولدت وهي في فمك لم أرها رغم أنني ناضلت وجاهدت وسعيت، ولكن لم يكن سعيي مشكورا، لعله ابتلاء أو أنها ظلمات يونس أو غياهب جب يوسف أو رياح موسمية مؤقتة أو حبال وصل مقطوعة، ولعل المسير لم يبدأ بعد، ولعلني أناجي وألوم القدر كحال بقية الخريجين الذين باتوا عالة على أهلهم وذويهم، وتقطعت بهم الأسباب وأصبح الواحد منهم يرضى بأقل الأعمال من أجل أن يحصل على قوت يومه؛ فمنهم من اتجه لبيع أصناف المأكولات على الطرقات، ومنهم من فتح حسابًا على منصات التواصل للترويج عن شيء ما يقوم به لطلب الرزق، ومنهم من بكى على الأطلال ومنهم من يفكر فيما هو أبعد من ذلك.
فمن أين يأتي التفاؤل، لا سماء تتسع للكلمات ولا بحار تعي قدر الألم الداخلي ولا جبال تثبت في وجه ذلك الخريج الذي مرت سنوات عمره وهو ينتظر ذلك الشاغر الوظيفي الذي ربما لن يأتي.
نداء..
من هنا أوجه ندائي إلى وزارة العمل للنظر العاجل والسريع واتخاذ ما يلزم لتوظيف أكبر قدر من الخريجين أصحاب درجة البكالوريوس والذين مرت عليهم سنوات وهم بانتظار الوظيفة أن يتم توظيفهم هذا العام، مع تذليل الصعاب وبعث الأمل في نفوسهم المحطمة وإيجاد شواغر وظيفية مرنة تتناسب مع هذا الوقت وهذا العمر وهذا الانتظار.
لقد مرت السنوات وأنا انتظر تلك الوظيفة وقد مرت الليالي وأنا مستلقية على طاولة أوراقي وقصائدي وذكرياتي، فمن أين يأتي التفاؤل، ولا سبيل للوصول، فهل من أحد يسمع هذا النداء؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لا شيء يأتي متأخرًا
في حدود المتاح من تصوراتنا عن الحياة، نسوق الرفض، والتذمر، ونستأنس الشكوى، وتعلو كلمة "لو".
ويسحبنا الفراغ إلى مناحيه، ومساحاته، كأن زمنًا توقف.
(1)
كان الأستاذ ياسر شورى مديرًا لتحرير إحدى الصحف الأسبوعية بوسط القاهرة، صيف عام 2009، حين طرقت بابها ضمن مجموعة متقدمين للعمل كمحرر صحفي.
حملت قصاصات أعمالي السابقة بصحف شهرية، ونصف شهرية، ودلفت إلى مكتب فسيح، بعد أن نادت السكرتيرة اسمي، وخلف بابه كان الأستاذ يجلس مندمجًا في مطالعة أوراقه، ولم تستغرق مقابلتي سوى دقيقة واحدة.
سألني عن اسمي، وبعدها طلب أن اتجه مباشرةً لإعداد موضوع للعدد القادم.
ومشيت من موقعها قبالة مجلس الوزراء إلى ميدان التحرير في حضرة سؤال اللحظة: أي موضوع، وأنا لا أعرف عن القاهرة شيئًا، ولا مصدر لي ولا دليل؟.
(2)
أن تعرف وجهتك، لا يعني بالضرورة أنك ستصل في موعدك المحدد.
ساقتني مقادير التجربة إلى آفاق رحبة، تضيق بالغرور، وتتسع بالسعي، وترك النتائج على رب السماء، وامتشقت قلمًا يتماهى مع أوراق الدشت، وأمضيت 4 أشهر داخل الصحيفة ذاتها.
وكان أن تساءل "الأستاذ" عن محرر ملف خاص بالشأن القبطي، فقيل: عبد الوهاب شعبان.
واندهش لدرجة أن استدعاني، وسألني بجدية: أين تعمل خارجًا؟..وقلت: هذه أولى تجاربي المهنية.
وابتسم، ابتسامة صافية معهودة، وقال: إنني أعد قسمًا للمتابعات الإخبارية بجريدة الوفد، وستكون معي.
(3)
اتبع حلمك، يتبعك.
رميت أمر وعد "الأستاذ" للسماء، وانتشيت متأملًا "مقر الوفد"، وهو لا يعلم أني دخلته ذات مرة قبل عام، بعد أن تحدد موعد لمقابلة حد كبار المخرجين الصحفيين لرسم ماكيت لصحيفة نصف شهرية كنت أعمل بها عام 2008.
تركت وقتذاك "مالك الصحيفة" في مكتب الإخراج الصحفي، وتنقلت بين مكاتبها زجاجية الجدران، ولحسن حظي كانت خالية تمامًا، وكان صحفيوها منشغلون بمتابعة مباراة كرة قدم.
ووقفت أمام لوحتها المتخمة بقرارات مكافآت التميز، وأضمرت أمنية متبوعة بتساؤل صامت "كيف؟".
(4)
صدق القاعدة: امض ولا تلتفت.
في الصحيفة الأسبوعية بوسط القاهرة، وبعد نحو 3 أشهر من وعد "الأستاذ"، علمت أنه حصل على إجازة مفتوحة، وانشغلت بما يلقى إلي من تكليفات متعاقبة، لحصد أعلى سقف في كشف الإنتاج.
وكان أن تفوقت لحد أنا شخصيًا لم أصدقه، لكن شيئًا ما يحدث، ولا أفهمه، الصحيفة في طريقها للإغلاق، الأجواء متوترة، المحررون يغادرون واحدًا تلو الآخر، حتى انتهى كل شيء.
ووجدتني أعود صفرًا إلى منزلي، محملًا بخيبة أمل، وكشف إنتاج متخم بالتحقيقات، والحوارات، دون جدوى.
(5)
وعند لحظة اليأس المكتمل، يشق طريق العبور.
ألجأت وجهي للحائط، متوسدًا خيبتي كابن أكبر وضعته الأقدار ذات فجأة في موضع المسؤولية، وأقامته كجدار تتكئ عليه أم، وأسرة.
ورن هاتفي الصغير على غير عادته، وفوجئت بصوت جنوبي يمزج بين وداعة الوادي، وصلابة الجبل، أنت فين يا عبدالوهاب؟.
قلت: في الشارع يا أستاذنا؟.. وفهم أني في صحيفة تسمى "الشارع"، حتى أعدت عليه إجابتي مفصلة: أنا بلا عمل، لقد عدت إلى بيتي بعد إغلاق الصحيفة.
وطلب بتفاؤل الواثق أن آتي إلى "الوفد".
(6)
وبلا ترتيب، ذهبت مصحوبًا برجفة القلق، وعكار التجارب.
وهناك، وجدت رهانًا معقودًا عليّ، وإيمانًا لا ينفصل عن يقينه بقدرتي على الإجادة، وكنت وحدي وقافًا على رهبة البداية، وقلة الخبرة.
لكن، على أية حال بدأت، وصاحبتني مراحل أفول كبرى، وعثرات، ونكبات، علقتها على دعائم الصبر الجميل، ودعم الأصدقاء، وكنت آتيه شاكيًا: فيحيطني بذراعيه، وهو يقول: عد على يدك عامين/ ثلاثة على الأكثر، وستصبح عضوًا بنقابة الصحفيين.
وكل وعد "ياسري" ألقي به في فضاء الله، دون تشبت بـ"متى؟".
(7)
وغربتنا بعد أجواء طارئة على "الوفد"، من تجربة إلى أخرى، كل واحدة تسير بممحاة على أختها.
و"الأستاذ" يداعب أحلامه كل مساء، لتزهر في صباحه، ويحدثني كلما التقينا: لا تقلق.. سأقود دفة "الصحيفة" ذات يوم قريب.
وانتظر..، فلا يصح في الآفاق ضوء.
(8)
ولا ينطلق يقيني من مهارته في إدارة العنصر البشري، وقدرته الفائقة على تحريك مكامن الأفكار الخلاقة، من كوني ممتنًا لآخذ بناصيتي إلى عالم الصحافة الجادة، وفقط.
فأنا واحد من مجموعة تلاميذ أمضوا سنوات تحت رئاسته في أقسام مختلفة، وتجارب أخرى، وأشهد أنه واحد من "صنايعية المهنة"، وصناعها المهرة، يتذوق العبارات، ويصوب بصره بعناية تجاه موهوبيها.
(9)
لا شيء يأتي متأخرًا.
فالأستاذ يجلس على مقعد قيادة "بوابة الوفد"، جنبًا إلى جنب مع رفيق دربه الأستاذ "عاطف خليل"، ومن خلفهما أول من علمني فنون الكشف عما ورائيات الخبر "مجدي سلامة".
بهؤلاء يزيح ضوء جديد غبارًا عن المكان، ويهيئ الوجدان.
وأنا الحالم فقط بدخول "الوفد"، أكتب مقالًا ثابتًا، وأقود قسمًا..
وللتجارب أن تفرز نتائجها وقتما تشاء، ولا ينقطع الرجاء.